كلُ حدثٍ يُلامس الغرابة ويلفه الغموض، يخرُجَ بالضرورة إلى فضاء الميتافيزيقيا. من هُنا تغلّفت 19 يوليو بأسطَرةٍ تكاد تنقل الحدث إلى فضاءات التفكير الرغبوي، والأسباب لذلك كثيرة، منها الصمت الرسمي، ومنها عدم الإفراج عن الوثائق، بل حتى عدم الكشف عن قبور الضحايا. مضت 46 عاماً على الحدث ولم تزل التساؤلات تترى، لا وثائق الخارجية البريطانية تشفي الغليل، ولا الحزب يشرح التفاصيل. بعد نجاح انقلاب هاشم العطا، طلب عبد الخالق دعماً من العراق، لذلك كانت الخرطوم في صباح الأربعاء، 21 يوليو تنتظر هبوط طائرة الشهيد محمد سليمان الخليفة عبد الله التعايشي، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، التي أقلعت من بغداد تقل وفداً من قيادة قطر العراق بقيادة الرفيق حمَّاد شهاب، ووفد فني عسكري، لفتح وتحريك الدبابات الروسية في الجيش السوداني. سقطت الطائرة، في البحر أم في الرمال، أم أسقطها شيوخ أبو حراز؟ ذاك سر لم يُكشف أمره بعد. أغلب التحليلات تلتقي على أن طائرة النّجدة العراقية أُسقِطت في الربع الخالي، بصاروخ أُطلِق من قاعدة أمريكية في الخليج. كان السادات مُحرِّضاً لحجز طائرة الشهيدين، بابكر النور وفاروق حمد الله في طرابلس، ليُعدِمهما نميري في الخرطوم، طمعاً في تقوية الوحدة الثلاثية، تحت زعامة القذافي، أمين القومية العربية حينها. وتكاملت الحلقات علي قوى الاستنارة، بعد أن اتجه الاتحاد السوفيتي كليّةً، لدعم جناح أحمد سليمان ومعاوية سورج، المؤيد لمايو. عندما وقع انقلاب مايو 1969، كان الأستاذ محمود محمد طه في الأُبيِّض.. في محاضرته بعنوان (لا إله إلا الله) تحدّث عن الدستور الإسلامي الذي كانت القوى الطائفية تسعى الى تمريره من داخِل الجمعية التأسيسية: (هذه الجهالة التي تلتحِف قداسة الإسلام لن تمُر، والآن البلد جاهزة، ليقفز عسكري في أي لحظة ليستلم السلطة). بعد وقوع الانقلاب عاد إلى واد مدني وعقدَ جلسة يوم 28 مايو 1969 بمنزل الأستاذ جلال الدين الهادي، قالَ في تقدمتها ما معناهُ، أن ( نميري جاء في ساعة الصفر، وأنقذ الشعب من فتنة الدستور الإسلامي المزيف، وسيستمر في تنفيذ مهام روحية، هي كسر شوكة الطائفية وتقليم أظافر الشيوعية، وسيقوم بعمل في التنمية الاقتصادية وينشئ مشروعات، بعدها سيبدأ في التراجع، وتتكاثر أخطاؤه، وتبقى ظاهرة للناس، ووقتها سنبرز نحن لمعارضته وسيسقط على أيدينا). عندما وقع إنقلاب يوليو أطبقت الحيرة على بعض الجمهوريين ، فسأل أحدهم أستاذ جلال، الذي كان يقود حملة للدعوة وتوزيع الكتب بمدينة عطبرة.. سئُل جلال كقيادي جمهوري، عن أقوال الأستاذ محمود، التي قيلت في بيته، من أن مايو ستعمل، وستعمل، وستعمل..إلخ. وازدادت الحيرة، عندما أمسكَ هاشم العطا بزمام السلطة.. كان السؤال للأستاذ جلال: (هل تغيّر الكلام الذي قاله الأستاذ في بيتك، والّا، هاشم العطا دا، الجابو شنو)؟ أجاب جلال، بالّا يؤخَذ الحديث بصورة حرفية، لأن الأُستاذ (قد يكون قاصد العساكر، وليس بالضرورة نميري بالتحديد). بعد ثلاثة أيام عادت مايو، واستمرت في برنامجها، حتى هانت النفس، فتصدى الرجل لمواجهتها، و(قدّم للفدا، روحه، بنفسه). عادت بعد زخيخَ رصاصٍ ثقيلٍ. عادت بعد أن أمطروا الرّفيق هاشم العطا بألف طلقة، حزَّت صدره نِصفين، ومزّقت جسده أشلاءاً كان من المستحيل جمعها ودفنها.. ( لا تحفروا لي قبراً سأرقد في كل شبر من الأرض أرقد كالماء في جسد النيل أرقد كالشمس فوق حقول بلادي مثلي أنا ليس يسكن قبرا)..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة