ليس الغنى هو أن توزع الدولة المال أو حتى وسائل الانتاج للفقراء ، فهذه نظريات عفا عليها الزمن ، غنى الدولة -الآن في مدى توفيرها للفرص واتاحة المزيد من الخيارات لمواطنيها . فالدولة الفقيرة تنضب فيها الخيارات أمام الفرد للتحرك للأمام ، فيصبح عاجزا مشلول الحركة ، حتى يبلغ الأمر به أشده فيعلق آماله على التدخلات والمعجزات الماورائية والأوهام والدجالين من فكيا وسحرة وخلافه . منذ عام 1989 بدأت عملية التمكين في السودان ، تم إقصاء كوادر مؤهلة مستبدلة بأخرى غير مؤهلة سوى عبر انتمائها السياسي ، وظل هذا المعيار الأخير حتى اليوم هو معيار شغل الوظيفة العامة بكل مستوياتها ودرجاتها، وكلما كان الشخص أقل تأهيلا كلما كان الأكثر ولاء ﻻنه لا يجد لنفسه كينونة سوى عبر انتمائه الضيق والفوائد التي يجنيها منه. في السودان يمكنك أن تجد مهندس يقود ركشة ، وفي نفس الوقت مراسلة لم يفك الخط إلا لماما مديرا لمكتب الرئيس أو تجد طبيبا يستقل المواصلات العامة ووزيرا أو ولائيا كل مؤهلاته أنه حمل السلاح يوما ما ، أو كان من العوائل ذات الشرف والقداسة التاريخية ...وهلم جرا. لذلك أوكل الأمر إلى غير أهله ، وتبطل الشباب أمام محدودية الفرص القليلة التي يستأثر بها المنتمون للنظام الحاكم ، أستاذ الجامعة لا يجد ما يقيم أوده أو يعيل به أسرته ، هذا إذا فقد المنطق وتزوج ، خريجون يحملون شهادات لا قيمة لها في سوق العمل الشحيح ، والتدمير المنظم والممنهج من قبل الاخوان المسلمين أركس الدولة وجعلها تشيخ وتهرم ، ثم تنهار قبل أن تموت موتا اكلينيكيا . والسودان دولة فقدت خضوعها للزمن، يمكن للشاب أن يقضي سنوات دون أي تقدم ملحوظ في حياته ، ويجري به العمر دون انتاج ، ويعيش الفنانون على التمجيد الذاتي الذي لا يتجاوز دائرة الصداقات والمعارف ، أدي هذا الفقر إلى هبوط المعايير في كل المجالات ، العلمية ، الأدبية ، الفنية ، الرياضية ، وحتى السياسية ، فأخذنا نسقط أمام الاختبارات الدولية في كل المجالات إلا استثناءات بسيطة لعب فيها الحظ والصدفة دورهما الأكبر ، إن السودان أصبح دار عجز كامل ، وقهر وتآكل لطموحات الشباب . لذلك فإن نصيحتي لمن ظل منهم قائما في هذه الرمضاء أن يفر ، وأن يجتهد لكي تتسع خطوات فراره يوما عن يوم ، فالعالم لا يدور في فلك هذا البلد والبشير حل بهذا البلد. ولا العالم ينتظرنا ممبطئا من اندفاعه لكي نوازيه في سرعته ، إن السودان يحتاج إلى ما لا يقل عن خمسين عاما لكي يستفيق من غيبوبته السريرية ، حتى ولو سقط هذا النظام الآن فلن تكون هناك عصا موسى لينفلق عن الصخر ماء ، سيأتي الانتهازيون والجهلاء ليتسنموا سلطة القهر وسيتصارعوا طويلا على حساب الشعب ، قبل أن يثور الشعب ثورته الأخير ، ثورة الأنوار ، التي سيهدأ بعدها الجميع بعد أن يضمن كل فرد حقوقه في مواجهة الآخر ، هذا قد يتطلب عقودا من الزمن ، فهل سيتوقف عمر الشباب عن المسير حتى تلك اللحظة التاريخية؟ بالتأكيد لا ، لذلك فليس على الشاب الآن أن ينتظر المعجزة من القوة المطلقة ، بل عليه فقط أن يفر إلى الأمام ، إلى حيث فر الطيب صالح والفيتوري وكامل إدريس وكافة العلماء والمبدعين والفنانين إلى حيث عالم الاتزان وارتفاع سقف المعايير المحكمة ، والإيمان بالعلوم والفنون والآداب ، لا يمكن لمتطلع إلى التقدم والتطور أن يعيش في مناخ بدائي فهذا قاتل وسيجره إلى الأسفل حيث الفشل. أقول لكل خريج جديد في مقتبل العمر واوج الشباب وفتوته فر ..فر إلى الأمام ، ووسيلتك في ذلك هي اللغة ، فاللغة هي التي تفتح الآفاق وكما أسماها هيدجر "بيت الوجود" أو بيت العالم ، طور لغتك الانجليزية خلال سنة من تخرجك ، تفرغ لها تماما ، فهي لغة العلوم والفنون ، وانجز إما امتحان الايلتس أو التوفيل ، وحينما تصل إلى مرادك ستجد أن أبواب المنح الدراسية في كافة أنحاء العالم قد فتحت لك وفي كافة المجالات ، لا تنتظر من الحكومة شيئا فهي تأخذ ولا تعطي ، تسرق ولا تمن ، فر إلى حيث تعيش نصف آدمي ونصف إله ، بدل أن تعيش في السودان نصف إنسان ونصف حيوان . إن بناء الأسرة ليس شجاعة بل هو مشروع خطير يجب أن يخطط له بدقة وبوعي ، إن كنت ترغب في الانجاب فيجب أن توفر لأبنائك الأكل الطيب والماء النظيف والكساء عند المواسم ، والتعليم المتطور ، وكل هذا غير متوفر هنا ، فالتعليم (بشقيه الأساسي والجامعي)منهار والطعام غير صحي ، والمياه ملوثة ، والعلاج للأغنياء . صحيح أن السودان كدولة غني بالثروات ولكنه يفتقر إلى العقول ، فلا يوجد دول فقيرة بل شعوب بليدة ، وهذا هو الفرق بيننا وبين اليابان التي لا تملك من كوارد سوى الزلازل والفيضانات ، نحن موبوءون ، وهو وباء علاجه الاستيقاظ بعد أن تدمينا التجارب القاسية . 17 ديسمبر 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة