(كلام عابر)هبطت بنا طائرة الخطوط الجوية السعودية في مطار جومو كينياتا في نيروبي أواخر شهر أكتوبر الماضي وكنت قد غادرت ذات المدينة عبر ذات المطار قبل ثلاثة وسنين سنة وبضع أشهر،وانا أحمل ذكريات جميلة في معظمها عن مكونات المكان وعن الناس الذين ربطتني بهم أواصر الود لأكثر من ثلاث سنوات عشتها في تلك البلاد، وظلت هذه الذكريات مستعصية على النسيان، تقاوم عربدة السنين.ربما لأن كينيا كانت أول تجربة بقاء خارج الوطن لفترة طويلة، رغم أنها لم تكن تجربة اغتراب حقيقية مقارنة بكل ما أعقب ذلك في السنوات اللاحقة من وجع ومعاناة وضغوط ، ولم أكن حالة استثنائية. والذاكرة كما يعرفها العلماء هي القدرة على تذكر التواريخ والوجوه والحقائق والمعلومات والأشكال والمعطيات، لكني أحسب أن المسح الممنهج لذاكرتي قد تزامن مع وصولي مطار جومو كينياتا الذي كان فيما مضى من أجمل مطارات القارة.أصبح المطار القديم اثرا بعد عين بفعل فاعل يقال أنه قدم من وراء الحدود، بينما تجري الجهود على قدم وساق، كما قالوا، لإعادة البناء. هناك معلومة تاريخية قديمة،اطلعت عليها مؤخرا، أوردتها الراحلة الدكتورة وانقاري ماذاي،حاملة جائزة نوبل،في كتابها(عصية على الانكسار) تقول أن مدارج هذا المطار، التي تعود لسنوات ما قبل الاستقلال، قد بنيت سخرة بعرق ودماء الأسرى الكينيين من مقاتلي حركة الماوماو، وهي الحركة الوطنية الباسلة التي،رغم هزيمتها العسكرية واعدام قائدها ديدان كيماثي عام 1954، عجلت باستقلال كينيا وبددت كل وهم لدى المستعمرين بتكرار تجربة الاستيطان التي كانت في جنوب أفريقيا وروديسيا.عندما رفرف علم الاستقلال فك أسر هؤلاء الأسرى، لكنهم لم يستردوا الأرض فيما بعد مثلما لم يجدوا مكانا لهم في كينيا الجديدة.نفس الود القديم في المطار الذي ازدادت فيه وحوله القبضة الأمنية، والعيون التي تنظر لجيوبك باستحياء وعشم، ونفس الخضرة والطقس الجميل والسماء التي لا تخلو من السحب،والملابس الملونة،والوجوه التي لا تفارقها الابتسامة مهما بلغ بها التعب،لكننا احتجنا لأكثر من ساعتين لنبلغ وسط المدينة في زحفنا البطيء،وقد كانت المسافة من وسط المدينة إلى مطارها لا تستغرق أكثر من نصف ساعة. أصبحت كل شوارع نيروبي حلبة تتصارع فيها السيارات المستوردة من مختلف القارات، مع أفواج البشر على ذات المسارات الضيقة التي لم تعد تتسع للجميع. أصاب المدينة ما يصيب معظم عواصم العالم الثالث التي لا تقرأ المستقبل جيدا، ولا تحدث اضافات جوهرية في البنى التحتية التي ورثتها من الادارة الاستعمارية، فتتريف تلك العواصم تحت ضغط الهجرة العشوائية بشتى الدوافع والظروف. صار وسط نيروبي الجميل أشبه بالسوق العربي من حيث الازدحام وتصارع وهرجلة السيارات في مساحات ضيقة.في الحقيقة هذا التعبير ليس دقيقا بما يكفي،إذ لا يمكن الجزم بأن وسط نيروبي أصبح مثل السوق العربي تماما إلا من حيث ازدحام البشر والسيارات في مساحة ضيقة، فنيروبي حتى وهي بهذه الحالة تفصلها سنوات ضوئية عديدة عن الخرطوم، بمثل السنوات الضوئية التي تفصل كل شرق أفريقيا عن السودان،للأسف. هم على الأقل حافظوا على الجيد المفيد الذي ورثوه من الاستعمار البريطاني من نظام تعليمي وخدمة مدنية وسكك حديدية وحكم محلي ومنشآت،ولم يخربوا بيوتهم بأيديهم كما فعلنا نحن أوفعلوا بنا. بحثت عن مكتب حجز الخطوط الجوية السودانية في موقعه المتميز المجاور لمبنى البلدية، فوجدته قد تحول إلى بقالة كبيرة،وقضي الأمر. هنا عاصرت ابراهيم سليمان ابراهيم وجعفر محمد العطا وفتح الرحمن الحاج محمد الملك الذين جمعهم ذلك المكتب آنذاك، عليهم رحمة الله ورضوانه. عاصرت فيه أيضا في فترات مختلفة عمر عبدالله محمد خير وعبدالفتاح حسين راشد ومحمد كرار بلة. كانوا جميعهم قيمة مضافة لسودانير كثيري الولاء لها في زمن لم يسمع الناس فيه بعد بعارف وزمرته وشركاته. نفس هذا الولاء كان يتصف به موظفو سودانير من المواطنين الكينيين. كانت طائرات سودانير تسير في تلك الأيام رحلتين أسبوعيتين من نيروبي إلى فرانكفورت ولندن عبر الخرطوم، ورحلتين أٍسبوعيتين لجوبا، بكفاءة تشغيلية ومعايير سلامة وخدمة رفيعة المستوى رغم صغر حجم الأسطول العامل،وكانت سودانير تنافس أعرق وأرقى خطوط الطيران العالمية معولة على ثرواتها البشرية.. عرجت على مكتب سودانير الإداري في شارع موي القريب من مكتب الحجز والذي كان يستضيف مكتبي التابع لهيئة السياحة والفنادق السودانية،طيبة الذكر هي الأخرى مثل سودانير، فوجدت ذلك الجزء من المبنى قد أزيل من الخريطة، في هجمة العمارات الطويلة والأبراج التي غمرت المكان. كثيرا ما كان المرحوم العم كلمنت أمبورو يشرفنا بحضوره الأنيق،ويمتعنا بذكرياته الشيقة وتجاربه الثرية بطريقته الوقورة الهادئة في الحديث، فامتدت بيننا أواصر الود. كان العم كلمنت،وما زال،عظيما من عظماء أهل السودان، ولطالما سعى،كما لم يسع كثيرون غيره، لتجاوز المرارات التاريخية.الهجمة العمرانية الجديدة على النمط الأمريكي التي لا تخطئها العين في نيروبي غيرت كثيرا من وجه نيروبي القديم الموروث من الاستعمار البريطاني، وأتت على كثير من الأماكن والمعالم من والمساكن، والمكتبات، والمكاتب التي زالت تختزنها ذاكرتي. يبدو فعلا أنها ذاكرة تعيش خارج اطار الزمن والواقع، وتختزن أشواقا صنعها وتشبث بها الخيال."نزلتُ شَطكِ، بعدَ البين ِولهانا فذقت ُفيكِ من التبريحِ ألواناوسِرتُ فيكِ،غريبا ًضل َّسامرُهُ داراً وشوْقا ًوأحبابا ًوإخوانا"بعد أقل من يومين غسلت ذاكرتي تماما من آثار نيروبي القديمة،ثم أحسست بشيء غير قليل من الارتياح عندما أقلعت ذات الطائرة السعودية من مطار جومو كينياتا عائدة بنا إلى جدة بعد أيام قليلة في مدينة كانت علاقتي بها عابرة، ولم أعد أعرفها، وتوهمت من قبل أنها تعرفني وأعرفها. ربما لم يعد لها في الذاكرة الحية إلا الشخوص..سواء كانوا من بعض أهلها الذين لم أجد لهم أثرا ولم تبق السنين منهم إلا خيوطا ضبابية باهتة لاصقة بالخيال، أو أولئك الذين ما زالت أنفاسهم العطرة تحلق في الأمكنة..الدكتور جعفر كرار،الدكتور فتحي المصري،السفير سرالختم السنوسي، الأستاذ محمد المهدي سعد،زعيم الجالية محمد الحسن السيد، الدكتور حسن عباس التوم،الطيار معاوية خميس سطيح،وزملائي جعفر العطا وابراهيم سليمان وفتح الرحمن الحاج محمد، وعمنا الطيب كلمنت.طيب الله ثراهم جميعا. أحسب أنهم خير ما تبقى من نيروبي في ذاكرتي الجديدة المعدّلة.(عبدالله علقم)[email protected]أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة