|
هل من سبيل للتقعيد الجمعي لمقاصد الشرع (2) بقلم عبد المؤمن إبرهيم أحمد
|
الدين والأمر الإلهي والحكمة الإلهية والصراط المستقيم والعروة الوثقى هي كالنهر الجاري النازل من اعالي السموات إلى الارض يحمل ماء الحياة. والشريعة موقع وطريق يوصل إلى ذلك النهر. كلما كان الناس بعيدين عن ذلك النهر كان طريق ورودهم طويلا وكلما كانوا قريبين من النهر كان طريق ورودهم قصيرا. والعناية الإلهية تعمل على نقل الناس من الاماكن البعيدة عن ذلك النهر للاماكن القريبة. لذلك نجد ان اول امر الدين ولو كانت فيه المشقة إنما الغاية منه اليسر والدين في جملته يسير من العسر لليسر. ولأن الإنسان بعد خروجه من الجنة صار بعيداً عن مورد الماء الإلهي لذلك نجد المشقة العظيمة والعسر في الشريعة الموسوية بينما نلاحظ انه عند ظهور الإسلام صار الإنسان اكثر قرباً من مورد الماء الإلهي بسبب عمل اليهودية والمسيحية لذلك كانت شريعة الإسلام أكثر سماحة ويسرا. وكلما تقدم الزمان صار البشر اكثر قرباً من مورد الماء الإلهي تحقيقاً لقوله تعالى "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". الأمر الذي يتفق عليه الجميع هو أن حياة الإنسان في تطور مستمر. لا يغالط في ذلك مغالط ولا يماري فيه احدا. الإنسانية كلها تقودها يد العناية الإلهية من مقام اسفل سافلين إلى مقام أحسن تقويم. قال ابو بكر بن العربي في تفسير قوله تعالى "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)" التين: "ليس لله تعالى خليفة هو أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً، سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الرب" (ابن العربي - احكام القرءان 4/415)، وفي إطار تحقيق ذلك نزلت الكتب السماوية والشرائع من شريعة آدم فنوح فإبراهيم ثم شريعة موسى وعيسى ومحمد (ص). ولا زالت البشرية تسير إلى الأمام، بالذات في القرون الثلاثة الاخيرة التي قفزت فيها البشرية قفزة عظيمة لم يسبق لها مثيل. ولا زال لدى البشرية مشوار طويل عليها ان تمشيه قبل ان تنجز الحد الأدنى من مراد الله من الإنسان والأكوان (تحقيق مقام آدم الخليفة). وقد بذلت الأديان جهداً كبيراً في تطوير البشر وتنميتهم روحياً عن طريق التزكية. يقول محمد الطاهر بن عاشور: "التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء. وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات تعترضها ارجاس ناشئة عن ضلال وتضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها" (ابن عاشور - التحرير والتنوير 2/49). وهذا ما عنته الآية: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)" البقرة. وقوله: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)" البقرة. ولكن علماء الإسلام والمسيحية لم يوفقوا في تقديم اطروحات تواكب ذلك التطور. فالمسيحية بحكم عقيدتها ومحتوى الإنجيل لا تمتلك الأدوات العملية الجمعية لإسعاف حياة الناس الظاهرية بالرغم من القوة الروحية الكبيرة الكامنة في مبادئها. والإسلام بحكم عقيدته ومحتوى القرءان يمتلك أدوات عقلية وفكرية جيدة ولكن اهل الإسلام مشدودون نحو الماضي (الذي هو واقع الأمس)، ومشدودون نحو الظاهر ومشغولون عن بواطن الأمور وعن الواقع اليوم، وعاجزون عن تقديم طرح جديد وحديث وثوري لإنسان القرن العشرين. فهم متمسكون بقشور الدين وظاهر النصوص. وعامتهم محتارون في النصوص التي ما عاد فهمها القديم يواكب العصر الحديث. كذلك الكثيرون غير مهتمين بالتمييز المنهجي بين الكتاب والحكمة وبين الغاية والوسيلة وبين الأصول والفروع وحتى بين القرءان والسنة. هم في حاجة لإعادة قراءة القرءان وكأنه نزل بالأمس بروح جديدة وعقل مستنير وقلب متواضع مليء بالحب والخير للناس اجمعين. وقراءة القرءان وكأنه نزل بالأمس لا تعني تجاهل البنيان التاريخي وإنما تعني تتبع مركزية البناء التاريخي، وإبعاد الأفكار والإجتهادات الموقوتة الهامشية، وتحليله والإستعانة به في فهم جديد للقرءان. القوانين الوضعية يتم تعديلها وتطويرها حسب حاجة الناس وحسب اوضاع المجتمع. الشريعة بالرغم من انها لا تتطور في النصوص لكنها تتطور بفهم النصوص وتتطور بالإنتقال من نص رباني إلى نص آخر رباني وتتطور في وسائل التطبيق، من اجل مصلحة الإنسان ومن اجل ان تحقق قيم الدين اقصى قدر من الفائدة. فالشريعة نزلت من اجل الإنسان وليس الإنسان من اجل الشريعة. يتجدد فهم الشريعة على حسب حاجة الناس. فإصلاح حال الإنسان غاية، والشريعة وسيلة لذلك والله اعلم.
كلام الناس مكتبة بقلم نورالدين مدني
|
|
|
|
|
|