|
هل صحيح أن زكي مبارك كتب مقدمة لديوان إشراقة؟! محمد وقيع الله
|
هل صحيح أن زكي مبارك كتب مقدمة لديوان إشراقة؟! محمد وقيع الله
استغربت كثيرا عندما رأيت مقالا يقول صاحبه، وهو أستاذ الأجيال البروفسور صالح آدم بيلو، أن الدكاترة زكي مبارك كتب مقدمة لديوان (إشراقة) الذي صدرت طبعته الأولى عن دار نشر قاهرية بعد وفاة صاحبه. وقد جاء في غضون المقال كلام لا يشك أحد أنه صادر عن قلم زكي مبارك. ولكن لا تظهر له صلة قوية بديوان (إشراقة). فهو كلام عام عن السُّودان وخِلالِهم الحميدة. ومثل هذا الكلام قاله زكي مبارك أكثر من مرة. قاله عندما أرسل محاضرة له لتُتلى في أحد احتفالات مؤتمر الخريجين بأم درمان في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الماضي. وقاله في تعليقه على شعر إمام شعراء السودان محمد سعيد العباسي. وقاله في مناسبات أخرى لا نريد أن نحصيها. وقد أسرعت لأستنجد بمرجع لا أوثق منه ولا أعظم حتى يدلني على جلية الأمر في هذه الدعوى. فلي صاحب سوداني هو أحسن قارئ عرفت في حياتي. وهو مثال حقيقي لما يشير إليه الإنجليز بعبارة Book Worm وإليه مرجعي في كثير مما أحار فيه ويلتبس علي من أمور الكتب والثقافة والأدب. ففزعت إليه وسألته: هل علمت فيما علمت أن زكي مبارك كتب مقدمة للطبعة الأولى من ديوان (إشراقة) لأني قرأت في موضوع صحفي نشر الأسبوع الماضي ما يفيد بذلك. وهو أمر غير مستبعد بالطبع. ولكن أرجو أن تمحصوا لنا وجه الحقيقة في هذا المذهب الذي اطلعنا عليه لأول مرة! وقد رد صاحبي بعد هنيهة من استلامه رسالتي قائلا: لم يبلغنى أن زكى مبارك قد سمع بالتيجانى يوسف بشير بلْه أن يكتب مقدمة لديوانه. وكنت قرأت أن أهل التيجاني أعطوا الديوان لمصرى شاعر لا أذكره الساعة فطمع فيه على الطريقة المصرية ولم يستعد الديوان منه إلا باللتيا والتى! وعلى العموم فإن التماس تقديم الكتاب المصريين (داء) قديم لم ينج منه مؤلفونا من أمثال بابكر بدرى، وعبد الله الطيب، والطيب صالح، وغيرهم. وربما لو كتب زكى مبارك مقدمة الديوان لتوالى ظهورها فى الطبعات اللاحقة ولكن ذلك لم يحدث كما تعلم. وفوق ذلك ما كان زكي مبارك ليسكت لو علم أن بين (السُّودان) من يقول (وفي القصيدة الكثير من نفس فتون نثر زكى): وعبدناك ياجمال وصُغنا لك أنفاسنا هياما وحبا ووهبنا لك الحياة وفجَّرنا ينابيعها لعينيك قُربى! أو من يقول في القصيدة التى يشيد فيها بفتية مصر ومطلعها: وشبابٌ من الكنانة حمس يثئرون الحماس صاعا بصاع! أو في تلك الأخرى التى يفتتحها بقوله: عادنى اليوم من حديثك يا مصر رِئىٌ وطوَّفت بيَ ذكرى! ولعله كان لزكى مبارك ما يدعوه إلى تناول التيجانى ولو من باب إرضاء أولئك الذين أغضبهم بكتابه عن (الأخلاق عند الغزالى) واسترضاهم به عن كتاب (التصوف الاسلامى)! فما كان ليسكت وهو يجد أمام ناظريه من مثل هذا الهذيان الحلولي الذي يعجبه في ديوان (إشراقة):
كل مافى الكون يمشى فى حناياه الإله هذه النملة فى رقتها رجع صداه هو يحيا فى حواشيها وتحيا فى ثراه وهى إن أسلمت الروح تلقتها يداه لم تمت فيها حياة الله إن كنت تراه!
وفي الديوان إشارات أخر إلى مذهب وحدة الوجود. وترهات عديدة من تخرصات الغاوين. وقد كان زكى مبارك، رحمه الله، مولعا بالغواية والغاوين! وقد أنكر صاحبي أن أصدق أن زكي مبارك كتب تقديما لديوان (إشراقة) قائلا: وكيف تصدق أن هذا تقديم وأنت ترى زكى مبارك يتغنى بقصيدة واحدة للعباسى. ويوردها كاملة مشيدا بها فى مجلة (الرسالة)، ويشكر من أطلعه عليها وهو الأستاذ عبد الحميد عبد المجيد. ولم يكتف بذاك بل عارضها بصحيفة (البلاغ) على ذات القافية والرِّوِى! وكيف تصدق أن هذا تقديم وأنت ترى زكى مبارك ينشر أبياتا للعباسى دعاه فيها للكتابة عن تاجوج المريضة بالسودان فوعد! فأين استشهاده بشعر التجانى فى التقديم المزعوم؟! ألا ترى أن زكى مبارك لم يشر إلى التيجانى ولو إشارة عابرة على غرامه بالإشارات والإحالات فى مقالات سطرها فى تلك الفترة عينها؟! ورغم جزالة شعر العباسى وتأتى مأخذه إلا التيجانى يفوقه بما لا يقاس فى تقديرى. وقد عضد صاحبي ومرجعيتي حجته فقال: وقد كانت جماعة الأدب السودانى أقامت مهرجانا وأصدرت كتيبا في عام 1962م لمرور خمسة وعشرين عاما على وفاة التيجانى، واستكتبت إلى جنب الأستاذ حسن نجيلة، الأستاذ صلاح أحمد ابراهيم، والأستاذ عبد الله الشيخ البشير، والبروفسور عز الدين الأمين، والأستاذ محمد محمد على، والبروفسور عبد المجيد عابدين، والدكتور لاحقا فاروق الطيب البشير رحمه الله. وكان هذا مغرما بأدباء الكنانة والكتب، وقد كتب بحثه فى ذكرى التيجانى تحت عنوان (التيجانى فى نظر النقاد) ولم يكن بينهم زكى مبارك! وعاد صاحبي يقول إنه رَغم أن زكى مبارك قد عَرَض إلى السودان وبعض أهله فى بابه (الحديث ذو شجون) بمجلة (الرسالة) القاهرية عدة مرات إلا أن التيجانى لم يرد له ذكر به. وقال صاحبي إن طبعات ديوان (إِشراقة) توالت من بيروت (دار الثقافة) بعد أن قامت مكتبة (النهضة السودانية) على أمره وأصدرت الطبعة السادسة منه عام 1972م. وخاطبني قائلا: لعلك تذكر هذه المكتبة التى كانت تطل على الشارع الذى يمر جنوب جامع الخرطوم الكبير، وفى طرف السوق العربى، شرق قهوة الزيبق، فى مواجهة ميدان الأمم المتحدة. وقد اختفت فى سبعينيات القرن المنصرم دون أن تترك أثرا أو ينعها ناعٍ. ثم عاد صاحبي إلى الموضوع محل البحث فقال: لو كان زكى مبارك قد قدم للديوان لما فات ذلك عبد المجيد عابدين وهو يكتب عنه، ولا حسن نجيلة، ولا محمد النويهى، أو حتى هدارة، أو الشوش، أو أحمد محمد البدوى، أو عبده بدوى. ولاسيما هذا الأخير الذى جاء كتابه (الشعر الحديث فى السودان) دراسة أكاديمية لم ينس فيها حتى والد التيجانى الذى كان إسكافيا، وذكر أن التيجانى كان يلبس حذاء من نوع (باتا) بلا رباط، ويرتدى جلابية من الدمورية (وزن عشرة) ممزقة، وعمامة دون قلنسوة الى آخر مانقله عن تلميذه أحمد البدوى! وأنت ترى أن مقدمة طه حسين مازالت تتصدر (المرشد). وأن ما كتبه محمد فريد أبو حديد يقوم مقامها فى صدر ديوان العباسى. ولذلك مثيل في (حياتي) لبابكر بدرى. وما كتب أحد عن (موسم الهجرة إلى الشمال) إلا ونوَّه برجاء النقاش الذى رفع ذكر صاحبنا بعد أن أطلعه سيد أحمد الحاردلو على الرواية التى نشرت يومها فى مجلة (حوار) سيئة الذكر. فلماذا يغيب ذكر زكى مبارك إن كان حقا قد قدم للديوان؟! هذا ما كان من رد صديقي العمدة في قضايا الثقافة عموما والثقافة السودانية خصوصا. ونرفع أمر اعتراضه إلى الأستاذ الدكتور صالح آدم بيلو الذي جاء بهذه الدعوى. ونلتمس منه أن يدلنا على صحة دعواه إن بقي مصرا عليها بما يشفي الغليل.
|
|
|
|
|
|