|
هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود
|
mailto:[email protected]@gmail.com لو كنتُ مجلس الوزراء،لأفردتُ جلسة كاملةً لساعتين متتاليتين للبروفسير على عثمان محمد صالح،أو "عم على" عالم الآثار الفذ،والأستاذ الجامعىّ المرموق ليقدّم للوزراء ،وبالتالى الحكومة أجمع،إضاءات مهمة تسندُ إستخطاطها – كما يقول كمال أبو ديب،وهو يعنى الإستراتيجية – للعشرين سنةً القادمات.فما هو ذلك الشيئ المهم ،الأثرىّ،الذى سيضع الحكومة والسودان أجمع فى طريقه الصحيح؟؟ من الواضح أنّ حزمة من المعارف الأساسيّة ظلّتْ غائبة عن السودانيين،أسّستْ لربكةٍ كبرى، وركاكةٍ بالغة فى توجيه دفّة مركبهم.غير أنّهم غير ملومين – بشكلٍ مؤكّد – فى إرتكاب ذلك الجهل، إذْ لم يكنْ متعمّداً.فالثابت أنّ الأميّة الشائعة حالت دون تطوير معارفهم،لإسترداد فعلهم الحضارىّ ،وقد كانوا مركزاً مهمّاً للفعل الحضارىّ ،حتى بُعيدَ الإسلام. أزاح البروف على عثمان الستار عن مدينة أثرية مهمة. حوالى 15 كيلومتراً شمال "جبل أم على" فى ولاية نهر النيل، أسماها "مدينة عيزانا". وعيزانا هو أحد أهم حكام إثيوبيا فى القرن الرابع الميلادى.وربّما كان هو الذى حوّل إثيوبيا إلى المسيحية.وقد غزا مملكة مروى،وتغلّب عليها وحكمها لما يزيد عن الأربعمائة عام.وهو الذى ظلّ الدكتور جعفر ميرغنى ، مدير معهد حضارة السودان،ينفى وجوده،وتأريخه فى السودان،مرجّحاً أنّه محض أسطورة.لكنّ مسلّة أكسوم فى إثيوبيا تؤكّد أنّ عيزانا قهر مروى وحكم أهلها،وبنى مدينة شامخة،حصينة وسط الجبال شمال عاصمة مروى "البجراوية" وأنّه أودعها أسرار غريبة.لكنّ أحداً من الرحالة أو المؤرخين لم يستطع أنْ يكتشف المدينة المسيحية القديمة،هذه.جميعهم سواء العرب أو الأعاجم الأوربيين.وقد ظلّ المؤرخون والآثاريون السودانيون يطرقون سيرتها،بحذر شديد.لكن ماذا تضيف مدينة أثرية بُنيتْ حوالى عام 350م للمعارف السودانية ،وكيف يمكنها أنْ تعيد ترقيع النسق الحضارى ،وتجيب عن أسئلة الهوية وتسهم فى التخطيط لمستقبل السودان؟ لماذا هى على تلك الدرجة من الأهميّة؟؟ ثّمة رؤية عميقة جداً يعالج من خلالها "عم على" – البروف – موضوعة العلاقات الخارجية. إذْ لم يكن السودان يوماً عمقاً لمصر،بقدرما كان مركزاً حضاريّاً قائماً بذاته،صانعاً ومنتجاً لمقولاته الأساسيّة.فضلاً عن أنّه كان أصيلاً فيما يصدر عنه.وقد بدأتْ أصواتٌ عالمةٌ مصريّة تتحدّث عن أنّ الحضارة هى أصلاً حضارة نوبيّة فى المقام الأوّل،هى التى مدّتْ ظلّها المتفرّد – بجسارة – على مصر.وهى رؤية تذهب إلى أنّ السودان كان ظهراً لإثيوبيا،وربّما متداخل متكاملٌ معها إلى حدّ بعيد.ذلك أنّ الدوافع التى حدتْ بعيزانا لغزو السودان ،واستمراره فى حكمه 400 سنة،هى دوافع خلاّقة للسيطرة على المركز الحضارىّ ومدّ جسور التواصل "الرّحمىّ" الحضارى القديم .وبالتالى يمكن إعادة فهم تاريخ العنج،والتأريخ الوسيط من خلال هذا الكشف المهم.لكنّ الجوهرىّ أيضاً فى هذا الكشف هو أنّه خوّل للبروف ولعلماء الآثار والمؤرخين والأنثربولوجيين تعضيد نظريات البروفسير عبد الله الطيب ،والبروفسير حسن الفاتح قريب الله حول هجرة الصحابة الأوائل ،وهجرة جعفر بن أبى طالب إلى الحبشة،بالدلائل المادية التى لا يرقى إليها الشك،بأنّها كانت إلى السودان ،وليس إثيوبيا.وأنّ النجاشىّ كان حاكم هذه المدينة،شمال "جبل أم علىّ"،ولم يكن نجاشيّا فى إثيوبيا.وهو باب يفتح كوّةً مهمة حول التأريخ المشترك لشبه الجزيرة العربية "السعودية" واليمن وإثيوبيا والسودان، ليتيح تقييم دور البحر الأحمر ودور البجا،وسكّان شرق السودان فى الإسهام الحضارىّ فى فترات مهمة . لم تكن الجغرافيا هى الجغرافيا،قطعاً.ولم يكن النيل والأودية والخيران،على ما هى عليه اليوم.وبالتالى لم تكن المنطقة الراهنة ،"جبل أم على" وما حولها من قرى ومدن هى هذه.وعليه فلا معنىً لمقاربة التأريخ وفقاً لنهر النيل الحالية،ولا شمال كردفان،التى ستلعب هى الأخرى، دوراً مهماً فى فهم علاقات مروى تلك،وعلاقات الحبشة،إثيوبيا الحالية،وشرق السودان،بشبه الجزيرة العربية واليمن،حتى يتمّ ربط الهجرتين بالمنطقة.غير أنّ ذلك ليس محض تبذير بحثىّ موغل فى فرضياته.وإنّما يلقى بضوء ساطع، كاشف لفهم علاقات الحاضر والمستقبل.يسير "عم على" غرباً ليؤسّس لعلاقات لاحقةٍ أصيلة تربط طريق الحج الإفريقىّ بالمنطقة وتأثيراته أيضاً الثقافية،العرقية،السياسية وغيرها.إذْ ليس من قبيل الصدفة أنْ تكون للمنقطة صلاتٌ ضاربة فى العمق بغرب إفريقيا،حتّى بلاد السنغال.وليس من قبيل الصدفة أيضاً أنْ يخترق طريق الحج الإفريقى السودان،واضعاً معالمه البارزة.ففى ذلك التشابك الكثيف،تكمن عناصر قوّة السودان التأريخية والراهنة والمستقبلية، وفهمها ضرورىّ – جدّاً – لوضع إستراتيجيات السودان القادم،الذى ليس من الجكمة التقليل من دوره الريادىّ فى المنطقة،وربّما إفريقيا كلّها. تمثّل "مدينةُ عيزانا" إنقلاباً رؤيوياً للإرث السودانىّ فى عدد من المجالات.من بينها علم الأنساب السودانىّ،وعلاقات المجموعات الإثنية ببعضها،وبالأصول الخارجيّة.وقد سبقتْ نتائج فحوصات الحمض النووى التى قامت بها جامعة الخرطوم ،هذا الكشف.لكنّها تمثّل إنقلاباً فى حقل مهم وأساسىّ،وربّما تعيدُ ترميمه – كليّاً – وهو حقل تأريخ الأديان فى السودان.ذلك انّ الكنائس التى وُجدتْ فى المدينة ترجعُ المسيحية إلى وقتٍ أبْكَرَ مما هو متعارفٌ عليه. ونجمة داوود التى وُجدتْ، مقروءةً بنجمةٍ أخرى ومعبدٍ يهودىّ عثرتْ عليه البعثةُ البولندية، فى ولاية نهر النيل، أيضاً، سيعيدُ تعريف علاقة اليهودية بالسودان،وهو أمرٌ سيشكلُ صدمةً بالغةً للوثوقيين السلفيين، والكلاسيكيين من الباحثين، على حدّ سواء.وربّما يعزّزذلك خلاصاتٍ كان قد وصل إليها النيل أبو قرون فى كتابه "نبىٌّ من بلاد السودان" يجرى على ذات درب البروفسير عبد الله الطيب فى تأملاته البحثية بشأن سيرة النبىّ موسى بن عمران،عليه السلام. لقد دأبتْ إثيوبيا، خاصةً بعد ميلس زيناوىّ، وهو رقمٌ مهم فى تصحيح مسارات البناء الوطنىّ والعلاقات الخارجية لإثيوبيا، دأبتْ فى تفهيم أصول علاقاتها الأزليّة بالسودان.والواقع أنّ ذلك سابق لزيناوىّ بقرابة قرنٍ من الزمان، على أيّام الخليفة عبد الله التعايشىّ. لكنّ السودان لم يكنْ ليفهم – بتلك البساطة – أصول وجذور علاقاته الإستراتيجية مع إثيوبيا. ويرجع ذلك بشكل أساس إلى أنّه لم يستطع انْ يستوعب مركزيته الحضارية جيّداً، وأهميته المتبادلة فى المستوى الإستراتيجىّ بالنسبة لإثيوبيا وشبه الجزيرة العربية واليمن.ويمكن فهم ذلك وفقاً للتشويش الرؤيوى الذى ظلّتْ تحدثه مصر- على أهميتها – فى تحديد خياراته الإستراتيجية.وسببه أنّ دخول محمد على باشا،وكتشنر لعبا دوراً فى تضخيم العلاقات مع مصر، بينما هى فى الواقع أقلّ أهميةً من العلاقات مع إثيوبيا،شبه الجزيرة العربية وغرب إفريقيا.ومن شأن الحقائق العظيمة المرتبطة ب"مدينة عيزانا" أنْ تعيد توضيع الأشياء وفقاً لحجمها الحقيقىّ. يستهجنُ مراقبون وسياسيون وخبراء استراتيجيون التردّد السودانىّ المستمر فى ترفيع مستوى علاقاته مع إثيوبيا إلى درجة التكامل. على الرغم من أنّ إثيوبيا ظلّت تلعب أدوار جسيمة فى الشؤون السودانية منذ وقت طويل.وظلّتْ تحرص على تقديم براهينها العمليّة على حرصها على علاقات ذات شأن كبير مع السودان،على كافة المستويات.على أنّ جذور الأزمة فى التخطيط السودانىّ ترجع إلى عقدة نفسيّة – على الأرجح – تسعى بشكل محموم لإثبات ما هو جلىّ فى موضوعة الهويّة والأصول والأنساب. ويقيناً سيتغيّر الوضع لو أمعنت الحكومة والسياسيون جميعاً النظر فيما يقوله ويتوصّل إليه العلماء بصبر وتجرّد. سيسعى مقالى هذا،القصير المتعجّل، إلى تحريض مجلس الوزراء لتثقيف الحكومة،وتثقيف الممسكين بالملفات المهمّة والمخطّطين، لنحصل على الأقلّ، على نتائج مختلفة من شأنها أنْ تؤسّس للمستقبل.بدلاً من ركوب الطائرات ذهاباً وإياباً من أديس أبابا، فقط لنفاوض أو لنوقّع. يمكننا أنْ نتعلّم من "أشقائنا" الأحباش أكثر من غيرهم، كما يمكننا أنْ نعتمد عليهم إستناداً إلى أخوّةٍ حقيقية، لا تتعامل معنا بوجهين، ولا تنصب لنا فخاخها الغادرة. كما يمكن لهذا المقال أنْ يحرّض وزارة الثقافة أنْ تسعى لدى رئاسة الجمهوريّة لتكريم "عم على" – فخامة البروفسير على عثمان محمد صالح – وتدعم مقترحاً خجولاً بالإعتناء بما يفعل، والتفكير فى مركز ثقافىّ باسم الشريف زين العابدين الهندىّ، يشرف عليه "عم على".
|
|
|
|
|
|