للإجابة على سؤال حول النجاح أو الفشل، لابد في البداية من تحديد المعيار الذي على أساسه سوف تتم المقايسة أو المعايرة، حتى يصح التوصل إلى نتيجة منطقية. إذ أنه في غياب معيار متفق عليه ، يصبح من المستحيل التوصل إلى نتيجة قابلة لقياس موضوعي و علمي، و يتحتم القول بأن تقييم كل طرف و فقاً لمعياره الخاص سيأتي مغايراً لتقييم الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى. و في تقديرنا أن النظام السوداني الذي أطلق حوار الوثبة ، لديه معيار لمقايسة الفشل و النجاح، يختلف جملةً و تفصيلاً عن المعيار الذي تستخدمه المعارضة الرافضة لهذا الحوار تحديداً. و هذا الإختلاف يتضح من مراقبة و فهم الأهداف التي يتوخاها النظام من الحوار، و تلك التي تعتقد المعارضة أهدافاً حتمية لأي حوار وطني. فهدف النظام الأساسي من حوار الوثبة هو الإستمرار في الحكم و حل أزمته بإحتواء معارضته داخلياً و فك عزلته عالمياً ، في حين أن هدف المعارضة هو معالجة مشكلات الوطن و المواطن بالخروج من دولة النظام الحاكم لدولة الشعب السوداني بكافة مكوناته.و الواضح هو أن الهدفين متعارضين تماماً. و هذا يعني أن كل طرف يرغب في نوع من الحوار مغاير للآخر بحكم غائيته و أهدافه، و يعني بالتبعية أن كلاً من الطرفين سيقيس مدى نجاح و فشل الحوار بما سيحققه من نتائج تتطابق أو تتباعد عن الأهداف التي يرى أنها يجب أن تكون هدفاً و نتيجة لأي حوار وطني. فالنظام الذي إبتدر الحوار، سيعلن نجاحه في حال تمكن من إستيعاب الجزء الأكبر من معارضته و ليس بالضرورة كلها ، دون أن يقدم تنازلات تمس جوهره الطفيلي أو تضعف قبضته على السلطة و خصوصاً أجهزتها الأمنية و مؤسساتها الإقتصادية. في حين أن المعارضة ستعتبر إستمرار النظام في حد ذاته فشلاً ذريعاً لهذا الحوار لأنه لن يقدم حلاً لأي مشكلة من مشاكل الوطن المعقدة، بإعتبار أن الرأسمال الطفيلي و سلطته التي احتكرت الوطن أساس المشكلات التي يعاني منها الشعب السوداني، وهي محقة في ذلك. و سينشأ عن ذلك سجال كبير حول نجاح هذا الحوار من عدمه، و سيكون صوت النظام أعلى بحكم سيطرته على المنابر الإعلامية، خصوصاً في حال نجاحه في الحصول على دعم حلفائه الإقليميين، و قبول الولايات المتحدة الأمريكية لمخرجات حواره كوسيلة لتعويمه و إعادة إدماجه في المجتمع الدولي و لو جزئياً.فالنظام و منذ نجاح الشيخ الترابي في إقناع الرئيس البشير بتحويل الضغوط الأمريكية المنادية بالحوار علناً عبر ما كتبه برنستون ليمان المبعوث الأمريكي و عززته الدوائر الإقليمية المنخرطة في المشروع الأمريكي، إلى فرصة لتعويم النظام و ضمان موقع مريح للحركة الإسلامية في خارطة السياسة السودانية و إحتواء ازمة النظام الخانقة التي أوشكت على إسقاطه في إنتفاضة سبتمبر 2013م، قرر أن يدير حواراً على مقاسه يخرجه من أزمته الداخلية، و يقيض له فرصة العودة للمجتمع الدولي بمباركة أمريكية. فالنظام حين قبل فكرة الحوار ، كان قبوله لها في حدود ما اتفق عليه مع الشيخ الترابي، و ليس في حدود سقف يقيل عثرة الوطن و يعيد الدولة المسروقة إلى شعبها كما توهم البعض. و الشواهد على ذلك لا تحصى و لا تعد. منها رفض النظام مبدأ التكافؤ الذي هو جوهر أي حوار. و إصراره على إستمرار قبضته الحديدية و دولته الشمولية في أثناء إدارة الحوار، و كذلك إصراره على أن يحدد هو أجندة الحوار، و على أن يرأس الحوار، و إستباقه للحوار بإجراء إنتخابات برلمانية شهدت مقاطعة واسعة، مع إعادة إنتخاب البشير رئيساً و تعديل الدستور، و إعتقاله الإمام الصادق المهدي أكثر المتحمسين لحواره، ورفضه وقف إطلاق النار و إسقاط الأحكام السياسية عن المعارضين و إطلاق سراح المعتقلين السياسين، و إطلاق الحريات الصحفية و السماح بجعل الحوار نشاطاً مجتمعياً مفتوحاً.أكثر من ذلك، حدد النظام بوضوح سقف الحوار و حسم مخرجاته بتصريحات على أعلى مستوى، رفضت رفضاً باتاً وجود مرحلة إنتقالية أو سلطة إنتقالية تقوم لتضع الجميع على مسافة واحدة من الدولة، و تحيل الدولة إلى دولة مواطنة بدلاً من دولة مؤتمر وطني، بإعتبار أن هذا الإنتقال الذي يقوم على فطم الرأسمال الطفيلي و فصله عن السلطة و جهاز الدولة، عبر القيام بالفصل بين الحزب و جهاز الدولة، يعد شرطاً أساسياً لأي إصلاح من الممكن أن يمهد لمعالجة أزمة البلاد المستحكمة و التي يمكن تلخيصها في الإجابة على ثلاثة أسئلة متعلقة بالسلام و الطعام و الديمقراطية. فالنظام كان واضحاً في أن الحوار يجب أن ينتهي بإستمراريته، و أن أي مخرجات لهذا الحوار تخالف هذه الإستمرارية لن يتم تنفيذها و هي عبارة عن أضغاث أحلام. و هذا يعني أن للحوار أهدافاً أخرى غير إعادة الدولة السودانية المختطفة من قبل الرأسمالية الطفيلية لشعبها. فالمطلوب هو إلتحاق هذا الشعب بالنظام و القبول بالسقوف التي يحددها له، حتى و إن كانت القبول بعصابة الجنجويد و تمجيدها لأنها العصا التي يستخدمها النظام في قمعه. و الوسيلة لتمرير هذا النوع في الحوار قديمة متجددة، خداع بعض المعارضين برفع سقوف الكلام و الدعاية المنظمة حول رغبة النظام في معالجة أزمات البلاد، مع تخوين كل من يرفض الإنخراط في مشروع النظام و يساهم في إعادة تأهيله و تكريس هبوطه الناعم من جهة، و تسويق الحوار و الوثبة للراعي الأمريكي و ممثليه بالمنطقة على أنه وفاء بمتطلبات التعويم و الإدماج في المجتمع الدولي.على هذا الأساس، شهدنا و سنشهد إرتفاع و تيرة الدعاية و التضليل، مع إستقطاب معارضين لجلسات الحوار و بعضهم حسن النية ، و اتصالات كثيفة مع الولايات المتحدة الأمريكية بغرض رفع الحصار الإقتصادي و فك العزلة الدولية، و لكننا لن نشهد معالجة لأزمة واحدة من أزمات المواطن أو مشكلات الوطن. فمشكلة السلام مثلاً، لن تتعالج حتى إذا نجح السلام و بضغط أمريكي للوصول إلى تسوية مع الحركة الشعبية قطاع الشمال بمنحها حكماً ذاتياً إقليمياً للمنطقتين و إشراكها في الحكومة المركزية، و إلزامها بقبول تلك التسوية بضغط أمريكي، وهو أمر وارد في ظل الفشل الذي تشهده دولة جنوب السودان و العلاقة الوثيقة بين الحركة الشعبية و الإدارة الأمريكية. بل أن السلام لن يتحقق حتى و إن إلتحقت حركات دارفور جميعها بالحوار و نالت وضعاً مماثلاً. و ذلك لأن المحاصصات مع القوى حاملة السلاح لا تنتج سلاماً مستداماً ، لأنها توقف الحرب و لا تعالج أسبابها. فإذا أضفنا لذلك تجربة النظام في نقض العهود و الإتفاقات منذ إتفاقية السلام من الداخل مروراً بأبوجا ووصولاً لنيفاشا المقدسة نفسها، نجد أن عودة نفس حاملي السلاح لحمله مجدداً واردة. و الأمثلة كثيرة من مجموعة ريك مشار إلى مني أركو مناوي. و بقاء الأسباب التي أدت لنشوب النزاعات المسلحة إبتداءاً ، يؤسس لقيام حركات مسلحة جديدة في مستقبل قريب بلا شك. و حال الديمقراطية بالطبع أسوأ من حال السلام. فالديمقراطية تعني دولة سيادة حكم القانون، و تعني بالتبعية المحاسبة ، و النظام يرفض مجرد الإنتقال إليها بدون محاسبة، فكيف به يرتضيها و هي محملة بشرطها الأساس و هو خضوع الدولة للقانون و محاسبة من يقومون على أمر السلطة. فالنظام و إن كان يخاف من الصحافة الحرة، إلا أنه لا يمانع في إعطاء هامش محسوب من الحرية الصحفية. و هو برغم عدائه للتعددية و التنوع، لايمانع في وجود أحزاب تحت السيطرة و إنتخابات مسيطر عليها و نتيجتها معروفة مسبقاً، و لكنه لن يسمح بجوهر الديمقراطية و هو الخضوع للقانون و المحاسبة. و بالتالي لن يكون هناك تحول إلى دولة قانون و لن تكون هناك محاسبة ضمن مخرجات حوار الوثبة.الأسوأ حالاً هي مسألة الطعام أو إدارة الإقتصاد و إقالة عثرته و أزمته التي لامست خطوط الإنهيار الكامل. و ذلك لأن الشرط الأساس لمعالجة المشكلة أو للتمهيد لمعالجتها، هو إيقاف نهب رأس المال الطفيلي لموارد البلاد، ومنعه من تدمير ما تبقى من بنية إنتاجية أولاً، و إستعادة أموال السودان المنهوبة لمحاولة إعادة تأهيل البنية الإنتاجية و الخدمية. و هذا يشترط تقديم كل المفسدين إلى عدالة مستقلة لا تتبع السلطة التنفيذية الفاسدة مؤسسياً، كما يشترط أن يتم كنس السلم من أعلاه لا من أسفله. و لاشك أن دون مثل هكذا تدابير خرط القتاد. لأنها تعني ضمن ما تعني فطم العصابة المسيطرة على إقتصاد البلاد و منعها من الإستمرار في النهب، كما تعني إستعادة الأموال التي نهبها بإدعاء الخصخصة و تلك التي تم تهريبها للخارج و الثالثة التي بنيت بها البنايات و تزوج بها النساء. كما أنها تعني تفكيك المؤسسات الممسكة بعصب الإقتصاد لتجييره لمصلحة رأس المال الطفيلي. و تعني أيضاً إيقاف الصرف البذخي على الحكومات المترهلة و القصر الجمهوري و ضبط الإنفاق الحكومي، مع تعديل جوهري في هيكلة ميزانية الدولة بإيقاف الصرف على أمن النظام و أجهزته العسكرية، و الصرف على إحتياجات المواطنين من صحة و تعليم و محروقات و خبز. و العمل على رفع العقوبات الإقتصادية مع الإستثمار في البنية الإنتاجية. و الإجتهاد في معالجة أمر الدين الخارجي أصولاً و فوائد. و هذا يعني ببساطة يعني الحكم بالإعدام على رأس المال الطفيلي المسمى إسلامي، و هو أمر لن نشهده ضمن مخرجات حوار الوثبة حتماً.فالحوار الماثل أقصى ما يسعى إليه هو إستيعاب المعارضة في حكومة موسعة بتوسل العديد من الوسائل في إطار الترغيب و الترهيب لضمان إستمرار بنية النظام الناشئة عن التمكين، و إيقاف الحرب دون دفع أثمان أو معالجة أسبابها بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية و الدول المنخرطة في مشروعها، عبر منح الحركات المسلحة جزءاً من السلطة حتى و إن أدى ذلك لإنفصال أجزاء أخرى من الوطن. و هذا يقيض للنظام الإستمرار في السلطة بنفس مشروعه المدمر للوطن ، و يسمح بتسويق نفسه لرعاته على أنه أنجز ما هو مطلوب منه أمريكياً حتى تستكمل إجراءات هبوطه الناعم، و يؤسس لموقع متميز للحركة الإسلامية الموحدة في مستقبل السياسة السودانية. فإذا حقق هذه الأهداف أو جزء مقدر منها، سوف يعتبره النظام ناجح، و إذا فشل في تحقيق جلها سوف يصر النظام على أنه ناجح و لكنه سيعلم فشله حتى بمعياره هو. أما فيما يخص المعارضة، فالحوار فاشل حتى إذا حقق هذه الأهداف، لأنها ببساطة لن تحل أزمة الوطن بل ستعمقها أكثر، و ستقود النظام إلى مصيره المحتوم و إن أطالت في عمره قليلاً.23 ديسمبر 2015م أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة