لندن تدور تحليلات محمومة في صحف الغرب حول تشخيص حال الولايات المتحدة الأمريكية الحالي وتداعيات الثورية الإنقسامية والمتمردة على النظام العالمي الحالي (الجديد سابقاً) في داخلها حول التأثير على مواقع القوى في العالم وتحريك توازنها الذي لا شك سيتمخض منه نظام عالمي جديد. وترى كل التكتلات المؤثرة ومراكز القوى تحسب حساباتها فيما تتمكن فيه من تأثيرات تبادر بها لتصيب بها رؤاها في التوازن الجديد. ومشارف الرؤيا تشير إلى أن المحرك الفاعل المتوقع للتحرك حسب دفعه، والمنظور لميلاد نظام عالمي أكثر فعالية وترجمة لغايات البشر وتجاوباً مع نضوج عقلانيته في جدوى مساعيه، أن ذلك المحرك الفاعل هو الوعي الصامت .... هؤلاء الصامتون الذين تحركوا كمارد قد استيقظ فأذهل العالم بقواه وحتى نستطيع أن نكون واقعيين وليس موهومين كما بدا ظاهراً بين الحابل والنابل اليوم، علينا أن نفكر ملياً: الصامتون كُثرٌ، فأين أثر أيِّ من الصامتين، ومن هم؟ إن الحدث الداوي بفوز الرئيس دونالد ترامب بأقوى منصب في العالم، مكلل بالسلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية، منحه سلطة مطلقة، وبات في مصاف الأباطرة يحدث ذلك من مخاض نظام عالمي نشأ من عهد التنوير والذي ملخص معطياته هو فصل سلطة العقل من سلطة الضمير في دوريهما في أداء الواجب، أي الفصل بين السياسة والدين، وإنهاء الإسترقاق مع ترسيخ حقوق الإنسان، وتحريم التوسعية والتمدد الإقليمي، وتأسيس مرجعية حوار وتحكيم (الأمم المتحدة والمحكمة الدولية)، كنواةٍ لتطوير سلام عالمي وتوسيع الأرضية المشتركة بين كل البشر، والتي هي المعامل اللازم لتنقية الديمقراطية من عوالق تضاربات شرعية التمثيل، والذي سأتناوله في المثال الحي لانتخابات الولايات المتحدة لهذا العام، وهي – الأرضية المشتركة بين البشر – والتي هي القالب الذي تشكلت عليه العولمة . ورغم أنه كان متوقعاً أن تتبع مخاض التنوير ذاك كثيرٌ من الخلافات والإحتكاكات والتشكيك في النزاهة يقود لنزاعٍ سام، بل للسطو والتحرش، إلا أن نزعات الثأر الديني والعرقي اللذين زكاهما النظام العالمي القديم من سموم الحروب التوسعية والحروب الصليبية. وكانت هذه الأخيرة وحروب الإبادات، والمآسي الاجتماعية التي لفظها الرق، كانت أزعفها سماً وأزكاها ناراً وفي النظام العالمي الجديد وخلال خمد تلك النزاعات السامة وتفكيك الإمبراطوريات لإنهاء العهد التوسعي، هدأت الأطماع إلى هدنة كان الوعي الاقتصادي ينمو خلالها وتتشكل معه الأطماع والجشع بأشكالٍ جديدة وانقسمت سلطات النزاع لقطبين تركزا في صراع توزيع الثروة ولكن في هدنةٍ باردة الإنقلاب الداوي ذاك تلقح من اغتصاباتٍ بلغت ذروتها خلال الأعوام القليلة السابقة بانتفاضاتٍ مجهضة وسلب الثروات وزرع الفتن لايقاظ حروب الثأر والخلافات العقائدية، ونما في رحم فضيلة النظام العالمي خلال تلك الهدنة الباردة وفي الانتخابات الأميريكية هذا العام، تركزت السلطات الثلاث مع حزبٍ واحدٍ وهو الجمهوري، ولكن تحت رئيس متمرد على نظام عالمي هو مهندس تلك السلطات، فكيف سيرسو ذلك الإنقلاب، وبسلطة من؟ وهل هي سلطة واحدة أم معامل من سلطتين: الحاكم والمحكوم؟ وإذا كانت السلطة التنفيذية مع الحاكم، والقضائية هي الحَكَم، فكيف سيتصرف الأعيان والأمة الأميريكية بعون السلطة القضائية في التأثير على السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية: هل يمكن دمجهما في نظامٍ جديد (نظام عالمي جديد) للتناسق مع فلسفة الرئيس الجديدة، أم تركهما لصراعٍ في حلبةٍ مفتوحة في ساحة الصراع العالمي بعد فك تلك الهدنة التي كانت تمسكه في سلامٍ إلى حين؟ إن عملية دمجهما في نظام عالمي جديد يتم بتنازلات من الحاكم والحزب الحاكم (الرئيس ومجلسي النواب): إما أن يقبل مجلسا النواب (الكونجرس والسناتو) أن الحزب الذي يمثلانه معزولٌ عن جمهوره الذي سحب ثقته من فلسفة الحزب الثابتة ومنحها لبرنامج الرئيس الإنتخابي، فيتقبّلا تعديل برنامج الحزب وأهدافه، والذي سيكون له أثره في تبلور لتحديث برنامج الحزب المواجه وهو الديمقراطي، وفي إعادة ترسيم العقلية الأميريكية بعد غياب الحزب الجمهوري القديم ببعض المتشتتين من كل الأحزاب، والتي لاشك ستقوم بتسبيب حوصلة من الحزب الجمهوري القديم – والتي سيتبعها صراعٌ مع الجمهوري الوليد غالباً ما يقضي عليها – ولكن بعد أن يخلق إضطراباً في الجمهوري الجديد بما يزيده مناعةً أو يخلق في مفاصله ثغراتٍ وشقوق حسب استيعاب الحزب الجديد لذلك الدرس، ويكون بذلك تمرد على النظام العالمي الجاري فيما يخص حقوق الإنسان والحريات (والتي تعتبر أمريكا نفسها مناراً لها) والتمرد على الحفاظ على الأرضية المشتركة بين المتنازعين والتي تحل محلها اليمينية القومية والتي اندلعت في أوروبا اليوم ويبدأ معها الصراع الدامي مع الكتل العالمية في اندفاعها لتشكيل النظام العالمي الجديد، وفي سلامة كوكب الكرة الأرضية من الدمار الشامل هو الخيار الأوحد للحزب الجمهوري في وضعه الجديد أو أن يقاوم مجلسا النواب الرئيس الجديد وتحديد مساره بالإعتراضات الدستورية، ورغم أن له تأثيره في اختيار أعضاء المحكمة العليا، وهي الحكم في مثل ذلك الصراع، فمن غير المتوقع أن تنكص المحكمة العليا عهود الآباء المؤسسين للدولة الأميريكية من أجل مكاسب سياسية لا تخصها وهي كذلك تعلم عدم قدرة تلك المكاسب على الوقوف لوحدها. وتترك المؤسسات الدستورية الأميريكية العراك الخارجي في النظام العالمي الجديد للرئيس الجديد لتكبل خطواته وتكتم أنفاسه وهو تحت ضغط وحرب الدول المتضررة من أذاه مثل الصين في حربه التجارية معها، ومثل المكسيك والتي تساندها كندا في محنتها ودول الجنوب اللاتيني، ومن انتقام الدول منه في موقفه العدائي بالحكم بالإعدام على معاهدات حماية البيئة اتي اتفق حولها العالم بعد عذابٍ طويل والذي يعتبر الطامة الكبرى، وبإحكام قبضته على اتفاقية شمال الأطلسي حتى تدفع الدول الأوروبية نصيبها كاملاً في الدفاع المشترك، والذي لم يعارضه الأوروبيون حسب تعليقاتهم ولكنهم أبدوا امتعاضهم فهم يعلمون لماذا كانوا لا يقابلون تلك التكلفات لعلمهم بأن مهام دفاعات الأطلسي أساسها كانت تكليفات لمساندة لأمريكا أكثر منها لحماية لنفسها عن طريق أمريكا، لمساندة أمريكا في تحرشاتها بروسيا وتحرشات روسيا بها لصراعهما في قيادة العالم، والذي تعتقد روسيا والبيوتات السياسية العالمية أنها تثيرها سياسات أمريكا التدخلية التي تنجم معها الصراعات الإقليمية، وتبنيها لإسرائيل لتوكل إليها أدوار مهمة في زعزعة التعايش السلمي لإعادة رسم العالم الجديد وتفكيك العالم القديم حسب رؤاها هي وحدها وهنا تجد روسيا الفرصة الذهبية التي يبدو أن توجه الرئيس ترامب قد يزيل كابوسها أو يحقق حلمها والرئيس ترامب في تلك المعركة يقامر بسندٍ اختاره بمكرٍ شديد وهو سند الكم الهائل من المواطنين الريفيين البيض غير المثقفين والإنعزاليين، والذين كانوا نواة الإنعزالية التي نادى لها "ثوماس بين" في كتابه "الفطرة السليمة" والتي تبعها الآباء حتي القرن الماضي بمفارقتها في ظروفٍ محددة، ثم مفارقتها نهائياً عند الحرب العالمية الثانية وأسست عندها الأمم المتحدة هؤلاء الريفيون لم يختلطوا كثيراً بالعالم حولهم للتشرب بمشاربه الحضارية وتقريب وجهات النظرفيه، وبذلك لازالوا في دائرة النظام العالمي القديم، مشربين بالعنصرية (التطرف القومي والعنصري)، وتراث الهيمنة الرجولية، والعقيدة الدينية القوية من لدى الحجاج الأول (وهو إسم المتدينين الأول الذي نزحوا لأمريكا في سعيٍ ليغبِّروا أرجلهم في سبيل الرب) – والتي تغلب عليها العقيدة البروتستانية وفي حاجته الماسة للسند إختار أيضاً السهول التي كانت مقراً لصناعاتٍ عدة مثل الدباغة (والتي آلت للمكسيك)، والتنجيم عن الفحم وصناعة الحديد، واللذان انعشا الحركة العمالية هناك ومكّنا ترسيخ قواعد الحزب الديمقراطي بهما، حتى اندثرا بسبب الثورة الصناعية في الصين والإلتزام الدولي ببيئة الكوكب، وكلها من صفات الإنعزالية التي كانت قد اندثرت كسياسة للولايات المتحدة، ولكن عودتها ثانيةً بسياسة ترامب الجديدة بعثت الأمل وعودة وحدة الهدف بينها وبين غريمها الذي فارقت من المجتمع الريفي سيجعل عراكه مع النظام عبارة عن حرب أهلية وانشقاق حاد في الدولة الأميريكية، ولا يحتاج لروسيا لمواجهة عنه، رغم أنها لاشك مدته وستمده بالدعم اللوجستي والمعلوماتي الهام جداً، وتسخره لتحريك المخزون الأوروبي من السخط اليميني والتشرب الإشتراكي لرسم هيكل جديد فعال لتحريك أوروبا لتشكيل النظام العالمي الجديد بما يناسبها هي ويحفزها على تشجيع أمريكا للإنعزال مرةً أخرى ولكن تحت ضمانات حمايتها من مناوشات الغير بنظام عالمي لسلامٍ يتفرغ للعيب الوحيد الباقي: وهو محاربة التطرف الديني وسيكون أمام أوروبا والعالم خياراتٍ جديدة في العدالة الاجتماعية ربما هي من مزاوجاتٍ بين الإشتراكية والرأسمالية بعد انهيار البيوتات والمؤسسات التجارية الهائلة والسيطرة الفاحشة بعد أن تأسس نظام رهن البيوتات المالية في مغامراتها بتحكم القوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة