قبل ثلاثين عاماً أو يزيد أيام مايو مثلاً كان المعارض السياسي يمكن أن يكون من عامة الناس ، وأعني بعامة الناس البسطاء من السابلة وأصحاب الدخل المحدود وحتى صغار التجار من الباعة المتجولين ، أقول ذلك لأن المعارض السياسي اليوم يجب أن يحوز على قدر كبير من الإمكانيات المادية و(اللوجستية الداعمة) من جهات أومؤسسات قادرة على إستيفاء (تكاليف) معارضته السياسية من باب إعالته ومن يعول وكذلك مساندته لتجاوز عثرات الحياة اليومية التي أصبح أكثر فاعلية من كل نظريات الأجهزة الأمنية القمعية ليس في القضاء على المعارضين فحسب بل يرتفع مستوى نجاحها إلى إبعاد تفكيرهم في ذلك الإتجاه من حيث المبدأ ، فالعمل السياسي للفرد المعارض في تلك السنين الغابرة كان يتطلب تفرغاً كاملاً وهذ ما يمكن قراءته في سجلات السيَّر الذاتية لكثير من الذين عارضوا نظام مايو فمعظمهم كانوا في جبهات خارجية أو في غياهب السجون أو يمارسون العمل السياسي تحت الظل مما يجبرهم على إنجاز أعمال بسيطة في أزمان كبيرة تتطلب المزيد من الجهد والوقت والتفرغ ، أما في زماننا هذ فلا أحد من عامة الناس يستطيع أن يمارس العمل السياسي إلا موالياً و مُنضماً في صفوف حزب المؤتمر الوطني والأحزاب المُستحبة والمُقرَّبه إليه .. لماذا .. لأن الوضع الإقتصادي الذي أصبحت تعانيه البلاد والعباد لم يعُد يترك للناس فرصة في تفقد أحوال بعضهم نتاج الغلاء الفاحش المستشري في الأسواق ونتاج رفع الدولة يدها كلياً عن كل دعم للضروريات خصوصاً في مجال السلع الإستهلاكية الأساسية التي أُنشئت لها التعاونيات في زمان سابق ، هذا فضلاً عن التعليم والإستشفاء والتداوي ، فكل رقيق حال إن دخل مغبة المعارضة السياسية بحماسة الأمس وإنقطع في دروبها كُلياً مثلما فعل جيل سابق لم يجد في أفراد أسرته الممتده (جمل الشيل) الذي كان سابقاً يتحمَّل مسئوليات غيره أين ما حلّت مصيبة كالموت والإعتقال أوالإضطرار للفرار وإختيارالمنافي الجبرية ، اليوم لا يمكن لعامة الناس أن يصطفوا في صفوف المعارضة بفعالية الأمس لأنهم لا يجدون الوقت ليفعلوا ذلك بفضل طبيعة الأشياء وما جبل الله عليه الخلق من جنوح أساسي نحو تحقيق الضروريات التي تأتي في مقدمتها الحصول على لقمة شريفة في هذا الزمان القبيح الشكل والفاسد المضامين ، إن لم يكن المعارض السياسي يحوز على ظهرٍ مادي يستند عليه فمصيره ومصير أسرته وإلتزاماته وطموحاته الفناء والزوال ، لذلك تجد أكثر هؤلاء من الذين إستطاعوا الصمود إما وارثين أو منتمين إلى أسر ثرية معروفة أو من أولئك المتهمين بالإستفادة من دعومات خارجية مما يُشكِّكك في تلوث نشاطاته بما هو أشبه بالجاسوسية أوالإنتماء النسبي أوالمُطلق لدول وهيئات في مواجهة ولائه الوطني ، نعم أن حكومتنا الحالية ربما بقصد أو غير قصد قد إستفادت من حالة التدهور العام في المستوى المعيشي لعامة الناس بالقدر الذي جعلهم يبذلون جُل يومهم أو كله أحياناً في سبيل تأمين فتات الضروريات المُلحة في الحياة ، فأصبحوا غير قادرين بسلاح التجويع والإفقار والإنشغال (المُجهد) لتأمين قليلٍ لا يحتاج أصلاً الجهد ولا البذل ، على أن ينخرطوا بفعالية في مخططات العمل السياسي المعارض كما فعل عامة الناس في أزمنة سابقة أثمرت وأنتجت نضالات رجالها ثورتي أكتوبر وأبريل المجيدتين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة