|
واقع التعليم المزري ووكيل وزارة التربية و التعليم في السودان
|
هلال زاهر الساداتي – مصر
قادتني المصادفة لمشاهدة القناة الفضائية السودانية الحكومية في مساء الأربعاء 21/4/2004 , ووجدت لقاء بين الدكتور عبد اللطيف البوني و الدكتور معتصم عبد الرحيم وكيل وزارة التربية و التعليم , وكان الموضوع عن حال التعليم و بخاصة المدارس الخاصة التي انتشرت بكثرة و صارت مشروعات تجارية للربح و ان كان البعض منها يقدم خدمة تعليمية جيدة و لكن بمصروفات مدرسية باهظة بدءا بالمليون جنيه في العام ولا يقدر علي دفعها الا الموسرين , كما انه توجد هناك ما تسمي المدارس الحكومية النموذجية . و تساءل الدكتور البوني عن التمييز في التعليم , وكان رد الوكيل يفيد بانه بعد تغيير السلم التعليمي الى ثمان سنوات في مرحلة الاساس صارت الحاجة ماسة الي بناء فصول جديدة و مراحيض في كل مدرسة و ان امكانيات الوزارة لا تمكنها من فتح مدارس جديدة و لذلك توسعت الوزارة في منح التراخيص لمن يودون فتح مدارس خاصة و ان بعض الناس يريدون ان يتعلم ابناءهم في مدارس متميزة . و اشار الدكتور البوني الى امكانية الاستفادة من المدارس الحالية لتكون الدراسة علي فترتين بدلا من انشاء مدارس جديدة , وكنت اود لو توسع النقاش الي حال التعليم الآن في السودان منذ ان استولي نظام الجبهة الاسلامية علي الحكم في 30 يونيو 1989 , فقد قاموا بتغيير السلم التعليمي و تغيير الناهج في عجلة دون دراسة وافية او اخضاعها للتجربة و طبعها في كتب مدرسية , و لقد شاهدت ندوة في التلفزيون في عام 2000م تحدث فيها مدير شعبة المناهج بالوزارة و مساعدوه , و اجاب علي سؤال عن السرعة التي عملت بها المقررات و عدم اخضاعها للتجريب قبل طبعها في كتب و ارسالها الي المدارس , اجاب بقوله ان تجريب المناهج قد عفا عليه الزمن و اصبحت المناهج الجديدة تجرب اثناء تدريسها و اترك التعليق علي هذه البدعة التعليمية لموجهي مرحلة الأساس بادارة تعليم الخرطوم لجريدة الرأي الآخر ( العدد 1120 بتاريخ 7 فبراير 2000م ) , فقد ذكروا ان كتاب الصف الثامن لمادة التاريخ و عنوانه ( نحن و العالم المعاصر) اشتمل علي 28 خطأ و جاءت مقررات القرآن الكريم فوق مقدرات التلاميذ و يخشون ان يكون المردود سلبيا فينفر الابناء و يخافون من مادة القرآن الكريم كما حدث في مادتي الرياضيات و الانجليزي . و الجدير بالذكر ان الذي كان يشرف بنفسه علي المناهج الجديدة هو وكيل وزارة التربية و التعليم السابق و الذي صار وزيرا للتربية و التعليم و اصبح الأن وزيرا للثقافة .. و اعرف القارئ الكريم بان المناهج و المقررات الدراسية كانت تعد في معهد التربية ببخت الرضا , و كانت تخضع للتدريس و التجريب بواسطة المدرسين فى مدارس المعهد و مدينة الدويم , و يؤخذ ملاحظات المدرسين عليها فتنقح , ثم تجرب مرة اخرى فى مدارس منتقاة بالعاصمة و تؤخذ ملاحظات وارآء المدرسين عليها , و بعد الاطمئنان على جودتها و خلوها من أى خطأ تطبع فى كتب تتداولها ايدى التلاميذ , و قد كان معهد بخت الرضا _ الذى الغوه وحولوه الى جامعة مثله مثل الجامعات الاخرى _ يختص فى اعداد المناهج و تدريب مدرسى المدارس الابتدائية و المتوسطة و كذلك تدريب المعلمين خريجى الاداب من جامعة الخرطوم على طرق التدريس و ذلك قبل انشاء كلية التربية , و كان يقوم بالتدريس و التدريب فيه مجموعة من خيرة معلمى السودان علما و خبرة اذكر منهم على سبيل المثال الاساتذة جمال محمد احمد و عبد الرحمن على طه و عبد الحليم على طه و الدكتور احمد الطيب و الدكتور عبد الله الطيب و رحمة الله عبد الله و احمد محمد سعد و متوكل احمد امين و مصطفى صالح عبد المجيد و الاساتذة الانجليز الافذاذ مثل المستر هودجكن و المستر برايت , و كانت بخت الرضا مصنعا للمدرسين واكبر معهد تعليمى فى افريقيا و الشرق الاوسط و مستودعا للعلم و المعرفة لاكثر من ستين سنة وكان يقصده للتدريب مدرسون مبتعثين من عدن و اليمن و نيجريا ,و نال خريجوها شهرة لكفاءتهم و تميزهم و اخلاصهم فى دول الخليج والسعوديه , و لمست هذا بنفسى عندما كنت موجها بوزارة المعارف السعودية و كنت اوجه مدرسين من البلاد العربية من سعوديين و مصريين و فلسطنيين و سوريين و تونسيين , كما شهد بذلك موجهو الوزارة السعوديين . و ليعلم الدكتور الوكيل , ان كان لا يعلم و هذه مصيبة كبرى , ان حال التعليم الآن فى السودان حال بائس ! و كيف لا يكون كذلك و فى عهدكم الانقاذى قمتم بفصل و تشريد المدرسين الاكفاء المدربين و هم عماد العملية التعليمية و التربوية , و القليل الذى بقى منهم لا يحصل على راتبه بالشهور و السنين , واصبح التدريس مهنة طاردة و عمل من لا عمل له و صار يدرس لمرحلة الأساس و الثانوي فاقدو اللياقة الطبية من طلاب الشهادة الثانوية المعفيين من التجنيد الالزامي العسكري . و كنا في تعليم الخرطوم حتي اول الثمانينات نحرص علي ان نوازن بين المدرسيين المدربين و غير المدربين اى المدرسيين تحت التمرين Trainees بان نجعل نسبة المدربين خمسين في المائة او اكثر من قوة كل مدرسة أي من هيئة التدريس , و في الثمانينات علمت ان معظم المدارس في العاصمة بها معلم مدرب واحد وهو مدير المدرسة و كل هيئة التدريس من المدرسين تحت التمرين , كما اكتظ الفصل الواحد بالتلاميذ فصار يستوعب ثمانين و مائة تلميذا بعد ان كان اقصي عدد في الفصل الواحد هو خمسة و خمسين تلميذا … كما الغيتم الداخليات فتشرد التلاميذ و اقفلت المدارس في كثير من الولايات كدارفور و كردفان و النيل الأزرق كامثلة , و صارت النسخة الواحدة من الكتاب المدرسي يشترك فيها عشرة تلاميذ , وتصدعت مباني المدارس لانعدام الصيانة , وجلس التلاميذ علي الأرض في بعض مدارس العاصمة القومية لخلو المدارس من الأدراج و الكراسي و الكنبات … و لكل هذا لجأ المقتدرون الي المدارس الخاصة ليتلقي ابناءهم تعليما جيدا , و اما ابناء سواد الشعب السوداني فيتلقون تعليما قاصرا و يتخرجون جهلاء , و اضحت مدارس الدولة مكرسة لتخريج اجيال من الجهلاء ودونكم برامج التلفزيون الثقافية و التى يستفضيف معدوها طلبة الجامعات فتلمسون فيها ضحالة و سطحية معلوماتهم , ودعك عن تلاميذ الاساس الذين لا يحسنون القراءة و الكتابة و هم فى الصف الرابع .
لقد شاء القدر ان يجلس الدكتور الوكيل على كرسى واسع عليه , فقد جلس عليه قبله افذاذ من المعلمين الذين تشبعوا بالعلم و تسلحوا بالخبرة الطويلة الثرة و الخلق الكريم امثال محمد الحسن عبد الله و عبد الحليم على طه و حسن احمد يوسف و محمد التوم التيجانى و عصام حسون و يساعدهم اضراب لهم فى العلم و الفضل من مساعدى الوكيل امثال عز الدين حافظ و الامين كعورة و محمود و احمد نمر .. لقد شاهدت فى التلفاز فى برنامج ( بصراحة ) فى عام 2000م ندوة عن التعليم ضمت الدكتور معتصم و كان يومها المسؤول السياسى للمؤتمر الوطنى فى العاصمة القومية , و بعض موجهى التعليم بمكتب تعليم امدرمان , و تكلم احد الموجهين بصراحة عن معاناتهم فى اداء واجبهم , فالمكتب ليست به عربات و العربة الوحيدة بالمكتب متعطلة لأكثر من سنة بينما موظفو البلدية يركبون احدث العربات , و ان مكتبهم نوافذه محطمة و لما نبهوا المحافظ الى ذلك قاموا بسد النوافذ بالطوب ! و قالوا ان فروقات علاواتهم لم يصرفوها لهم و قاموا بشراء موبيلات بها وزعوها على المحظوظين من موظفى البلدية , وقال الموجهون انهم يرون الاموال تجىء بالكراتين الى البلدية من الجبايات و لايدرون اين تذهب هذه الاموال .. و قال ممثل السلطة الدكتور معتصم ردا عليهم ان من يرضى بهذا الحال يجدر ان يمسك به من اذنه و يشد ! و استغربت ان يصدر هذا القول السوقي من رجل يمثل السلطة و دكتور مخاطبا اساتذة موجهين و يجوز ان يكون قد تتلمذ علي يد واحد منهم , ومن يومها غلب علي ظني ان الرجل وعر العبارة و انه خاوي الوفاض من اللباقة و اللياقة و لا اقول (القلم ما بزيل بلم) , و لنرجع الي ما قاله الدكتور الوكيل عن تكلفة الفصول الدراسية الاضافية و المراحيض , و احيل ذاكرته الي تطبيق السلم التعليمي الاول ذي الست سنوات في عهد الدكتاتور جعفر نميري عندما كان انقلابه في اول عهده , فقد شيدت الفصول الجديدة و المدارس الجديدة بالعون الذاتي و تسابق الشعب المعطاء في جميع انحاء السودان لجمع الاموال و مواد البناء للتشييد . و اعود بالدكتور الي العهد الوطني و محاربة الاستعمار عندما تبني مؤتمر الخريجين يوم التعليم في كل عام و كانت تجمع فيه التبرعات من الشعب و بحصيلتها فتحت المدارس الاهلية في جميع انحاء السودان و بلغ ما فتح منها في وقت وجيز اضعاف ما فتحه الاستعمار في خمسين سنة , ولم تكن المدارس الاهلية تفتح للتجارة كالحوانيت , و كان عليها اشراف مالي و فني من الوزارة , و كانت المصروفات المدرسية محددة , وشئ آخر مهم وهو ان التعليم الحكومى كان متميزا فى جميع مدارسه بلا استثناء و حتى المدارس الاهلية كانت متميزة و لقد عاصرت العمل فى كليهما , اى ان التعليم الجيد كان متاحا لكل افراد الشعب غنيهم و فقيرهم دون تمييز .. اما قول الدكتور الوكيل للدكتور البونى عن الاشتراكية و تشبيهه له بابى ذر الغفارى فى لهجة ساخرة و ضحكة ارادها ان تكون دعابة , و لكن يا دكتور ماله ابوذر ومالها الاشتراكية ؟! لقد كان ابو ذر الصحابى الجليل زاهدا جاهد ليكون المال مشاعا بين عامة المسلمين و ليس دولة بين اغنياء بنى امية و ان لا تكون المناصب حكرا عليهم وهو القائل : اعجب ممن لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس بسيفه , و دفع ثمن تبتله و نقائه نفيه و موته وحيدا فى العراء , و انتم اهل الجبهة الاسلامية اردتم المال و السلطة تماما كبنى امية و باسم الدين , فاذن لا عجب ان جعلتم التعليم المتميز و المدارس المتميزة للاغنياء , و صار التعليم تجارة رابحة , ولا عجب ثانية فقد تاجرتم بالدين فى السياسة و فى جلب المنافع و الثروات لذواتكم , وليس هذا الكلام من عندى و لكنه كلام شيخكم و زعيمكم السابق الدكتور حسن الترابى الذى علمكم السحر فانقلب سحره و حواريوه الذين هم انتم عليه !! فقد احتلتم بالدين لتستحوذوا على الدنيا , و يبقى التعليم جزءا من منظومة التدهور العام فى الاقتصاد و الصحة و الخدمات و فى اغلاها و هى الاخلاق فى عهدكم .. و اذا احتججتم بضيق الموارد لتحسين التعليم او التوسع فيه فدونكم تجربة جمع التبرعات من الشعب ايام مؤتمر الخريجين و السلم التعليمى السداسى , و ايسر من ذلك كله تحويل الضرائب المباشرة و الجبايات الكثيرة المتعددة التى لم تستثنوا منها حتى النساء المسكينات من بائعات الشاى و الكسرة اللاتى يعلن صغارهن بشرف , هذه الاموال الطائلة التى لا تعرف مصارفها و التى تنفق و تستسلم بدون مستندات . اقول ان بعض هذه الاموال كفيلة بحل جميع مشاكل التعليم , و لكن لا نريده توسعا فى كثرة المدارس فليست العبرة بالكثرة بل بالكيف و نوع التعليم و الا انها ستكون كثرة كغثاء السيل ! و منذ تطبيقكم لسياسة التمكين و تشريد العاملين للصالح العام , و احلال كوادركم مكان ابناء الشعب الاخرين , و احلال اصحاب الولاء محلهم , ووضع الرجل غير المناسب فى المكان غير المناسب , حلت الكوارث بكل شىء فى السودان , لأنه ليس الحكم بالالقاب الاكاديمية , و لكن بالادارة الرشيدة و الرأى السديد و الضمير السليم و الامانة الخلقية , وليس الحكم لمن يرى المنصب فرصة ذهبية له للاثراء و الفوز بالامتيازات لنفسه و اهله و محاسبيه .. و يتساءل المرء , من اين و كيف اتيتم بهذه الالقاب العلمية , بل كيف حصلتم على تعليمكم فى مراحله المختلفة ؟ اليس ذلك من مال هذا الشعب الفقير , و كلكم جئتم من عائلات تنتمى اليه و ترعرعتم فى الداخليات المدرسية الحكومية , ثم ابتعثتم لاحقا الى امريكا و المملكة المتحدة ؟! فهلا رددتم شيئا من الجميل لهذا الشعب الفقير بدلا من انحيازكم لطبقة اثرت فى زمنكم الكارثى ؟!!
حقا , اننا لا نحصل على ماء صاف من مستنقع آسن !!
هلال زاهر الساداتى
[email protected]
|
|
|
|
|
|