|
هـل للسـودان دورٌ في خــراب ســينــاء؟ ... مصعب المشـرّف
|
هل للسودان دورٌ في خــراب سيناء؟
الذي يجري اليوم في شبه جزيرة سيناء المصرية لا يرضي مسلم ولا عربي يفكر ضمن قناعات راسخة داخل إطار قومي وعقائدي غير منحرف ...
والذي نرغب فيه بداية ؛ التأكيد على أن مزاعم بأن للسودان يد في ما يحدث من تفجيرات وأعمال إرهابية تجري في سيناء إنما هو من قبيل "الخيال الإعلامي" .... ويعطينا دوراً أكبر من حجمنا وإمكانياتنا ... ثم بعد ذلك لا نُحسد ولا نُحمد عليه.
سمعنا وقرأنا تصريح الرئيس السيسي بأن هناك "دولاً وأيادي خارجية " تدعم الإرهاب في مصر . ؛ ولكنه لم يشير إلى أنها دولة عربية شقيقة.... وقد عودنا المصريون أنهم لا يشيرون إلى الدول العربية بمصطلح "أجنبية" أو "خارجية" ... ثم أنهم يمارسون الدبلوماسية الهادئة مع كل الناس العرب منهم والعجم ؛؛؛؛ لكنهم يتوقفون كثيرا ويفقدون أعصابهم ؛ ويتخلون عن الدبلوماسية جملة وتفصيلا عندما يتعلق الأمر بالعلاقة السرمدية ، والخلافات التابعية ، وردود الأفعال الحميمية السالبة التي قد تبديها بين الحين والآخر الأنظمة السياسية الحاكمة في السودان ... والأمثلة على ذلك كثيرة ؛ ليس أقلها إقدامها على إحتلال حلايب عقب محاولة إغتيال حسني مبارك الفاشلة في أديس أبابا ... ثم إغفالها المتعمد وضع العلم السوداني العزيز الرمز جوار العلم المصري عند لقاء البشير بالسيسي.
أشك كثيراً في أن يكون للسودان دوراً في الأنشطة والأعمال الإرهابية التي تتصاعد حدتها في شبه جزيرة سيناء ... ولاسيما أن زيارة عمر البشير للقاهرة لم ينكشف عنها غبارها ولا طلاءها بعد .. لا بل ولم تهضم أمعاءه وأمعاء الوفد المرافق له الوجبات والحلويات والمشروبات المصرية التي قدمت لهم خلال هذه الزيارة ، .. هذه الزيارة التي بادر عمر البشير ووصفها (من جانب واحد) بأنها جاءت ناجحة ومثمرة .. و أطلقت نظامه الحاكم من عقال عزلته.
وربما (أقول ربما) أراد البعض في الصحف العربية والأجهزة الإعلامية المختلفة من حشر وإفحام إسم السودان في تفجيرات سيناء العمل بقاعدة "أضـرب المربـوط يخاف السائب" .. وقد أصبح السودان في عزلته الفريدة اليوم القاسم المربوط الأعظم .. والملطشة الأقرب لمتناول اليد .... وبردعة من لا بردعة له فوق ظهر حمار الفشل الجاري.
على أية حال فإن الذي أفهمه من تصريح الرئيس السيسي بوجود تدخلات خارجية في سيناء . إنما يعني بالأيادي الخارجية المتورطة في تمويل والدعم التقني للتفجيرات المأساوية التي جرت مؤخراً ؛ وأدت لمقتل أكثر من 30 عنصر من القوات النظامية المصرية في سيناء .. يعني بذلك الموساد وتركيا وإيران عبر حماس وكتائب عز الدين القسام ..... وليس أدل على ذلك شروع الجيش المصري الفوري في إقامة المنطقة العازلة بين سيناء وقطاع غزة. إذن فإن التبرير الوحيد لهذه الهجمة الإعلامية ضد السودان فيما يتعلق بأحداث مصر عموما وسيناء على نحو خاص ، إنما نحيل أسبابها إلى الفشل الإعلامي المزمن الذي تعاني منه هذه الأجهزة الإعلامية بعد أن تسلط على رئاستها مجموعة من الصحفيين الإنتهازيين الجهلة ؛ لايمتلكون من مواهب سوى تلك التي يمتلكها القرود في القفز والتنطيط والرشق بالحجارة دون قدرة على التحليل الموضوعي بعد الولوج إلى لب المشكلة.
إن الذي تقتضيه الضرورة عند البحث في أسباب وواقع ما يجري في سيناء يتطلب أولاً العودة إلى الوراء عند تاريخ 1892م كمرحلة ضبابية .. ثم ومابعد تاريخ 5 يونيو 1967م ... فإذا احتدم الجدال وساد الإنكار الجاهل ؛ فلربما العودة إلى الوراء للتوقف عند أعتاب عام 1500 ق.م ، والتطرق إلى تبعية سيناء ككيان جغرافي وكتلة بشرية إلى الدولة المصرية ؛ طبقاً لحقائق وردت في القرآن الكريم عند تلك الآيات المتعلقة بخروج موسى عليه السلام بمن آمن به من بني إسرائيل ... وفي معيتهم عامة شذاذ الآفاق اليهود من مصر.
إن أكثر ما يعين على البحث والإجتهاد اليوم عند الغوص في " الحالة السيناوية" يتمثل في إلقاء الضوء على حقيقة "إحجــام" الدولة المصرية عن تلبية متطلبات أبناء سيناء بالإعمار والتنمية الموعودة (البديلة) لتلك التي كرستها إسرائيل (عن عمد) خلال إحتلالها لسيناء وقطاع غزة.
والذي يجلس ويتحاور مع أبناء سيناء بعد حرب أكتوبر 1973م ؛ يلاحظ بُعــد المدى الذي إستطاعت فيه إسرائيل مدعومة بإمكانات ومعينات إستخباراتية حديثة ميكافئيلية ثم وروافد مالية عالمية من بلوغه ؛ لجهة التأثير الفعال وبسط قناعات حياة إنبنت على مصالح إقتصادية وسبل كسب عيش رغيد ؛ أتخمت به جيوب وخزائن ومخازن البدو والحضر من سكان سيناء طوال الفترة التي إمتدت قرابة (30) سنة من إحتلال مباشر لقطاع غزة وسيناء إمتد خلال الفترة من الساعة التاسعة صباح 5 يونيو 1967م إلى تاريخ وتوقيت إنسحابها العسكري عام 1982م وفقاً لترتيبات وإتفاقات كامب ديفيد التي وقعها السادات برعاية أمريكية عام 1979م .
وعلى نحو مباشر يمكن التوصل إلى إن أكثر ما يهدد الإستقرار اليوم في سيناء يمكن تلخيصه في الأسباب التالية:
1) غياب الإعمار والتنمية الإقتصادية في سيناء . 2) عدم توافر الثقة ؛ وتنامي الرغبة بالإنفصال عن مصر لدى قطاعات عريضة من أبناء سيناء. 3) تضييق الأمن المصري الخناق على أبناء سيناء لجهة سبل كسب العيش الرغيد التي إعتاد عليها أهلها خلال الإحتلال الإسرائيلي. 4) تلاقي المصالح المتقاطعة بين إسرائيل والأصولية الإسلامية العالمية لجهة بسط السيطرة على سيناء واستخدامها ورقة للضغط على القاهرة.
وعليه ؛ فإنه وعند إلقاء مزيد الأضواء على الأسباب المشار إليها أعلاه نرصد الآتي:
1) غياب التنمية الإقتصادية في سيناء.
لم تشهد سيناء منذ أيلولتها لمصر عام 1892م أية عمليات تعمير وتنمية إقتصادية حقيقية ؛ بقدر ما جعلت منها أنظمة الحكم المتعاقبة في القاهرة مجرد رقعة جغرافية تدرأ عن أرض الدلتا ومجرى الوادي أطماع الغزاة من الشرق .. وكان لحفر قناة السويس الأثر السلبي لجهة تكريس فصل الإمتداد الجغرافي والتمازج السكاني الطبيعي داخل الحدود السياسية الدولة الواحدة.
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن جميع مشاريع البنية التحتية الأساسية المؤهلة للنشاط السياحي الذي شهدته شبه جزيرة سيناء إنما يعود الفضل فيه إلى إسرائيل . وأصبحت تتمتع به اليوم العديد من الشركات والقطاعات العاملة في مجال النشاط السياحي .. لكن الذي يعاب عليها أنها وافدة من خارج سيناء إدارة وعمالة ، ومستلزمات التسيير والخدمات التي تمتد لتشمل حتى الماكولات والمشروبات.
والذي نلحظه من جانب آخر ؛ أن شمال سيناء لم تشهد حتى تاريخه نفس التنمية الإقتصادية أو حتى الضرورية في مجال البنية التحتية .
ولكن على الرغم من إهمال سلطات الإحتلال الإسرائيلي للمناطق الحضرية الآهلة بالسكان شمال سيناء من التنمية . فإنها حاولت جهد طاقتها شراء ولاء هؤلاء وسكوتهم عبر السماح لهم إلى جانب بدو سيناء بممارسة تجارة التهريب للسلع والمخدرات إلى داخل مصر . وهو ما أدى إلى نشوء مصالح مالية عميقة بين العديد من القبائل في سيناء وقطاع غزة أدارها من الجانب الإسرائيلي ضباط من الموساد ؛ وجنرالات في الجيش الإسرائيلي ؛ إستفادوا وتربحوا من قيادتهم للقطاعات المدنية والعسكرية أبان إحتلال إسرائيل لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء.
وبإنسحاب إسرائيل فقد أهل سيناء العديد من المصادر والأنشطة التي توفر لهم رغد العيش الذي شهدوه على أيام اليهود واعتادوا عليه ... وهو الرغد الذي أفاء عليهم بالنوم تحت غمام وبرودة أجهزة التكييف ... وجعلهم يركبون المرسيدس .. ويأكلون المنّ والسلوى.
2) تنامي الرغبة بالإنفصال عن مصر لدى قطاعات عريضة من أبناء سيناء. هناك جدل يدور وسط أبناء سيناء لم يتمكنوا حتى تاريخه من تصديره للخارج العربي أو مناقشته على نحو مكشوف .. ولكن الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يبدو أنه لا يزال يمارس شفافية القائد العسكري أكثر من مراوغة السياسي المحترف ... نراه قد كشف مؤخراً في كلمة إرتجلها أمام ضباط وقادة الأسلحة المختلفة والأجهزة الأمنية ؛ أن هناك مخططاً لإعادة تجربة إنفصال جنوب السودان في سيناء .. وأن الخرطوم بممارستها الحل الأمني وحده هي التي تسببت في حدوث هذا الإنفصال .. وحذر السيسي من أن الحل الأمني وحده بوضع الدبابة والرشاش وسط سيناء لن يفيد. واقع الأمر فإن لدى أهل سيناء قناعات ضبابية بأن أرضهم لم تكن تابعة في يوم من الأيام لمصر ولا جزء منها .. ويدللون على ذلك بأن موسى عليه السلام ما كان ليستطيع أن يخرج بقومه من بني إسرائيل خاصة وأتباعه اليهود عامة من مصر ويعبر البحر الأحمر إلى الشاطيء الشرقي . ويستقر بهم هناك ويذهب للقاء ربه بكل هذا الإطمئنان والسعة في الزمان والمكان ورزق السماء في المأكل والمشرب لو لم تكن أرض سيناء مستقلة منفصلة عن مصر. وإذ كيف أن نتصور أرض سيناء بلا حاميات وقلاع عسكرية لو كانت تابعة للدولة الفرعونية التي عرفت بسطوتها العسكرية ونظامها السياسي والإداري المحكم بوصفها واحدة من بين كبريات دول العالم القديم آنذاك؟ على أية حال وبغض النظر عن المزاعم الصهيونية بأن بريطانيا قد تنازلت لمصر عن شبه جزيرة سيناء عام 1892م فقط .. فإن الذي يظل محرضاً على نزعات الإنفصال في كل إقليم هو مدى التهميش الذي يتعرض له هذا الإقليم أو ذاك . ولنا في السودان أكثر من خبرة وسابق تجربة بمثل هذا المجال. ومن ثم فإن الذي نرغب بإيصاله إلى مصر هو أن تكرار بث أغنيات أم كلثوم وشادية من قبيل "مصر التي في خاطري" .. و "حبيبتي يا مصر" في غياب زعامات جماهيرية كاريزمية ملهمة بوزن عبد الناصر ؛ لن يكون الحث الإعلامي والأناشيد الوطنية وحدها كافياً في هذا العصر بالذات لتحقيق اللحمة المفقودة بين المصري في وادي النيل وشريكه الآخر في صحراء سيناء المهمشة ؛ التي لايسمع فيها اليوم سوى هدير الطائرات الحربية وأصوات الكلاشنكوف ، وصدي تجوال الدبابات وغيرها من مجنزرات. لقد فوجيء أهل سيناء بعد إنسحاب إسرائيل عام 1982م أن السلطة السياسية والعسكرية الأمنية تتعامل معهم بكثير من الشك والريبة ؛ وتضعهم في خانة المتعاونين مع قوات الإحتلال .
3) تضييق الأمن المصري الخناق على أبناء سيناء لجهة سبل كسب العيش التي إعتادوا عليها وخبروها خلال الإحتلال الإسرائيلي. وبالطبع فإننا لا نحمد للإحتلال الإسرائيلي تحريضه الغير مباشر لتهريب السلع من وإلى مصر بما يضر وإقتصادها القومي .. وكذلك تهريب المخدرات بأنواعها من بودرة وحبوب هلوسة عبر سيناء إلى داخل مصر أو توطين زراعة الخشخاش والبنقو في واحاتها وبعض مناطقها الزراعية . وبما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز أهداف إسرائيل بتدمير الشباب المصري ، وضرب الأمة العربية والإسلامية في مقتل .. لا نحمد للإحتلال الإسرائيلي ذلك . ولا نوافق أن يحمد لهم بدو وأبناء سيناء ذلك .. ولكن الذي يؤخذ على النظام المصري عقب تحرير سيناء أنه لم يلتفت إلى كثير من المتغيرات في وسائل وسبل كسب العيش . والقناعات والمفاهيم والثقافات التي تشربها وتأثر بها أبناء سيناء كل على حسب عمره وحاجاته طوال سنوات الإحتلال الإسرائيلي .. وبالتالي فلا مندوجة من القول أنه كان خطئاً كبيرا أن يحاول النظام المصري العودة بأبناء سيناء إلى تمام الساعة التاسعة صباحاً من تاريخ 5 يونيو 1967م هكذا فجأة ودون سابق تخطيط وإنذار للبدء من جديد .. وهيهات. والملفت أن الرئيس الراحل السادات سارع بمكافأة أهل بورسعيد بقرار إعتبار مدينتهم منظقة تجارة حرة . فارتفع شأنها وأصبحت قبلة لجميع أهل مصر وارتفع مستوى معيشة ودخل أهلها إلى السماء .. ولكن سيناء لم تجد في المقابل نفس المعاملة التفضيلية من جانب نظام السادات أو حسني مبارك . وهو ما قد يكون أوغر صدور أبناء سيناء وعزز لديهم الإحساس بعدم الثقة المتبادلة ورغبتهم في الإنفصال ... وأما المشاريع السياحية التي نشأت في سيناء فهي في الواقع عبارة عن إستثمارات إسرائيلية شملت كما سبق وأشرنا العديد من مشاريع البنية التحتية التي أنشأتها إسرائيل طوال سنوات الإحتلال.
4) تلاقي المصالح المتقاطعة بين إسرائيل والأصولية الإسلامية لجهة بسط السيطرة على سيناء. لايشك عاقل في أن الأحداث السياسية الدامية التي مرت بها مصر جراء الخلاف على طبيعة وأساس الحكم ما بين إسلامي وعلماني ، وأدى في نهاية المطاف إلى الإطاحة بحكومة محمد مرسي .. إلخ. لا يشك عاقل في أنه كان وسيظل لهذه الأحداث والتغيرات السياسية أثرها الأمني السالب على جميع مصر ... وقد أصبحت سيناء اليوم ملاذاً آمناً للعديد من عناصر الأذرعة العسكرية للجماعات الإسلامية ، التي لن يرضيها بالطبع أن تؤخذ السلطة منها عنوة بعد أن وضعتها ثورة 25 يناير والإنتخابات التي أعقبتها على طبق من ذهب في حجرها. والذي كان يغيب عن ذهن البعض (الآخر) أن جماعات الإخوان المسلمين لم تعد كما كانت في السابق منفصلة عن بعضها إستراتيجياً ؛ أو معنية فقط بالشأن الداخلي الخاص بكل جماعة منها داخل بلدها. ومن ثم فقد فرض إنشاء تجمع الأصولية العالمية أن تتعقد وتتشابك المصالح بين جماعات الإخوان المسلمين ، والعديد من أجهزة الإستخبارات حول العالم .. والموساد الإسرائيلي يمارس على نحو خاص دور بارز في المنطقة .. ويلعب مع الكافة ألعابا "تكتيكية" شبيهة بلعبة الكراسي ويستثمر الكثير في البورصة الأمنية بالمنطقة .. وهي البورصة التي تشهد صعودا وهبوطا دراماتيكياً على نحو لا يتخيله سوى القائمين عليها ؛ والمستثمرين والشركاء الرئيسيين فيها. جميع البيانات والإحداثيات تشير إذن إلى تورط مباشر لجهاز الموساد الإسرائيلي في التمويل والدعم للعملية الإرهابية الدموية التي جرت مؤخراً في سيناء . وجاء ضحاياها من العناصر العسكرية والأمنية المصرية بهذا العدد الوافر ... وها هي الموساد الإسرائيلي تحصد اليوم بأسرع مما كان العقل يتصور ثمار نجاح هذه العملية الإرهابية ، حيث سارعت الحكومة المصرية بتنفيذ مطالب إسرائيل الملحة بإنشاء منطقة أمنية عازلة على الحدود مع قطاع غزة . وما أدى إليه ذلك من ضرورة تهجير نحو 250 عائلة سيناوية إلى أماكن أخرى .... وهو القرار الذي ظلت حكومة أنور السادات وخلفه حسني مبارك يترددون تارة ويمانعون تارة أخرى في تنفيذه طوال الفترة التي شهدت مباحثات كامب ديفيد وحتى تنحي مبارك.
مصعب المشـرّف 29 أكتوبر 2014م
|
|
|
|
|
|