وفي حديث ابن عباس: قيل له ما هذه الفُتْيا التي شَغَبَتْ في الناسِ؟ الشَّغْبُ، بسكون الغين: تَهْيِـيجُ الشَّرِّ والفِتْنَةِ والخِصام، والعامَّة تَفْتَحُها؛ تقولُ: شَغَبْتُهم، وبهم، وفيهم، وعليهم. مقدمة تعرضت بعد نشري للحلقة الثالثة والعشرين من مخطوطتي " . . . ومنصور خالد" في مجلة الخرطوم الجديدة في 2005 وما بعدها وفي الأسافير لحملة جاهلة طعنت في مصداقيتي الأكاديمية. وكنت عرضت في هذه الحلقة لوثيقة تحصلت عليها كشفت عن علاقة "قوالة"، كما وصفتها، بين منصور خالد، الطالب بكلية الخرطوم الجامعية وقتها، والمخابرات الأمريكية في 1953 عن طريق مكتب الاتصال الأمريكي. وجدت هذه الوثيقة في دوسيه بين مستودعات وزارة الخارجية الأمريكية بدار الوثائق الأمريكية بكولدج بارك بولاية مريلاند. واشتمل الدوسيه على تقارير عن النشاط الشيوعي في الفترة ما بين فبراير 1953 وسبتمبر 1954. ولكن مادة 1953 أغزر. وكان من بعث بهذه التقارير إلى وزارة الخارجية الأمريكية هو مكتب الاتصال الأمريكي بالخرطوم قبل أن تكون لأمريكا سفارة بعد استقلال السودان في 1956. وساء هذا الكشف عن وثيقة "قوالة" منصور شيعة منصور وتكأكأوا عليّ في سودانيزأونلاين تكأكأهم على ذي جنة يخطئون كشفي وحيثياته يميناً وشمالاً. ولم يتفقوا على خطأ قراءتي في زعمهم للوثيقة فحسب، بل أقبل بعضهم على بعض بالتهنئة لأنهم ردوني عن الافتئات على منصور. وسيأخذنا تجديد النظر في "قوالة" منصور، على ضوء طعن الطاعنين في سداد منهجي، إلى تعريفات وأعراف ومنشآت في الاستخبارات الأمريكية خاض فيها نقدتي بغير علم. رددنا على الشائنين في الحلقات الماضية على ما يلي من قولهم: 1-إن جون سويني، مدير مكتب الاتصال الأمريكي في 1953، الذي احتك به منصور كان دبلوماسياً مهنياً. وكشفنا أنه من أصول استخباراتية استعانت به وزارة الخارجية كما وضحنا. 2-وبيّنا أن حملة الدكتوراه في أمريكا مثل سويني خدموا مخابرات بلدهم بامتياز خلافاً لزعم شيعة منصور. 3-وقمنا بالتفريق بين الرسالة الدبلوماسية وتقرير الاستخبارات لنرد على شيعة منصور التي زعمت أن ما أدلى به منصور لسويني كان لرسالة دبلوماسية لا لتقرير استخبارات. وسنعرض في هذه الحلقة لمفهوم "القوّال" الذي قلنا إنه صفة لمنصور في مصطلح المخابرات. وسنضع المفهوم في سياق سائر مصادر المخابرات والتعريف بها. ومتى استقام معنى القوال في هذا النطاق كف شيعة منصور عن نقدنا كيف أخذنا ب"عمالة" منصور وهو تاسع آخرين في قائمة شملت كبار القوم. فكل شاة معلقة بكراعها. فمنهم القوال ومنهم غير ذلك. ومع ذلك فلا كبير في مصادر الاستخبار، ولا صغير. فمراد النفوس غلّاب. فإلى الكلمة الجديدة:
كان الطلبة تحت نظر شرطة السودان السياسية وبالذات من درسوا بمصر. فالديب يبلغ مكتب الاتصال الأمريكي أن من التطورات الرئيسة عودة طلبة الإجازة من مصر وقيام نشاط شيوعي صيفي من مايو إلى أكتوبر (8 أغسطس 1953). كما بلغ مكتب البوليس السياسي الأمريكان بسفر وفد شيوعي إلى مؤتمر للسلام بأستوكهولم ووارسو. ويبدو أن الوفد تكون من أحمد سليمان وعامر جمال الدين (31 مارس 1953). فقد ورد في قائمة أسماء الشيوعيين الملحقة بالتقرير (30 مارس 1953) أن أحمد وعامر شوهدا في مؤتمر بوارسو ربما كان لمجلس السلام العالمي. ونقل البوليس السياسي رسالة عن جريدة السودان الجديد، ونسبها لحزب الأمة، ما جاء في نشرة "قالا"، لسان حال مجلس الشباب العالمي (بوخارست)، أن شباب السويد يجمع تبرعات ليمكن الوفد السوداني من حضور اجتماعات مجلس الشباب العالمي في يوليو (8 اغسطس 1953). ومحرر جريدة السودان الجديد من مصادر مكتب الاتصال الأمريكي. وسيكون مثيراً كيف عرف محرر السودان الجديد بهذه المجلة القصية. وتتوجت جهود محاربة الشيوعية بصدور قانون محاربة النشاط الهدام الذي أجازه المجلس التنفيذي في 30 سبتمبر 1953 بمادة تحظر السفر لحضور مؤتمرات المنظمات الهدامة (4 نوفمبر 1953). . مصادر غير بشرية تجد المصادر للتقارير عن صدور قانون محاربة النشاط الهدام (سبتمبر 1953) كلها من تعليقات الصحف أو أخبارها واستجابة الجمعيات والمنظمات له (4 نوفمبر 1953). ونص القانون مأخوذ من غازيتة السودان (وفرها بالطبع أحدهم). وأيد القانون حزب الأمة بأعضائه في المجلس التنفيذي وعارضه إبراهيم بدري بحجة أنه اشتراكي أيضاً. ومن رأي الأمريكان في بدري أنه ريفي لا يبالي بخطر الشيوعيين الحضري (4 نوفمبر 1953). وقام مخبر بزيارة مدني خلال تحركات مزارعي الجزيرة لتحقيق مطالب معينة ولقيام اتحاد مبرأ من هئية مزارعي الجزيرة التي تستظل بإدارة المشروع. وذكر التقرير أن قائد الحركة هو الأمين محمد الأمين (5 ديسمبر 1953) جبهات الهمة: رصدت التقارير شغل الشيوعيين متى تحركت قطاعات مظنونة بالتأثر بهم. فتواترت الأخبار عن حركة المزارعين في المديرية الشمالية التي قللت التقارير من خطرها مع ذلك لأنها لملاك أراض لا معدمين. ولكن كانت خشية الأمريكيين أن يلحق بهم مزارعو دائرة المهدي الذين لا ينالون حتى الفتات من عملهم. واستبعد التقرير أن يتحرك مزارعو الجزيرة (12 سبتمبر 1953). ولكن سرعان ما تحركت هذه الجبهة حول مطلب اتحاد لهم ولمطالب مالية أخرى. بل ذكر التقرير ما تواتر عن مزارعي جبال النوبة ومطالبهم باتحاد لهم (5 ديسمبر 1953). ثم عكس المساومات التي تمت في الجزيرة لطي الخلاف (11 يناير 1954). القوال نحتاج لفض الخصومة حول "قوالة" منصور الني نسبناها له واستبعدتها شيعته إلى الوقوف عند تعريف "المصدر" في تقرير الاستخبار. نبدأ بالعودة للقول بأن تقارير المخابرات وحدها التي تذيل ب"قائمة مصادر المعلومات". فهذه القائمة لا ترد في الرسائل الدبلوماسية المهنية. فإذا تحدث السفير أو من دونه إلى أحد ونقلوا عنه إفادة في رسائلهم ذكروه بالاسم والوظيفة.
ورد اسم منصور كالاسم التاسع في التقرير السادس في ملف الشيوعية في السودان في قائمة وصفها الذي أعدها ب"المصادر الرئيسة للمعلومات". واحتج منصور وشيعته كيف استللناه سلاً من القائمة وفيهم رجال لا تطالهم شبهة التخابر من بينهم رئيس وزراء وضباط أمن كبار وموظفين مسميين ممن جاءت أحاديثهم إلى طاقم مكتب الاتصال عفواً، أو بحكم الاختصاص أو غيره. ويبدو أننا لطول ما ربطنا التخابر بالعمالة وب"شراء الذمة" ب"الدولار" برأنا منه ميسوري الحال والجاه. وسنرى أنه لا كبير على الاستخبار. لربما لم يكن المال هو نهاية المأرب عند بعض من أخبروا بشيء ولكن عساهم رأوا في الاستخبار سانحة لخدمة بخدمة من بلد موطد كثير المنافع. إذاً، ما تعريف "المصدر للمعلومة" في تقرير الاستخبار؟ يعرف الاستخباريون المصدر (source of information) بأنه شخص، أو نظام، أو نشاط تَسْتَحْصَل جهة الاستخبار منه المعلومات الاستخباراتية. وتشمل هذه المعلومات (information) بشكل عام كل القوالات أو المعلومات من أي مصدر كان، التي لم تخضع للتقييم بعد بدرجاتها المتفاوتة من المصداقية، والتي قد تنتفع بها وكالة الاستخبار كمعلومات استخباراتية. والمصدر في العمليات السرية غالباً ما كان عميلاً، أجنبيا في المعتاد، يعمل في نشاط استخباراتي. وهناك من المصادر ما لا سيطرة لأحد عليه يتطوع بالمعلومات وقد يعلم وقد لا يعلم أن ما أدلى به سيستعمل لشاغل استخباراتي. ويُفَصِل الاستخباريون في أنواع المصادر ومدى علمهم بما يقومون به والجزاء المنتظر لهم. فمنهم المخبر (informant) وهو الشخص الذي يزود بالمعلومات عميلَ مخابرات أو وكالة سرية أو البوليس، درى أو لم يدر. ثم هناك القوّال (informer) وتطلق على الشخص الذي يزود الشرطة أو وكالة أمنية بمعلومات عن أشخاص أو نشاطات مثيرة للشبهة. وعادة ما يحرك القوال نازع المكافأة. وأخيرا نجد العميل (agent) من بين المصادر. وتطلق العميل على الشخص الذي يقوم بنشاط استخباري سري تحت إشراف منظمة استخباراتية وهو ليس منها. فلا هو ضابطاً بها، ولا موظفا، ولا مستقطباً من خارجها للعمل بها (co-opted worker). ومهمته المعتادة أن يحصل على استخبار مفيد أو استخبار مضاد أو يساعد في الحصول عليه. ومتى وقفنا على هذا التعريف للمصدر الاستخباري، على سعته، لم يعد ثمة وجهاً للاحتجاج بفرزنا منصور عن القائمة لأن كل شاة مُخْبِرة معلقة من رقبتها. فإن كان منصور قوالاً كان معه مخبرون أو عملاء مما يتسع له مصطلح "مصادر المعلومات". وسننتقل بذلك إلى تعيين صفة منصور كمصدر استخباراتي: هل مخبر، أم قوال، أم عميل؟ مخبر وأخواتها مهما يكن فلا يعقل أن يكون إطلاع جهة مخابراتية بمعلومة هو عمل لله في الله. ولكن هناك من يؤثرون الآجلة وهناك من يؤثرون العاجلة. فَتَلقى مكتب الاتصال، كما وضح في التقارير موضوع نظرنا، معلومات بلا حصر من قسم التحقيقات الجنائية، البوليس السياسي برئاسة البوليس، فى علاقة واضح أنها تعاقدية ومؤسسية ربما من طرف واحد. فمد قسم التحقيقات الجنائية مكتب الاتصال بأدب الشيوعيين الذي عثر عليه، وخاض مع مكتب الاتصال في شأن محاربة الشيوعية كطرف أصيل. ولكن لا يخلو بابكر الديب من "عرض حال" مثل الشكوى عن ضعف استعدادات إدارته لمهمة محاربة الشيوعية، أو تباطؤ الحكومة في التشريع المُجَرِم للشيوعية (31 مارس 1953). بل نبه تقرير لمكتب الاتصال الأمريكي نفسه إلى أن الديب إنما يذيع وجهة نظر البوليس عن قوة دفاع السودان في قوله بعدم جديتها في محاربة الشيوعية بين الجنود (8 أغسطس 1953). وهناك من علية القوم من لا يتوقع مكافأة ناجزة ولكنه استثمار في بلد سوانحه قادمة للسودان. بل تجد إنجليزاً مسؤولين عن مكاتب العمل ومديري مديريات وحتى الحاكم العام يدلون للضابط المبلغ بمعلومات إدارية ونقابية واقتصادية وزراعية في دائرة اختصاصهم. وهم عالمون بالطبع أن المعلومة عند الحليف نافعة. ولكن الغرض من الخدمة غير بعيد عند غيرهم من السودانيين. فتطوع ضابط عمل سوداني بمعلومة للضابط الأمريكي المُبَلِغ بأنه حين بعثوا به لعطبرة ليتوسط في خلاف عمالي انتهز وجوده هناك ليشجع الجناح المناويء للشيوعيين ويدعمه (31 مارس 1953). وهذ ما نصفه ب"الحاري" لا "المتعشي" ربما. فسانحة مكتب الاتصال الأمريكي التي ربما أغرت به هي في فتحه لسوق شراء معلومات عن الشيوعية في بلد خبر الشيوعية مؤثر وكثير وجماهيري. وبدا التسويق لمحاربة الشيوعية واضحاً في بعض المصادر. هناك من وصفه مكتب الاتصال بمخبر (informant) جاء ببيان مزعوم لمركزية الحزب الشيوعي وترجمه في الإنجليزية. وأخبر، وهو الناظر بمدرسة وسطى، عن قوة الشيوعيين بين الطلاب والمدراس. وطلب مالاً لتأسيس كيان مضاد لمنظمة الحزب الشبابية. وأخطره مكتب الاتصال بأن طلبه خارج اختصاصه وسأل بدوره جهة الاختصاص في الخارجية الأمريكية إن كان ثمة وكالة أمريكية تتبنى الفكرة بعد التأكد من صحة مشروع الناظر (3 و10 فبراير 1953). وتجد من جهة أخرى بوادر بؤر لمحاربة للشيوعية (تقرير مخابرات السكرتير الإداري أول مايو 1951) ملحق بتقرير سويني (27 إبريل 1953) حقاً أو طمعاً في جاه المعز. فهناك صحفي شهد له الضابط المبلغ بشيوعيته السابقة، وبانخراطه لوقته في الترويج للعداء للشيوعية (أول مايو 1953). ومن بين من مد المكتب الأمريكي بمعلومات عن الحركة العمالية نقابي باتحاد العمال ومعاد للشيوعية (8 أغسطس 1953). وهناك موظف مميز أخبر الضابط المبلغ أن الشيوعيين بشخص عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة عرضوا عليه السفر إلى استوكهولم لحضور اجتماع لمجلس السلام بتذكرة مجانية في إطار جهودهم للوصول إلى شخصيات سودانية لم تكن في نطاق عملهم قبل. وقال إن بيد الشيوعيين أربع عشرة تذكرة سفر لهذا القطاع من الناس. وذكر له طمعهم في استصحاب أسماء كبيرة جداً في سماء الخرطوم للمهمة. واستغرب التقرير كيف رنا الشيوعيون ببصرهم إلى هذه المقامات (17 نوفمبر 1954). وستجد محمد أحمد المحجوب يخبر الضابط المبلغ أنه عارض قانون محاربة النشاط الهدام لأن الأجدى حرب الشيوعية بمزيد من الديمقراطية وبتحسين أحوال الناس (10 سبتمبر 1954).
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة