عندما عرفته منذ نحو نصف قرن من الزمان،كانت أسرته قد انتقلت من السكن في عطبرة،مقر عمل والده في وظيفة مالية مرموقة في السكة الحديد، إلى مسقط رأس الأسرة في القطينة، اثر رحيل والده المفاجيء الذي تزامن معأولى خطوات صلاح في جامعة الخرطوم.تجاوز الصدمة وتعايش مع واقعه الجديد،وأحاطه أهله في القطينة بكل الحب الذي عوض شيئا من أبوة الوالد، وعبره ولجت لأهل ومجتمع القطينة وحصدت أواصر حميمة من المودة والألفة.تشاركنا السكن ومدرجات وقاعات المحاضرات والمواد الدراسية وصابونة الحمام وصباع المعجون مثلما تشاركنا وعشنا معا الأحلام الصغيرة والكبيرة التي كانت في رحم الغيب. كنا نتشارك قراءة خليط عجيب من الكتابات.. حلقات سيرة "الولد الشقي"التي كان يكتبها محمود السعدني على صفحات مجلة "صباح الخير" الأسبوعية المصرية، وسجالات صلاح أحمد ابراهيم مع عمر مصطفى المكي ومعارك حسن مختار مع اتحاد الكرة على صفحات جريدة "الصحافة"، على اختلاف طرح ونهج كل كاتب، وكنا نجد فيها متعة ذهنية كبيرة. في أيام الامتحانات كنا نحتفظ أحيانا بقصاصات هذه المقالات لنقرأها في وقت لاحق.كان يحفظ شرف ود المكي الجديدة عن ظهر قلب. ثم تشاء الصدف أن يصبح صلاح في سنوات لاحقة صهرا لأسرة حسن مختار.كانت أياما جميلة تلك التي أعقبت ثورة 21 أكتوبر 1964. كانت الطموحات مجانية بلا حدود، وكانت أحلامنا تلامس هامات السحاب. اختزلت كل صداقاتي في الدنيا في شخصه رغم الاختلاف بين أمزجتنا واهتماماتنا.وجدت فيه كل ما أتمناه.كان هبة سماوية في وقت كنت أحتاجها.كانت مشاعر متبادلة. كان سمحا سهلا يبلغ بحسن خلقه وحسن تعامله مع عباد الله ما يبلغه الصائم القائم،عصيا على الاستثارة والغضب، ينظر للدنيا ببساطة شديدة،ويأخذ منها أسهل ما فيها وبأقصر الطرق، بلا عنت أو عناء.تفرقت بنا السبل في دروب الحياة.كان هدفه واضحا وسهلا منذ البداية، فهو قد عشق سودانير والتحق بالعمل فيها، وحلق معها في كل محطاتها، وأصبح خبيرا في مجاله اجتذبته الخطوط السعودية وطيران الخليج لسنوات قبل أن يستقر في الخرطوم. أما أنا فقد تجاذبتني الدروب والحظوظ صعودا وهبوطا بعد أن تخرجنا معا في الجامعةثم عقود ثلاثة من الحلم بالمستقبل في بلاد الآخرين أو الاغتراب،وما زال الحلم التعيس مستمرا.كل منا كان سعيدا بخياراته وراضيا بمواقفه. تشاركنا السكن لفترات قصيرة بعد تخرجنا في الجامعة،ومثل كل تواصل انساني خبرت علاقتنا مثل كل علاقة بشرية الصعود والهبوط الذي يغذيه البعد المكاني، ولكن في كل مرة كان القرب الوجداني هو الغالب. كان في جميع الأوقات صفي الروح والأقرب إليها.باعدت بيننا السنين،ولكن كما يقول صفي الدين بن فتوح: بـعـدتــم ولـــم يبعد عـن القلب حبكم***وغـبـتم وانتم في الفؤاد حضور غــــرستم بقلبي لــــوعــــة ثمراتها ***هــمــوم لها حشو الحشاء سعير وتأخــــذ قـــلبي نــــشوة ذكـــركـم***كــمـا ارتـــاح صب خامرته خدور لم أتذوق طعم الموت،ولكني تذوقت طعم رحيل أخي صلاح الأمين الذي حدث يوم الأربعاء 30 ديسمبر 2015م والعام الموشك على الرحيل يأبي أن يرحل منفردا ويأخذ في جوفه صلاحا.رحل وهو لم يحمل في قلبه غلا على أحد ولم يخلف وراءه عدوا واحدا في الدنيا.لكم فقدت من الأحباب والأصحاب،ولكني هذه المرة أحس بأن قطعة مني قد سبقتني للقبر.الموت هو قهوة الصباح وكوابيس المساء،،والأعمار تزيد وتنقص، ولكن " مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ، إِلا فِي كِتَابٍ". طيب الله ثراه،ويرحمنا ويرحمه الله. "وآخر العمر طويلا كان أم قصير كفن من طرف السوق وشبر في المقابر". (عبدالله علقم) [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة