1 تعرّضنا في المقالات الثلاثة السابقة من هذه السلسلة من المقالات إلى مقال الأستاذ خالد موسى دفع الله الذي نشره في 16 مايو عام 2017 (أي قبل أكثر من عام) على عددٍ من الصحف الالكترونية والورقية بعنوان "الإسلاميون وانفصال جنوب السودان." وقد ابتدر الأستاذ خالد مقاله بالقول: "يترقب الوسط السياسي قريبا صدور كتاب جامع مانع عن اتفاقية السلام الشامل من افواه صانعيها بعد ان اكتملت فصوله وتحقيقه وتدقيق اللمسات الاخيرة ليضيف للمكتبة السودانية سفرا نوعيا يسد فراغا هاما في التوثيق والادب السياسي المعاصر." وبعد وصفٍ وإطراءٍ طويلين للكتاب الموعود حاول الأستاذ خالد موسى في مقاله أن يجادل أن إعلان فرانكفورت الذي وقّعته حكومة الإنقاذ مع الدكتور لام أكول لم يمنح الجنوب حق تقرير المصير. ثم زاد على ذلك بالقول إن التجمع الوطني الديمقراطي هو أول من منح الجنوب حق تقرير المصير في مقررات أسمرا عام 1995، وأن كل ما فعلته الإنقاذ هو أنها سارت على درب التجمع في بروتوكول مشاكوس عام 2002، واتفاقية السلام الشامل عام 2995. 2 وقد أوضحنا في المقال الأول من هذه السلسلة من المقالات أن هذا الكتاب لم يصدر بعد، رغم مرور أكثر من عامٍ على وعد الأستاذ خالد أن الكتاب سيصدر "خلال أسابيع." كما قمنا بالردِّ على مسألتين هما: أولاً: لماذا تأخّر صدورُ كتابِ الإسلاميين عن اتفاقية نيفاشا رغم وعد الأستاذ خالد موسى قبل أكثر من عام أن الكتاب سيصدر في غضون أسابيع؟ ثانياً: لماذا لا يعتد ويعتمد المؤرخون على كتابات وإفادات الأشخاص الذين ساهموا في صنع الأحداث موضوع الكتاب والمقال؟ وقد ناقشنا في المقال الثاني بالتفصيل إعلان فرانكفورت وأوضحنا أنه في حقيقة الأمر أول وثيقةٍ توقّعها حكومةٌ في الخرطوم تعترف فيها بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وناقشنا في المقال الثالث مفاوضات أبوجا وتعرّضنا للارتباك والتعثر الكبيرين اللذين سادا وفد حكومة الإنقاذ عندما وضع وفد الحركة الشعبية إعلان فرانكفورت على طاولة المفاوضات. أوضحنا أيضاً أن وفود الإنقاذ لمفاوضات أبوجا لم تتبنّى على الإطلاق معنى كلمة Plebiscite الذي أتى به فجأةً الأستاذ خالد في مقاله. وعقّبنا على ذلك بأن هذا التفسير الخاطئ للكلمة أتى متأخراً أكثر من ربع قرنٍ من الزمان. 3 سوف نناقش في هذا المقال موقف الأطراف والوسطاء في مفاوضات الإيقاد الأولى من إعلان فرانكفورت، ونوضّح أنه كان تأكيداً لموقف الوسطاء في مفاوضات أبوجا والتي قبلت حقيقة أن حكومة الإنقاذ قد منحت صراحةً وبوضوح، من خلال إعلان فرانكفورت، شعب جنوب السودان حق تقرير المصير. وقد ارتكزت مبادرة الإيقاد، كما سنناقش في هذه المقال، على إعلان فرانكفورت في تبنّيها لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. 4 مع بداية غروب شمس عام 1993 كانت محاولات الدول الفردية لحل مشكلة جنوب السودان بواسطة كلٍ من نيجيريا وإثيوبيا وكينيا ويوغندا قد وصلت إلى طريقٍ مسدود. وكان كل ما على طاولة المفاوضات من اتفاق هو إعلان فرانكفورت الذي كانت الحكومة السودانية تواصل الادعاء والإصرار على أن الحركة الشعبية الأم ليست طرفاً فيه، وعليه فهي ليست ملزمةً بمناقشته مع الحركة. لهذه الأسباب فقد كان على الحكومة البحث عن وسيطٍ جديد. انعقد في نهاية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر عام 1993 في مدينة أديس أبابا اجتماع رؤساء دول منظمة "إيقاد." والإيقاد منظمةٌ تمّ إنشاؤها عام 1986 بواسطة دول شرق أفريقيا (إثيوبيا وجيبوتي وكينيا ويوغندا والسودان والصومال) لمواجهة التصحّر والجفاف في الإقليم. وقد عدّلت هذه المنظمة أهدافها لِتُركّز على التنمية، وقد انضمّت إليها إريتريا عام 1993، ثم دولة جنوب السودان في عام 2011. وليس لهذه المنظمة دورٌ أو إنجازٌ يُذكر سوى اتفاقية السلام الشامل السودانية لعام 2005، والتي ساعدها للعمل فيها ما سُمّي بمجموعة شركاء الإيقاد من الدول الغربية والتي دفعت كلَّ تكاليف المفاوضات من فنادق وطعام وشراب وسفر ومطبوعات. 5 كانت العلاقات بين النظام الإثيوبي الجديد بقيادة السيد ميليس زيناوي الذي وصل إلى السلطة في 28 مايو عام 1991، ونظام الإنقاذ في الخرطوم قد استطالت وقويت. فالخرطوم كانت قد ساعدت الجبهة الديمقراطية الثورية بقيادة السيد زيناوي في هزيمة نظام السيد منقيستو هايلي مريم واستلام السلطة في أديس أبابا عام 1991. وكان نظام السيد ميليس زيناوي قد عزّز قبضته على السلطة في أديس أبابا، وهدأت المعارضة بعد انفصال إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993. عليه فقد رأى السودان بعد فشل الوساطة النيجيرية أن يلجأ إلى حليفه الجديد للوساطة بينه وبين الحركة الشعبية، واثقاً أن نظام السيد ميليس زيناوي يمكن أن يكون حليفاً لنظام الإنقاذ. أثار الرئيس البشير هذه المسألة مع السيد زيناوي عندما التقيا أثناء اجتماعات الإيقاد في شهر سبتمبر عام 1993. رحّب الرئيس الإثيوبي بطلب الرئيس السوداني ولكنه اقترح أن تقود الوساطة منظمة الإيقاد وليس إثيوبيا لأن ذلك سيعطي الوساطة وزناً أكبر، خصوصاً وأن علاقة إثيوبيا مع الحركة الشعبية لم تكن قد تحسّنت، بعد أن قام نظام ميليس زيناوي بطرد الحركة الشعبية من أراضيه وأوقف عونه العسكري لها. رحب الرئيس السوداني بهذا التعديل وطلب من بقية دول الإيقاد الوساطة. وافقت دول الإيقاد على القيام بالوساطة في النزاع السوداني وفوّضت لجنة رباعية تكوّنت من كينيا ويوغندا وإثيوبيا وإريتريا للقيام بهذا الدور. اتفقت هذه الدول أن تكون كينيا مقراً لوساطة الإيقاد، وأن يشرف عليها رئيس جمهورية كينيا السيد دانيال أراب موي. 6 دارت جولة المفاوضات الأولى في وزارة الخارجية الكينية في نيروبي في 21 مارس عام 1994. قاد وفد الحكومة السودانية السيد محمد الأمين خليفة، وشمل الدكتور علي الحاج، والدكتور نافع علي نافع، والدكتور عبد الرحمن إبراهيم، وثلاثةً من أبناء الجنوب هما السادة بيتر شارلمان، وميثانق ملوال، وانجلو بيدا، بالاضافة إلى السيدة اقنيس لوكودو. وقاد وفد الحركة الشعبية السيد سلفا كير، وشمل السادة دينق الور، وباقان أموم، وجستين ياك. وقاد وفد الفصيل المتحد الدكتور ريتشارد مولا، وشمل القاضي جون لوك، والسيدة الاكير ملوال. وقد عيّنت الإيقاد سكرتارية لإدارة عملية التفاوض برئاسة وزير خارجية كينيا. كان وفد الحكومة السودانية مصرّاً على أن تبدأ المفاوضات من حيث انتهت الجولة الثانية من مفاوضات أبوجا، وأن يتركز التفاوض على مصادر التشريع واستثناء الولايات التي بها أغلبية غير مسلمة من تطبيق الشريعة الإسلامية، ومسائل تقسيم الثروة والوضع الدستوري في المرحلة الانتقالية. من الجانب الآخر كان رأي جناحي الحركة الشعبية أن تتركز المفاوضات على حق تقرير المصير والاجراءات الانتقالية التي ستسبق الاستفتاء، استناداً على إعلان فرانكفورت. استمع الوسطاء للأطراف الثلاثة وقرّروا إنهاء الجولة الأولى لإجراء مزيدٍ من التشاور، على أن تُعقد الجولة الثانية من المفاوضات في شهر مايو عام 1994. 7 بدأت الجولة الثانية لمفاوضات الإيقاد في 18 مايو عام 1994، ومثّل الأطراف الثلاثة نفس الشخصيات التي حضرت الجولة الأولى عدا القليل منهم. كرّر كل طرفٍ من أطراف التفاوض موقفه السابق، وبعد نقاشٍ استمر طوال اليومين الأولين أصدرت لجنة الوساطة مسوّدة لما اسمته إعلان المبادئ (أو ما عُرِف أيضاً بـ مبادئ الإيقاد). تضمّن الإعلان تأكيد حق مواطني جنوب السودان في تقرير مصيرهم عبر الاستفتاء، مع إعطاء الأولوية لوحدة السودان، وإنشاء دولة علمانية وديمقراطية تسود فيها حرية الاعتقاد والتعبّد، وفصل الدين عن الدولة. شمل إعلان المبادئ نصوصاً عن التفاوض حول الترتيبات للفترة الانتقالية وإجراءات وقف إطلاق النار. أشار الإعلان في ديباجته إلى إعلان فرانكفورت، وأوضح وسطاء الإيقاد للطرفين أن إعلان مبادئ الإيقاد قد انبنى على إعلان فرانكفورت في مسألة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وترتيبات الفترة الانتقالية. دار نقاشٌ مطول بين الأطراف الثلاثة مع سكرتارية المؤتمر المكوّنة من وزراء خارجية الدول الأربعة (كينيا ويوغندا وإثيوبيا وإريتريا). لكن السكرتارية أقرّت مسودة إعلان المبادئ التي صدرت في 20 مايو عام 1994، في اليوم الأخير من الجولة الثانية من المفاوضات، وأصبحت الموقف الرسمي لوسطاء الإيقاد. وقد اعترضت الحكومة السودانية على عدّة نقاط في مسوّدة المبادئ من بينها حق تقرير المصير، وعلمانية الدولة، بينما رحب بها وفدا الحركة الشعبية. إزاء هذه الخلافات أعلن رئيس لجنة الوسطاء السيد كولونزو مسيوكا، وزير خارجية كينيا، انتهاء الجولة الثانية من مفاوضات الإيقاد، على أن تُعقد الجولة الثالثة في 19 يوليو عام 1994، أي بعد شهرين من تلك الجولة، لإعطاء الوفود مزيداً من الوقت لدراسة المسودة. 8 بدأت الجولة الثالثة في موعدها المحدد، وقد تواصل تمثيل الأطراف الثلاثة بنفس أعضاء الوفود للجولات السابقة. وأعلنت سكرتارية مفاوضات الإيقاد تمسّكها بالمسودة كما هي، بينما أكّد الوفد الحكومي رفضه للإعلان. وأعلنت الحركة الشعبية قبولها مسودة الإعلان. وأصبح التفاوض والنقاش والجدل في حقيقة الأمر بين سكرتارية مفاوضات الإيقاد والوفد الحكومي. وقد ذكّرت سكرتارية مفاوضات الإيقاد الوفد السوداني بإعلان فرانكفورت وحق تقرير المصير الذي تضمّنته تلك الاتفاقية. ولكن الوفد الحكومي أثار مسألة قدسية الحدود بموجب ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، وركّز على رفض مسألة علمانية الدولة مشيراً إلى أن أغلبية أهل السودان المسلمة هي التي أقرّت مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية. غير أن سكرتارية المؤتمر كانت قد حسمت أمرها. فقد صدر إعلان مبادئ الإيقاد للسلام في 20 يوليو عام 1994، كما رسمت خطوطه العريضة المسودة التي تمّت مناقشتها في الجولة الثانية للمفاوضات في مايو عام 1994. وقد أصبح إعلان مبادئ الإيقاد في ذلك اليوم (20 يوليو عام 1994) الموقفَ الرسمي للإيقاد في مفاوضات السلام السودانية. 9 أشارت ديباجة إعلان المبادئ للمحادثات السابقة بين جمهورية السودان من جانب والحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان والحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان - الفصيل المتحد من جانبٍ آخر، وتحديداً اتفاق أديس أبابا في أغسطس 1989، ونيروبي في ديسمبر 1989، وأبوجا في مايو/يوليو 1992، وأبوجا في أبريل/مايو 1993، ونيروبي في مايو 1994، وفرانكفورت في يناير 1992. وأكّدت الديباجة أن تاريخ وطبيعة النزاع السوداني تبرهن على أن الحل العسكري لن يجلب السلام والاستقرار للسودان، وأن الحل السلمي والعادل يجب أن يكون الهدف المشترك لأطراف النزاع. تضمّنت الفقرة الثانية إشارةً صريحةً إلى مبدأ حق تقرير المصير ونصّت على الآتي: "يجب التأكيد على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان لتحديد وضعه المستقبلي عن طريق الاستفتاء." رغم هذا النص الصريح فقد أشار الإعلان إلى أن الحفاظ على وحدة السودان يجب أن يُعطى الأولوية من جميع الأطراف، شريطة أن يتم التقيّد بمجموعة مبادئ في الإطار القانوني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. شملت هذه المبادئ الاعتراف بأن السودان بلدٌ متعدّد الأعراق والشعوب والديانات والثقافات المجتمعية، لذا يجب تأكيد واحترام هذه الاختلافات، وضمان العدالة السياسية والاجتماعية لجميع شعوب السودان بالقانون. 10 بعد تأكيد حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان لتحديد وضعه المستقبلي، ومنح بقية المجموعات في السودان الحق في الحكم الفيدرالي أو الحكم الذاتي، تضمّن الإعلان نصاً عن علمانية الدولة. فقد نصّت الفقرة 3.4 من الإعلان على ضرورة تأسيس دولة علمانية ديمقراطية في السودان، وضمان حرية المعتقد والعبادة والممارسات الدينية بالكامل لجميع المواطنين السودانيين، وفصل الدين عن الدولة، على أنه يمكن أن تكون أسس القوانين الشخصية والعائلية مبنيّة على الدين والتقاليد. كما أشار الإعلان إلى ضرورة تحقيق العدالة الملائمة في توزيع الثروة بين مختلف شعوب السودان وتضمين حقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً، واستقلال القضاء في دستور السودان. عاد الإعلان مرةً أخرى ليشير إلى أنه في حالة عدم الاتفاق على هذه المبادئ فإن الشعوب المعنيّة في السودان سيكون لها الخيار في تحديد مستقبلها، بما في ذلك الاستقلال عبر الاستفتاء. اختتم الإعلان بالإشارة إلى فترة انتقالية يتفق الأطراف على مدتها ومهامها، وعلى وقفٍ لإطلاق النار يدخل حيز التنفيذ كجزءٍ من الاتفاق الشامل لحل النزاع في السودان. وكان هذا ما تضمنه إعلان فرانكفورت أيضاً. 11 كان واضحاً أن الوفد الحكومي قد خسر رهان وساطة الإيقاد التي كان يؤمل أن تخرجه من مأزق إعلان فرانكفورت. بل أن الوفد الحكومي قد دخل في مأزقين جديدين. فقد أضافت مبادئ الإيقاد إلى حق تقرير المصير لجنوب السودان المضّمن في إعلان فرانكفورت منح نفس الحق للأقليات الأخرى في السودان إذا تمّ خرقٌ للحقوق الأساسية لهذه الأقليات المضمّنة في الإعلان. وكأن هذا لا يكفي فقد أكّد إعلان مبادئ الإيقاد علمانية الدولة السودانية وفصل الدين عن الدولة. كان تكوين لجنة الوساطة من إثيوبيا وإريتريا وكينيا ويوغندا يحمل في طياته بذور مثل هذا الإعلان. فإثيوبيا تحت نظام ميليس زيناوي وافقت على حق تقرير المصير لإريتريا، ولم تضع أيَّ عراقيل في وجه الاستفتاء لشعب إريتريا. وفي حقيقة الأمر فقد كانت إثيوبيا أولَ دولةٍ تعترف بإريتريا عندما صوّت شعبها لصالح الانفصال. وقد تضّمن دستور إثيوبيا الجديد حق تقرير المصير لكل المجموعات العرقيّة في إثيوبيا. عليه فلم يكن متوقّعاً أن تقف إثيوبيا في وجه حق تقرير المصير لجنوب السودان. ولا يعقل أن تقف إريتريا التي حاربت لنحو أربعين عاماً لتنال حق تقرير المصير في طريق مجموعةٍ أخرى ظلّت تحارب من أجل نفس الحق لفترةٍ أطول من إريتريا نفسها. وقد كان السودان يعرف جيداً موقف كينيا ويوغندا المتعاطف مع جنوب السودان منذ أن نالت هاتان الدولتان استقلالهما في بداية الستينيات. لذا كان غريباً أن تعهد حكومة الإنقاذ في السودان إلى هذه الدول الأربعة بمهمة التوسط لحل النزاع في السودان، وتتوقّع منها قراراتٍ غير تلك التي تضمّنها الإعلان. 12 كما أن حكومة السودان نفسها كانت قد وافقت على حق تقرير المصير في إعلان فرانكفورت ونوّهت إلى موافقتها عليه خلال مفاوضات أبوجا، ثم مفاوضات نيروبي التي تزامنت مع مفاوضات أبوجا. وقد أشار الوسطاء مراراً وتكراراً إلى إعلان فرانكفورت وظلّوا يُذكّرون الوفد السوداني به وبمضمونه. وقد أشارت ديباجة إعلان مبادئ الإيقاد إلى إعلان فرانكفورت. ولم تفلح محاولات الوفد السوداني الساذجة خلال جولتي المفاوضات في أبوجا في التنصّل من إعلان فرانكفورت. بل إن المتابع لعملية التفاوض يجد أنه كلما حاول السودان التنصّل من إعلان فرانكفورت، كلما زادت قناعة الوسطاء بعدالة موقف الحركة الشعبية التي ظلّت تشكو من نقض العهود المتواصل بواسطة الحكومات السودانية المختلفة منذ الاستقلال، وبعدم جدّية الحكومة السودانية. 13 لقد كان إعلان فراكفورت مأزقاً تاريخياً أدخل السودان فيه نفسه دون دراسةٍ ووعيٍ بالتبعات التي كان يمكن أن تنتج عنه. وزادت محاولات التنصّل المرتبكة منه الوضع سوءاً للسودان. لقد أخرج الدكتور علي الحاج مارد تقرير المصير لشعب جنوب السودان من قمقمه في 25 يناير عام 1992 في مدينة فرانكفورت الألمانية، وأصبحت مسألة إعادة هذا المارد إلى قمقمه أمراً مستحيلاً. بل إن إعلان فرانكفورت يتناقض تناقضاً تاماً مع مواقف الحركة الإسلامية من قضية الجنوب منذ بروز الإسلاميين في الساحة السياسية عام 1964. وقد تلخّصت تلك المواقف، كما ذكرنا من قبل، في رفض الفيدرالية خلال مؤتمر المائدة المستديرة، والعمل على وأد اتفاقية أديس أبابا، ثم الوقوف بشراسة ضد إعلان كوكا دام واتفاقية الميرغني-قرنق، واعتماد الحل العسكري (والذي أصبح اسمه الجهاد) كطريقٍ وحيدٍ للتعامل مع أبناء وبنات الجنوب. 14 ومن الواضح أيضاً أن محاولات الأستاذ خالد موسى إخراج السودان من مأزق إعلان فرانكفورت هي بالونة اختبار لما سيحويه كتاب حكومة الإنقاذ الموعود عن اتفاقية نيفاشا. وهي محاولات متأخرة وخاطئة، ولا تتناسق إطلاقاً مع الطرق التي تعاملت بها وفود حكومة الإنقاذ مع إعلان فرانكفورت في مفاوضات أبوجا، ومفاوضات الإيقاد. وقد فشلت تلك المحاولات الساذجة فشلاً تاماً في إخراج حكومة الإنقاذ من مأزق إعلان فرانكفورت. بل أن المتابع الدقيق لمفاوضات أبوجا والإيقاد يلاحظ بوضوح أن سذاجة الأسباب التي دفعت بها وفود الإنقاذ في جولات تلك المفاوضات في أبوجا ونيروبي للتنصل من إعلان فرانكفورت قد اقنعت الوسطاء بعدم جدية حكومة الإنقاذ في حل مشكلة الجنوب، وبعدالة شكوى الساسة الجنوبيين من نقض الخرطوم المتواصل لاتفاقياتها مع جنوب السودان، ودفعت الوسطاء إلى التمسّك بإعلان فرانكفورت. 15 منحت حكومةُ الإنقاذ بتوقيعها على إعلان فرانكفورت شعبَ جنوب السودان حقَ تقرير المصير. وقد تأكّد ذلك التنازل الكبير من الحركة الإسلامية خلال مفاوضات أبوجا والإيقاد. بل إن مبادئ الإيقاد تضمّنت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان مستندةً على إعلان فرانكفورت، وزادت عليه بمنح حق تقرير المصير للأقليات الأخرى إذا حدث خرق لعلمانية الدولة السودانية وحقوق المواطنة. وقد استند الدكتور غازي العتباني على إعلان فرانكفورت لعام 1992 عندما وقّع عام 2002 على بروتوكول مشاكوس مع الحركة الشعبية الأم والذي منح شعب جنوب السودان حق تقرير المصير. لقد كان وسيظل إعلان فرانكفورت أخطرَ وثيقةِ توقّعها الخرطوم مع حركة جنوبية مقاتلة. من هنا تأتي وستتواصل محاولات الحركة الإسلامية السودانية التنصّل من إعلان فرانكفورت. لكنها محاولات متأخرة وخاطئة وساذجة، ولن تصمد لحظةً واحدة في وجه الحقائق التاريخية الواضحة والصارمة. 16 سوف يختتم مقالنا الخامس والأخير من هذه السلسلة من المقالات بالعودة إلى مقال الأستاذ خالد موسى دفع الله وتلخيص نقاط الردِّ عليه التي أثرناها في هذه المقالات الأربعة. كما سنقوم أيضاً بالرد على نقاطٍ أخرى أثارها مقال الأستاذ خالد نرى أنها ممعنةٌ في الخطأ ومن الضروري التصدّي لها وتصحيحها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة