النصف الثاني ثمانينات القرن المنصرم: آخر أزمنة الجميلة: زمان الانتفاضة.
لم يكن تتار العصر قد وصلوا بعد الى السلطة، لكنهم كانوا يتأهبون للإنقضاض على النظام الديمقراطي الوليد.
وكانت صحفهم تبشّر بقرب ظهور القوي الأمين الذي سيملأ الأرض عدلا وقسطا.
القوي الذي حين يصل بجماعته الى السلطة عبر الخديعة والانقلاب، سيستاسد فقط على ابناء وطنه الذين جاء بزعم حمايتهم، أما حين يتعلق الأمر بالعالم خارج الحدود، فسيكشّف عن نعامة ربداء تجفلُ من صفير الصَّافرِ! بدأ عهده بغناء الوعيد لامريكا التي دنا عذابها، وبالاعلان أنّ رضاء أمريكا يعني أن النظام حاد عن جادة الصواب والدين! وإنتهي بإقامة سرادقات الفرح إبتهاجا برفع امريكا العقوبات المفروضة على نظامه!
صباح قائظ من صباحات زمان الانتفاضة، مشحون بغبار نوّار النيم والليمون، وغبار معلّق في الفضاء البعيد، ينبئ عن أول إشارات الخريف: كنت أعاني من نوبة فرح، صوّرت لي العالم مثل جنة أرضية لا مكان فيها الا للمحبة، لو أنّ حمارا نهق لملت طربا، ورغم ذالك شعرت بالشؤم حين سمعت صوت الزين الملئ شجنا كأنه يتنبأ بالكارثة الوشيكة.
وجدته (يترنّح) وهو يقطع الشارع الرئيسي في المدينة، كان ثملا كعادته، قلت محذّرا: انت ناسي البلد فيها شريعة!.
أعلن: والله لو ربطوا لي الترابي قدام بيتي ما بقيف!
سيعرف بعد أيام قليلة (بعد أن طارت السكرة، وجاءت الفكرة).. أنّ الترابي (إتربط) (قدّام) الوطن كله!
كرّرت تحذيري: انت ناسي البلد فيها شريعة؟ ما خايف من الجلد!
قال نفس العبارة التي سمعتها منه قبل سنوات: نحن في الرقيص قاعدين ننجلد!
من كثرة ما تعرض للجلد أيام قوانين نميري السبتمبرية، اصبح قاضي الطوارئ صديقه، حذّره مرة بعد تنفيذ الجلد: انت زول طيب يا الزين، وكت تشرب اشرب في بيتكم ، مافي داعي تشرب وتطلع الشارع! دة سَكَر ولا ثورة! أنا خايف مرة يجيبوك لي قاضي غيري يبهدلك!
إستغلّ الزين الصداقة، ورفع ما تبقى من الكُلفة، أعلن للقاضي مفرغا الصداقة الوليدة مع القاضي من مضمونها المصالحي: أنا اصلا داير اجيك كاتل الرقبة؟ ما اربعين سوط كان منك ولا من غيرك!
كأنّه كان يعرف أنّ تلك كانت آخر مواسم الفرح، لم يكن مستعدا ولا حتى لاضاعة ثانية واحدة من زمن كان يمضي صوب المجهول، صوب زمان التمكين والنهب المصلّح، صوب عهد اللصوص، عهد الكذب، عهد لا يساوي فيه الانسان سوى ثمن طلقة رصاص يدفع ثمنها من عرقه ودمه!.
كأنه كان يشعر بدنو أجل زمان الفرح، لا وقت ولا حتى ليتوقف، ولا حتى ليستريح قليلا من عناء البهجة، الشارع الرئيسي ينتهي في نهر النيل، حين إعترضه النهر مضى فوق النهر كأنه يسير فوق الاسفلت، دون حتى ان تهتز شعرة من صوت غنائه: هات يا زمن ..جيب كل احزانك تعال .. جيب المحن.
كان يتوقف عند كلمة تعال، يفرغ فيها كل مخزونه من الخوف: تعال... كأنه ينادي على شخص في الضفة الاخرى من الحياة.
لحسن الحظ كان النهر العجوز في موسم التحاريق، يمضي في الرحلة الأبدية بطيئا حزينا، كأنّه كان يرى (فيما يرى النائم) هوج الرياح التي كانت على وشك ان تكتسح الوطن كله.
لحسن الحظ كان النهر يكاد يمضي تقريبا دون ماء في موسم تحاريقه، يستطيع طفل عبوره، دون أن يبتلّ وجهه، وليس سكيرا طويل الرجلين له من على البعد هيئة طائر البلشون.
سكرة لم يفق منها الا بعد أن (اتربط) الترابي (قدام) الوطن كله!
كان يغني هوج الرياح، صوته كان خشنا ورمليا قليلا(كأنه إبتلع حجرا) ضمن ما تعاطى من مكروه عمدا!
شعرت بحزن خارق، لم يكن يغني بصوته الجميل كعادته، كان يوّزع مخزون خوفه من الزمن الآتي على العالم! حتى صبية المدرسة توقفوا في صمت حين عبر بجانبهم، حتى طيور(القيردون) التي كانت تتقافز فوق رمال الشاطئ، وقفت في صفين طويلين مثل حرس الشرف، فيما عبر هو بينها ينثر في أحزانه الرملية في صمت الضحى، دون أن يكترث حتى للرحلة الطويلة التي قطعتها طيور القيردون المهاجرة بحثا عن مواسم الدفء والحَبْ والفرح!.
قلت له سيكون مناسبا مع مظاهرة سكره الاستعراضية الشارعية أن يغني: القطر الشالك إنت.. يتكسّر حتة حتة،
أو تمشي وتجي بالسلامة حمادة مع السلامة.أو بخُت الراية مع المراية بسيبك انت وبحب معاوية.. معاوية تش!
لم يكترث لملاحظتي وواصل في غنائه:
طول يا أسى وكتّر ينابيع الشجن
كأنّه كان يتنبأ بهوج الرياح التي كانت على وشك الهبوب، تجلب الأحزان والمحن، لتذر الوطن كله قاعا صفصفا، كل شئ فيه معروض للبيع السريع.
شرح لي من داخل الاغنية، وكأنه يؤدي إحدى مقاطعها، حتى أنني لم أشعر بأنه خرج عن النص: منذ أيام لا أشعر برغبة الا في أداء هذه الأغنية!
جرعني كاس من لوعة من آلامي ما المحبوب خلاص
خلاني ليك الليلة راح
لم أكن بحاجة لنبوءة مغني شارع، سكير، لأتبين نُذر الكارثة التي كانت تنسج في رحم الغيب، فالمؤامرة كانت معلنة.
حين تجاهل اقتراحي الاول، حاولت حمله مرة اخرى على تجاوز مرحلة هوج الرياح، إقترحت عليه أغنية خفيفة، كنت أحب الاستماع اليها، كانت بإيقاعها السريع وعتاب كلماتها الطيّب، تصلح لوضع حواجز في الذاكرة حتى لا تختلط أزمنة الفرح والحزن:
يا الغاريك جمالك .. الزينا نحن ما بستاهل..
غنيت معه حتى أنقله الى أغنية اقل شؤما،: في دربك كم شقينا .. بدمع العين بكانا!
لكنه كان يصر على السير في الدرب الموازي، الدرب الذي يكاد يضيع في متاهة كلمات لحنه الحزين :
خلاني وحدي جناح كسير
وانا والدموع والشكوى والليل والشجن
رماني ليك راح يا زمن
وخلى الشجن!
توقف فقط ليقول معلقا على إقتراحي : شوف لينا غنية بتاعة رجال! دة غنا شنو دة؟ زول بيغني تقول ساكي ليه قطر! الغنا عاوز رواقة، عاوز الزول يقعد ويقعّد الكلام!
جيب كل أحزانك تعال جيب المحن!
وقفت أمام صفوف القيردون الحزين أرقبه يعبر النهر، مع هوج رياحه، وكأنّ وصوله الى الضفة الاخرى كان ايذانا ببدء هبوب العاصفة، التي إقتلعت الأشجار ورمال الصحراء، العاصفة الهوجاء التي ستفضي بوطننا الى تاريخ الشؤم: الثلاثين من يونيو العام 1989!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة