|
نيران الشرق الأوسط السرمدية/الفاضل عباس محمد علي
|
مقال الجمعة 18 بسم الله الرحمن الرحيم الفاضل عباس محمد علي
أردت كالعادة أن أكتب عن آخر التطورات في بلدي السودان، من منطلق الاكتفاء الذاتي، أي إن (بنا ما يكفّينا)، وإذ أننا يجب ألا نتحول إلي ظاهرة كالسيد الصادق المهدي، (عدالة القُصص أم قُصةً عوجاء)، فنشرّق ونغرّب، ونحشر أنوفنا في شؤون الآخرين، خاصة إخواننا العرب الذين يضحكون في سرهم (وأحياناً في جهرهم) عندما نخاطبهم وكأنا عرب مثلهم. وقد سألني أحدهم ذات مرة (واحدة من مليون مرة مثلها): أأنت من الشمال أم الجنوب؟ فألقيت علي مسامعه محاضرة مطولة عن سخف السؤال، وعن الأصول العربية لسكان شمال السودان، غض النظر عن سمرتهم (خضرتهم = خضرة البرسيم)؛ وعرّجت علي نظرية الراحل عبد الله الطيب عن هجرة المسلمين الأولي التي زعم أنها كانت للسودان (ممالك النوبة آنئذ)، وأن تلك البقاع كانت تسمي إثيوبيا، وأن النجاشي في حقيقة الأمر كان ملكاً علي تلال البحر الأحمر؛ وحدثته عن الأُدمة (لون أبينا آدم نفسه)، وعن الخُضرة التى تفاخر بها شعراء الجاهلية: (أنا أخضر العرب!)، وتحلي بها المسلمون العرب الأوائل مثل سيدنا عمر بن الخطاب. وكان محدثي يحدق فيّ بكثير من الحيرة والريبة والضجر، وعلي وجهه ابتسامة ماكرة وساخرة، وبدا لي أنه قد تشكك في قواي العقلية. ومن كثر ما تكرر هذا المشهد عبر ما يربو علي العشرين سنة، ومن كثر ما قرأت وعايشت وسمعت، قلبت ظهر المجن لعروبتي المزعومة، واكتفيت بسودانويتي المؤكدة، عملاً بالمثل السوداني: (عبداً بسيده ولا حراً مجهجه). وبصراحة، معظم أقوام شمال السودان "مجهجهون"، ولا يدركون أنهم "مجهجهون". بيد أن ذلك لا يمنعنا من التأثر والانفعال بقضايا الوطن العربي بحكم الوشائج العديدة الأخري، السياسية والإنسانية والتراثية والثقافية (اللغوية بالذات) والمصالح المشتركة، وبحكم الجوار والتواجد في نفس الفضاء الجيوبوليتيكي المسمي الشرق الأوسط. وعلي هذا الأساس، فقد شق علينا كثيراً ما يتعرض له المدنيون في شمال العراق علي يد المليشيات الإسلاموية الإرهابية، داعش وأخواتها، وما يتعرض له الشعب السوري علي يد الدكتاتور بن الأسد من جانب، وتلك الجماعات الأصولية من الجانب الآخر. ومن الواضح أن الإسلاميين حريصون علي عدم تكرار الخطأ الذي ارتكبوه في دول ما يسمي بالربيع العربي، خاصة مصر، وهو التماهي مع الانتفاضة الشعبية وتبني شعاراتها والامتثال لاستحقاقاتها الانتخابية؛ وذلك خطأ تكتيكي قاتل في نظرهم، إذ حتي لو أحرزوا أغلبية تسمح لهم بحكم البلاد، فإنهم سرعان ما ينكشفون وتفضح مخططاتهم، ويصبح عسيراً عليهم الانفراد بالأمر؛ فالديمقراطية شَعرٌ ليس للإخوان عنقٌ تليق به، وخير لهم أن يسرقوا الثورة قبل أن تبلغ محطتها الأخيرة، وهي الانتصار وإزالة النظام الذي ثارت ضده الجماهير. ولذلك، أخذوا يتدافعون نحو سوريا والعراق لما أحسوا بقرب زوال النظامين الحاكمين بتلكما البلدين المضطربين. ومن ثم، شرعت فلول "الدولة الإسلامية بالعراق والشام" في توجيه نيرانها ضد رفاق الخندق الواحد بسوريا - القوي الوطنية المعارضة الأخري، مما جعل نظام الأسد يتنفس الصعداء، وهاهو يقترب من عامه الرابعalive and kicking متصدياً للثورة الشعبية التى لم تفلح في الإطاحة به، كما فعلت رصيفاتها في تونس ومصر واليمن. وفي خضم هذه المعارك الملتهبة في سوريا والعراق، ألقت إسرائيل بدلوها، ووجهت ضربات موجعة ومدمرة overkill لقطاع غزة، ولبعض التجمعات السكنية الفلسطينية بالضفة الغربية، بدعوى الرد علي الصواريخ التي تطلقها حماس بين الفينة والأخرى علي تل أبيب وبعض المدن الإسرائيلية، رغم أنها لم تتسبب في مقتل أي إسرائيلي خلال الدورة الأخيرة من العدائيات. ومن وسط دخان هذه المعمعة (الدربكة) تبرز بعض التساؤلات: • ما هو الدور الحقيقي للحكومة الأمريكية وحلفائها الغربيين، ومن بينهم إسرائيل؟ هل هم جادون في القضاء علي نظامي الأسد ونور المالكي، أم تراهم يناورون لحاجة في نفس يعقوب؟ • في مصلحة من تصب العدائيات اللانهائية بسوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية؟ • ما هي الخريطة الجديدة المتوقعة للشرق الأوسط عندما تضع هذه الحروب أوزارها؟ • هل ستظل إسرائيل صامدة ومهيمنة، بلا حل لقضية الشعب الفلسطيني؟ وما هي مآلات نظرية "الدولتين" اليهودية والعربية؟ • ما كنه الدور الذى تلعبه كل من روسيا والصين فيما يختص بهذه المنطقة؟ وبالطبع، تصعب الإجابة علي هذه التساؤلات في ظروف الشرق الأوسط الحالية اللزجة والملبدة بالغيوم، والمفعمة بالمفاجآت وتغيير التحالفات وعدم ثبات ميزان القوى، وبتفجر وتصاعد التنافر والشقاق الطائفي والإثني والمناطقي، وبصعوبة توطين ثقافة الحلول الديمقراطية التفاوضية في بيئات طابعها الجهل والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، بعد مئات من سنين الحكم الاستعماري، أعقبته عشرات من سنين الاستبداد والكبت والطغيان المحلي. وبينما يتطور باقي العالم ويصعد نحو قمم الحضارة التكنولوجية والتقدم العلمي والرفاهية والسعادة، ترزح شعوبنا تحت أنظمة شمولية عسكرية راكدة ومتكلسة ومتحجرة، كما هو الحال في السودان، أو تمر بالمراحل السابقة لذلك، عبر الحروب التي تشنها المنظمات الإرهابية المتربصة بالحكم في العراق وسوريا وليبيا واليمن وربما البحرين وتونس والمغرب والجزائر (إذا قضي بوتفليقة نحبه)...إلخ. وحيث أن المحصلة النهائية هي أنظمة لن يكتب لها البقاء إذا لم يرض عنها الغرب، فإن الفوضي الحالية فيما يبدو هي "الفوضي الخلاقة" التي أرست دعائم نظريتها قونداليزا رايس مستشارة الرئيس السابق جورج بوش الإبن: فوضي ستتمخض لا محالة عن كل ما يرضي الإمبريالية الأمريكية، ولا يمس مصالحها الاستراتيجية بالشرق الأوسط، وهي: - استمرار تدفق النفط، خاماً ومشتقات، بأسعار لا يتحكم فيها العرب؛ واستمرار قناة السويس مفتوحة وسلسة ونشطة؛ واستمرار دولة إسرائيل الحليف الأول للولايات المتحدة والغرب - حية ويقظة وقوية عسكرياً؛ واستمرار توازن القوي بالشرق الأوسط لصالح الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، وذلك بوجود أكبر عدد ممكن من الأنظمة الموالية للغرب بالمنطقة، وبضمان تفوق إسرائيل العسكري الاستراتيجي علي مجمل الدول العربية المحيطة بها، من الخليج إلي المحيط. وما فتئت النيران المتأججة بسوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن تعمق الجراح وتفاقم الخلافات السياسية والطائفية والإثنية البينية بتلك الدول، وتشل قدراتها وتفت في عضدها وتشتت شملها وترهق اقتصادياتها. وليس هنالك ضوء في آخر النفق، ولعلها ستستمر كحرب البسوس المئوية، أو كحرب الأوس والخزرج لعدة أجيال. ومن المؤكد أن الدولة بشكلها الحديث الذي عرفته تلك البلدان منذ العهود الاستعمارية، سيتوارى تماماً، وتحل محله أوضاع كالتي نشهدها اليوم في الصومال وافريقيا الوسطي وزائير والسودان. وأياً كانت العصبة التي ستطفو للسطح بعاصمة أي من تلك الدول المهترئة، فإن الغرب سيسعي للتعاطي معها، حتي لو كانت الشيطان الرجيم نفسه، إذ أنه يستطيع أن يلوى ذراعها ويمرر أجندته، ويفرض توازن القوي الذي يفضله بين الغرب وإسرائيل من جانب، والدول العربية - طارفها وتليدها - من الجانب الآخر. إذاً، فالغرب له مصلحة في ما يجري من خراب ودمار وإحن وفتن بدول الشرق الأوسط العربية؛ وإذا قرر أي شعب من الشعوب أن يسلك طريق الانتحار الجماعي، فإن الغرب لن ينصب نفسه هادياً وناصحاً له، بل سيتركه to rot in its own #### كما هو الحال في الصومال الذى لم يجد من يقول له "عينك في رأسك"، منذ مقتل الجنود الأمريكان وسحلهم فوق رمضاء مقديشو أيام الرئيس بل كلنتون - (عملية Black Hawk Down 1993)؛ ولم يتوقف الأمر على الولايات المتحدة والغرب الذين رفعوا أيديهم كليةً عن تلك الدولة المأزومة، بل ضربت الأمم المتحدة وما يسمي بالأسرة الدولية صفحاً تاماً عن المسألة الصومالية، ولا أظن أن الصومال سيفيق مما هو فيه من كبوة حتي ظهور المسيح الدجال. وذلك درس في العلوم السياسة تمعن الغرب فيه ملياً، وخرج منه بملاحظات ثمينة ستعينه لا محالة في الإجابة علي السؤال : كيف تتحلل الدول الغربية من مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الدول المستعمرة سابقاً - وكيف تخرجها من كشف المساعدات التنموية، وتتركها للأصوليين والفوضويين واللصوص والمغامرين، ليعملوا فيها بتراٌ وتقطيعاً وتهشيماً وتهميشاً حتي تتآكل وتختفي من الوجود!؟ كيف يحشرون دولة كاملة بشحمها ولحمها في ثقب التاريخ الأسود؟ إن الهلال الخصيب ليس رقماً عادياً يمر عليه الغرب مرور الكرام؛ فهنا كانت البذرة الأولي للثورة العربية المناوئة للإستعمار الأجنبي منذ بداية القرن العشرين، منذ أيام أمير الحجاز الشريف حسين سليل المصطفي عليه الصلاة والسلام، تلك الثورة التى استهدفت في أول أمرها الاحتلال التركي العثماني. ولكن الغرب، ممثلاً في فرنسا وبريطانيا، الذي كان في حالة حرب (1914-1918) ضد تركيا وحلفائها، استغل الثورة العربية لخدمة مآربه الاستراتيجية، وتحالف مع الثوار العرب، الذين اكتشفوا أنهم بالفعل قد تخلصوا من الوجود العثماني التركي، ولكنهم وجدوا بلادهم كلها قد تحولت إلي مستعمرات ومحميات بريطانية وفرنسية. ولقد استمرت تلك الأوضاع الجائرة حتي اندلعت الحرب الكونية الثانية 1939-1945، ومن بين ركامها خرجت إسرائيل في مكان الدولة الفلسطينية التاريخية والجغرافية التى كانت تحت الوصاية البريطانية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتي عام 1948، كما خرجت دول الشرق الأوسط بلا استقلال يشفي الغليل، إنما بخضوع شبه كامل للنفوذ الغربي - في شكل أحلاف وقواعد عسكرية أمريكية وبريطانية وأنظمة موالية للغرب؛ ولقد استحال أبناء الثائر الشريف حسين إلي stoogesأدوات منفذة للمخططات الاستعمارية والصهيونية بالمنطقة: فيصل ملك سوريا ومن بعدها العراق، وعبدالله ملك شرق الأردن Transjordan والد الملك حسين، عليهم رحمات الله. بيد أن الثورة العربية تجددت مرة أخري، منطلقة من بلاد الشام والعراق، أول دول حققت استقلالها في المنطقة العربية بأسرها، وبرز من وسطها المفكرون السياسيون والمثقفون العمالقة مثل ساطع الحصري وأنطون سعادة وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي وميشيل عفلق - ورشيد عالي الكيلاني ومحمد مهدي الجواهري ومعروف الرصافي..إلخ. وهؤلاء هم الذين أوحوا لجمال عبد الناصر وللضباط الأحرار المصريين بضرورة التلاقح مع الثورة العربية من أجل بعث الروح القومية العربية المتوثبة ضد الاستعمار بكافة تجلياته التقليدية والحديثة، وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة (الاشتراكية)، فوق أرضية من الوعي السياسي والثقافي الذى يحصّن الجماهير ضد الخرافة والدجل والطائفية والشوفينية، ويدفعها نحو العمل الجاد والدؤوب لبناء الأوطان العربية الجديدة، وإدخالها في قاموس الاستنارة والتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي الذي شهدته الدول الغربية واليابان بعد الحرب الكونية الثانية. وهكذا، التأمت الحركة الوطنية المصرية مع أختها الشامية، إلي أن تكلل ذلك الوفاق بالوحدة المصرية السورية عام 1958، غير أنها دامت حتي 1961 فقط بسبب المؤامرات الاستعمارية، (حسب رأي محمد حسنين هيكل وغيره من مفكري ستينات القرن العشرين)، وأيضاً بسبب غياب الديمقراطية وحرية التعبير والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وسلبيات أخرى عانت منها الأنظمة الداعية والراعية لتلك الوحدة. وبلاد الشام والعراق لها عمق تاريخي وأهمية رمزية يدركها الغرب تماماً؛ فهنا تمحورت الدولة الأموية ووريثتها العباسية اللتان حكمتا الجزء الأكبر من العالم من القرن السابع إلي الثالث عشر الميلادي، من حاضرتيهما دمشق ثم بغداد. وهنا ازدهرت العلوم والكيمياء والرياضيات والفنون والموسيقي والعمارة والفلسفة والأدب والشعر، وكانت للحضارة العربية الإسلامية المشعة من منطقة الهلال الخصيب مساهمة إيجابية مؤثرة في مسيرة البشرية كلها، مساهة أنقذت أوروبا من ظلام القرون الوسطي The Dark Ages الذي ران عليها منذ انهيار الامبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي؛ ولم يترجم ويحفظ العرب التراث اليوناني/الهيليني والروماني السابق لهم فقط، كما قال اللورد بيرتراند رسل في "تاريخ الحضارة الغربية"، إنما طوروا ذلك التراث وأعادوا تفسيره وأضافوا إليه الكثير، بينما كانت أوروبا تغط في نوم عميق. وبالإضافة للأهمية التاريخية الرمزية لمنطقة العراق والشام، فهي غنية بالثروات الطبيعية كالنفط والمياه العذبة المتدفقة من دجلة والفرات وبردي، وبالموارد البشرية المؤهلة والمتعلمة منذ بدايات القرن العشرين، وبالمناخ المعتدل والإمكانيات الزراعية (العراق) والصناعية (سوريا) المهولة. ولو استمرت هاتان الدولتان عبر العقود المنصرمة في سيناريو متماسك ومضطرد وهادئ وسلمي للتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي، علي بساط من الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان، لتفوقتا علي إسرائيل وبلغتا شأو الدول الناجحة مثل اليابان وألمانيا الغربية (اللذين دمرتهما الحرب تماماً وأرجعتهما للقرون الوسطى، ولكنهما خلال عقد واحد حققا معجزة التقدم والتفوق الاقتصادي النموذجية المعروفة). وفي هذه الحالة، كان حرياً بإسرائيل أن تفقد الحجة التي تبرر وجودها المدعوم من الغرب: كونها الديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط والدولة الصناعية المتفردة والمزدهرة في مجال الحاسوب وتقنية المعلومات وتصنيع الأسلحة الخفيفة وهلم جراً. وإذا كسبت تلك الدول العربية الحرب الاقتصادية والحضارية ضد إسرائيل، فإن الحرب العسكرية قد تفقد أهميتها، أو على الأقل تصبح تلك الدول ذات شوكة اقتصادية ينجم عنها استقرار وسؤدد وتقدم، ويصبح في مقدورها أن تعد القوة ورباط الخيل وكل ما يؤهلها لاستعادة الحقوق العربية الفلسطينية المغتصبة. ولكن، على كل حال، لن تسمح إسرائيل، ولن يسمح الغرب الذي تحرضه وتضلله هذه الدولة المغتصبة، لمنطقة الشام والعراق أن تنفض غبار السنين عن كاهلها، وأن تجمّع أطرافها وتيمم وجهها شطر القرن الحادي والعشرين. وخير من يقوم بهذا الدور التثبيطي والتخذيلي الهدام هو حزب البعث الفاشستي - جناح العراق وجناح سوريا - والتيارت الإسلاموية المتطرفة المتفرعة عن تنظيم الإخوان المسلمين، مثل داعش. ولقد كتب الأستاذ م ح هيكل مطولاً ومفصلاً منذ فشل الوحدة المصرية السورية عام 1961 عن الفرص المهدرة جراء ذلك الفشل، وعزا الأمر للإمبريالية الأمريكية والغربية التى ظلت وستظل تسعي بكل ما تستطيع من قوة للحيلولة دون التقاء التيار القومي العربي المنطلق من الهلال الخصيب مع الحركة الوطنية المصرية، لأنهما بمثابة فكين ضخمين ستصبح إسرائيل بينهما مجرد لقمة سائغة يمكن ازدرادها في أي لحظة. ومن ناحية نظرية، فإن الوحدة العربية الجزئية أو الكلية هي السلاح الأكثر مضاءاً في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بفلسطين، وفي التصدي للمخططات الإمبريالية الهادفة لإخضاع المنطقة برمتها للنفوذ الأمريكي والغربي. ولكن، يجب أن تبني تلك الوحدة علي أسس جديدة موضوعية ومقبولة لدي الجماهير، وليست مفروضة من أعلا هرم الدولة. فكل التجارب الوحدوية التى تمت منذ السورية/المصرية 1958-1961 كانت متعثرة وفاشلة: مثل الوحدة المصرية/اليمنية في الستينات، ثم محاولة الوحدة بين مصر والسودان وليبيا عام 1970، وهكذا. ونستثني من ذلك، التكتل الاقتصادي بين بلدان الخليج العربية (مجلس التعاون الخليجي)، لأنه قد تم بين فرقاء شبه متكافئين من حيث الموارد والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، ولأنه مشيّد علي أسس موضوعية محددة، وعلي خطوات مدروسة ومراحل سلسة تقود إحداها إلي لأخرى، وليس علي الشعارات الطنانة والديماجوجية، وعلى اللهفة والاستعجال الصبياني. ولقد كتب هيكل في أهرامه (بصراحة) بعد نكسة 1967 قائلاً إن الدول العربية التى تريد أن تتصدي للعدوان الإسرائيلي تحتاج أولاً لبعث الطمأنينة والثقة في نفوس شعوبها، لا أن تحكمها بالكبت وتكميم الأفواه؛ فلا بد من ترسيخ الديمقراطية وحرية التعبير وصيانة حقوق الانسان في مجتمعاتها، قبل أن تتصدي لإسرائيل ومن خلفها الغرب والولايات المتحدة، وهي جميعها دول ديمقراطية، ولا يفل الديمقراطية إلا ديمقراطية مثلها. وما يشير إلي أن الغرب مستعد للتعاطي مع الأنظمة الفاشية التى قد تتمخض عنها المعارك الحالية بالشام والعراق وليبيا واليمن، ما ظل يحدث في السودان منذ خمس وعشرين سنة. ففي هذه البلاد المنكوبة سطا الإخوان المسلمون على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، وحكموا بالقهر والكبت، وأذلوا المعارضين السياسيين وعرضوهم لأبشع أنواع التعذيب، وفتكوا بالأقليات الافريقية المطالبة بحقوقها الدستورية وبنصيبها في الكعكة القومية، في جنوب السودان، ثم في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وشرعوا في تفتيت البلاد إلي كانتونات متشاكسة ومتحاربة، إلي أن تآكل السودان وأصبح علي مشارف الدخول في ثقب التاريخ الأسود. ولما دخل نظام الإخوان المسلمين في محادثات مع الثوار الجنوبيين عام 2002 بكينيا بغرض التخلص من ذلك الجزء من الوطن، سكت الغرب عن أحاديثه حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ظل النظام الإخواني يمارسها، وشارك في تلك المحادثات معضداً وممولاً ومشرفاً برتبة الأخ الأكبر Big Brother؛ وضرب الغرب صفحاً عن المعارضة الشمالية ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي، بل أوحي لها بمباركة المحادثات وما تمخض عنها: اتفاقية نيفاشا 2005 بين حكومة السودان والحركة الشعبية بقيادة الراحل جون قرنق. ولما تفجرت العدائيات الفظيعة بدارفور عام 2003 التي نجم عنها آلاف الضحايا وملايين المشردين بمعسكرات النازحين بالدول المجاورة، أحدث الغرب أصواتاً هنا وهناك متضامناً مع الشعب الإفريقي الدارفوري الذي طحنته ماكينة الإخوان المسلمين الإرهابية، ممثلة في مليشيا الجنجويد. ولكن المخابرات السودانية دخلت في حلف وثيق مع رصيفتها الأمريكية، السي آي إي، وذهب رئيسها صلاح غوش لواشنطن علي متن طائرة أمريكية خاصة، وأبرم اتفاقاً مع ذلك الجهاز سلمه بموجبه كل ملفات الإرهابيين الإسلاميين (الأفغان العرب) الذين لاذوا وكانوا مقيمين بالسودان، وسلمه كذلك بعض أولئك الإرهابيين. ومنذ تلك الأيام حتي الآن، لم تحرك الإدارة الأمريكية ساكناً بخصوص الانتهاكات السودانية التى ما زالت مستمرة، خاصة في مناطق العدائيات الجديدة بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، منذ 2011، بالإضافة إلي دارفور. وعلي الرغم من أن الرئيس السوداني مطلوب لدي محكمة الجنايات الدولية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في دارفور منذ عشر سنوات، فإن الحكومة الأمريكية تتظاهر بأن ذلك أمر غير ذي بال، والرئيس السوداني يجوب الآفاق، من قطر إلي إثيوبيا ومصر، والأسطول السادس والسابع الأمريكي يتظاهر بأن تلك التحركات غير مرصودة. ولو كانت الحكومة الأمريكية جادة في إحضار الرئيس السوداني لمحكمة الجنايات، لما كلفها ذلك أكثر من بضع مارينز مثل أولئك الذين أرسلوا إلي جمهورية بنما أيام الرئيس جورج بوش وأتوا برئيسها نورييقا مصفداً بالأغلال ليواجه المحاكم الأمريكية؛ ومثل أولئك الذين اقتحموا السماء الباكستاني وحطوا رحالهم المكون من ثلاث طائرات عمودية علي سقف منزل أسامة بن لادن، وأردوه قتيلاً، مع سبق الإصرار والترصد، وفروا بجثمانه ليلقوه في عرض البحر. إن الحركات الإرهابية التي تنفث سمومها بالشام والعراق والصومال وليبيا واليمن، والأنظمة الأصولية المتحالفة مع النظام الإيراني، مثل البعث العلوي السوري، والنظام الإخواني الحاكم في السودان، جميعها أدوات تتحكم فيها الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، وجميعها تمارس تخريباً يصب في مصلحة تلك الجهات الاستعمارية، علي الأقل باعتقال الدول العربية في محطة الاقتتال الداخلي، وبعرقلة حركتها، وبالتالي تعطيل تقدم كل الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط، حتي يخلو الجو لإسرائيل، وحتي تستمر المصالح الغربية غير مهددة. اللهم ببركة هذا الشهر العظيم انقذ شعوبنا من جرثومة الإخوان المسلمين وتجلياتها النشطة بالهلال الخصيب وبلاد السودان. والسلام.
|
|
|
|
|
|