أقصد بالوصفة الحمدية السياسات التى يقترحها السيد/ عبدالرحيم حمدى الوزير الأسبق للمالية والاقتصاد السودانى والتى قال بها قبل أيام فى الندوة التى أقامها مركز التنوير المعرفى تحت عنوان " الجنيه السودانى الى أين ؟ " وهى نفس الأفكار التى قالها فى مقالاته التى نشرت فى جريدة التغيير قرب نهاية العام 2013 تحت عنوان "بين يدى المؤتمر الاقتصادى" . ويحمد للسيد/ عبدالرحيم حمدى التعبير عن أفكاره وآرائه على الملأ بجرأة وصراحة وعدم دغمسة.وهذا ما نحتاجه فى السودان من أجل تناول تحديات الواقع البائس الذى نعيشه. ما هو توصيفه ؟ يقول حمدى ان الاقتصاد السودانى يعانى من فجوة موارد داخلية وفجوة موارد خارجية كما يعانى من ركود تضخمى ناتج عن السياسة الانكماشية المالية والنقدية المتبعة من قبل الحكومة ويقول السيد عبدالرحيم حمدى ان المطلوب عمله هو : اولا برنامج معالجة يوفر فورا موارد هائلة وسريعة محلية وأجنبية. وثانيا تعديل جذرى للسياسات المالية والنقدية الانكماشية يكون هدفه تحفيز النمو المؤدى لزيادة الانتاج (الحل المفتاحى). وثالثا ترتيب الأولويات بالارجاء والتقديم مثلا ارجاء دفع الديون القديمة وتنفيذ المشاريع الكبيرة وتقديم تسديد القروض الجديدة و تنفيذ المشاريع التى تساعد على تخفيض الاسعار وتحريك جمود الركود الحالى الخ ورابعا تجنب اثارة المشاكل مثل زيادة الضرائب ورفع الدعم وتخفيض الصرف الحكومى على جهاز الدولة المدنى والعسكرى. واتخاذ اجراءات حاسمة وسريعة بدل الاسترخاء والتأجيل والابتعاد عن التدرج والتراخى وتجزئة الحلول لانها سوف تهزم الهدف. ويقترح السيد عبدالرحيم حمدى سياسات محددة للتحول من السياسة الانكماشية الى سياسة توسعية عن طريق : اولا التوسع الكبير جدا فى اقتراض الحكومة من البنك المركزى (طباعة العملة). وثانيا التوسع الكبير جدا فى اقتراض الحكومة من الجمهور ومن البنوك برفع نسبة توظيف الاموال فى شهادة شهامة المسموح بها للبنوك التجارية من 20% الى 30% ورفع معدل أرباح شهامة الى ما لا يقل عن 22% . وثالثا تخفيض الاحتياطى النقدى للمصارف من 18% من رصيد الودائع تحت الطلب الى 8% فقط. ورابعاً تحرير سعر الصرف لكل المعاملات والاحتفاظ بسعر صرف منخفض لمعاملات الديون. وخامساً شن حملة لاستعادة الثقة فى الاقتصاد السودانى واستعادة ثقة المانحين. نعم للتحرير الكامل لسعر الصرف: اتفق مع السيد حمدى فى دعوته لتحرير سعر صرف العملة السودانية تحريرا كاملا وبدون الاحتفاظ بسعر رسمى منخفض لأن ذلك هو رأيى الذى كتبته فى أكثر من مقالة قلت فيها إننا لا نستطيع فى السودان تثبيت سعر صرف الجنيه لعجزنا الكامل عن استيفاء مطلوبات تثبيت او توتيد سعر صرف الجنيه و تلك المطلوبات هى أولاً المحافظة على استقرار القيمة الشرائية للجنيه السودانى و الحيلولة دون تآكلها بسبب الارتفاع المتواصل لاسعار السلع والخدمات الناتج عن زيادة حجم الكتلة النقدية بمعدلات عالية سنويا فمثلا ارتفعت اسعار السلع والخدمات بنسبة (18.9)% فى 2011 وبنسبة (%(40.2 فى 2012 و(13.3)% فى 2013 و (17)% فى 2014 و (20.5)% فى 2015 فى الوقت الذى إرتفع فيه الناتج المحلى الإجمالى بنسبة ( 1.9)% فقط فى 2011 و ( 1.4)% فقط فى 2012 و ( 4.4)% فى 2013 و ( 2.7)% فى 2014 و ( 4.9)% فى 2015 . و ثانياً لا نملك فى السودان تدفقات داخلية للعملات الصعبة كافية و مستمرة مثل إخواننا فى دول الخليج العربية لاستيراد السلع والخدمات من الخارج وتحويل الارباح والدراسة بالخارج والسفر للعلاج والسياحة وغيرها. فهناك فجوة كبيرة جدا بين الطلب على الدولار والمتاح من حصيلة الصادرات والمنح والقروض وتحاويل السودانيين العاملين بالخارج الخ ولذلك فان السياسة المناسبة لوضعنا فى السودان هى التحرير الكامل لسعر الصرف وليس الوضع الحالى حيث توجد سوق حرة هى السوق الموازية وسوق رسمية يحدد فيها سعر الصرف بقرار ادارى وتباع فيها الدولارات التى تحصل عليها الحكومة من تصدير البترول والذهب ومن المنح والقروض وغيرها تباع الى سعداء الحظ (المحاظيظ) بالسعر الرسمى الذى يقل اليوم عن نصف سعر الدولار فى السوق. هل هى فعلاً انكماشية ؟ قلت اعلاه ان السيد عبدالرحيم حمدى يقول ان السودان يعانى من ركود تضخمى ناتج عن السياسة الانكماشية المالية والنقدية.ولكن ماذا يعنى ذلك وهل صحيح ان هناك سياسة انكماشية ؟ يعنى الركود ثبات المتغيرات الاقتصادية الاساسية وهى الانتاج والاستهلاك والاستثمار وعدم تحركها بالارتفاع.وتعنى السياسة الانكماشية السياسة التى ترمى الى تخفيض الانفاق الكلى الحكومى والخاص على الاستهلاك النهائى final consumption وعلى التشغيل والاستثمار ويكون ذلك بعدة طرق مالية و نقدية.وتكون السياسة المالية الانكماشية عن طريق تخفيض الانفاق الحكومى او تخفيض الانفاق الخاص بزيادة الضرائب وحبس الايرادات وعدم انفاقها او عن طريق السياسة النقدية بتقليص حجم الكتلة النقدية عن طريق اصدار الاوراق المالية الحكومية مثل شهادة وحبس حصيلة البيع وعدم صرفها او رفع معدلات الفائدة على القروض او رفع نسبة الاحتياطى النقدى لدى المصارف.ولكن ما يحدث فى السودان يناقض تماماً ما يقوله السيد حمدى. لم تعمل حكومة السودان على تخفيض انفاقها ولم تعمل لتخفيض الانفاق الخاص عن طريق زيادة معدلات الضرائب وحبس حصيلة الايرادات ولم تعمل الحكومة على تقليص حجم الكتلة النقدية بل العكس هو الصحيح فقد ارتفع حجم الكتلة النقدية خلال السنوات العشر الاخيرة من (14) مليار جنيه فى بداية 2006 ارتفع الى حوالى (94)مليار جنيه فى نهاية 2015.اى ارتفع بنسبة (567)% وبلغ متوسط الزيادة السنوية فى حجم الكتلة ( 56.7)% .فأين هى السياسة الانكماشية التى يتحدث عنها السيد عبد الرحيم حمدى ؟ ان الذى حدث فى السودان افراط غير مسؤول فى الاعتماد على طباعة العملة لتمويل صرف الحكومة بدل زيادة ايرادات الحكومة عن طريق الاجتهاد فى تطبيق القوانين الخاصة بالضرائب على الدخول ولكن السيد حمدى يرفض ذلك. أطبع واطبع واطبع وأصرف : يرفض السيد حمدى زيادة الضرائب ويرفض رفع الدعم ويرفض تخفيض الصرف الحكومى على جهاز الدولة المدنى والعسكرى وينادى بالتوسع الكبير جدا فى الاستدانة من البنك المركزى أو طباعة العملة.كما ينادى بالتوسع الكبير جدا فى الاستدانة من القطاع الخاص عن طريق اصدار شهادات شهامة.ولا جديد فى وصفة السيد حمدى فأن الذى ينادى به هو السياسة المتبعة اليوم والتى أوصلت الاقتصاد السودانى الى حافة الهاوية.ولكن السيد عبد الرحيم حمدى يناقض نفسه عندما يرفض زيادة الضرائب وينادى فى نفس الوقت بزيادة الكتلة النقدية وقد برهنت تجربة السودان وغير السودان ان زيادة الكتلة النقدية تؤدى الى زيادة الاسعار وتآكل القيمة الشرائية للنقود و إفقار أصحاب الدخول الثابتة وهم كل العاملين بأجور مثل الجنود والضباط والعمال والموظفين وأساتذة الجامعات وباختصار كل المأجورين الذين لا يستطيعون زيادة دخولهم عندما ترتفع الاسعار.ويعرف تلاميذ الاقتصاد ان تمويل صرف الحكومة عن طريق طباعة العملة يسمى بضريبة التضخم inflation tax وهى ضريبة يتحملها البسطاء والفقراء وليس الأغنياء. الاستدانة من البنوك : ينادى السيد حمدى بالتوسع الكبير فى اصدار شهادات شهامة التى وصل حجمها فى نهاية العام 2015 وحسب ما جاء فى تقرير بنك السودان المركزى لعام 2015,وصل الى (18.4) مليار جنيه سودانى تستحوذ البنوك على (49.8) % منها وهذا يعنى ان الحكومة قد استولت على اموال البنوك المتاحة لمنح القروض وحرمت القطاع الخاص من التمويل و تركته يجأر بالشكوى ولكن السيد حمدى ينادى بأن يسمح للبنوك بأن توظف المزيد من أموالها فى شهادة شهامة. كيف تستعيد ثقة المانحين ؟ ينادى السيد حمدى بشن حملة لاستعادة ثقة المانحين ولا أدرى كيف يريد ان يفعل ذلك وهو ينادى بعدم تسديد الديون القديمة وينادى بالاخذ بسياسات تعتبر فى نظر المانحين سياسات غير مسؤولة وغير انسانية وأعنى بها تمويل صرف الحكومة عن طريق طباعة العملة بدل زيادة الايرادات الضريبية وتعطيش وتفطيس القطاع الخاص بدل تشجيعه على التشغيل والاستثمار ورفض تخفيض انفاق الحكومة ورفض تحويل دعم الإستهلاك إلى الإستثمار فى التعليم و العلاج و البنيات التحتية. وصفة مجربة وفاشلة وظالمة: جرب السودان البرامج قصيرة المدى وجرب السياسات التى ينادى بها حمدى وهى التوسع الكبير جدا فى الاستدانة من البنك المركزى (طباعة العملة) ومن البنوك (شهادات شهامة) ولم تجلب تلك السياسات غير الغلاء الفاحش وافقار اغلبية الشعب السودانى وتفشى البطالة وركود النشاط الاقتصادى وتوقف أغلبية المصانع عن الانتاج و الإنهيار شبه الكامل للتعليم و العلاج .ولذلك فأن المطلوب اليوم فى اعتقادى رؤية واضحة وسياسات نقيضة و مخالفة تماماً لما ينادى به السيد عبدالرحيم حمدى . يجب ان تكون رؤيتنا او مقصدنا الاساسى الذى نريد الوصول اليه هو محاربة الفقر والقضاء عليه عن طريق أولا تطويق ارتفاع الاسعار لحماية الدخول من المزيد من التآكل والانهيار ويكون ذلك بالتوقف الكامل عن طباعة العملة لتمويل صرف الحكومة وثانيا توفير فرص العمل وثالثا تحريك القطاع الخاص. و أن يكون كل ذلك على ضوء منظور كلى طويل المدى متفق عليه بين كل القوى السياسية و الاجتماعية السودانية.و لأنه لا توجد حلول سهلة و سريعة العائد نحتاج لعمل سياسى كبير وإجراءات عملية لاقناع المواطنين السودانيين بعدالة السياسات التى سوف تأخذ بها الحكومة لان المواطن السودانى لن يقبل بأن يضحى هو فى الوقت الذى يسبح فيه شخص آخرفى المال والجاه ورغد العيش . و نحتاج لبذل مجهود كبير و صادق و بدون مكابرة لتحسين علاقاتنا السياسية المتوترة مع القوى الكبيرة التى تدير العالم اليوم رغم أنفنا و تخنقنا و تقطع نفسنا بالمقاطعة الإقتصادية.وسوف أتناول فى مقال قادم باذن الله السياسات المطلوبة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة