|
ميثولوجيا الهجرة المعذبة!يهود السودان .. جرى فيهم النيل ومزاج أهله ووجدانهم
|
ما أن شرعت في قراءة هذا الكتاب وتصفحه, حتى خطر لي حديث وجهه يوحنا بولس الثاني, بابا الفاتيكان إلى قادة نظام الإنقاذ, إبان زيارته إلى السودان في العاشر من فبراير 1993. كانت كلمة البابا, في معنى ضرورة العودة بالسودان إلى ماضي تسامحه الديني والثقافي والاجتماعي, ورحابة صدر أهله بمختلف انتماءاتهم, وقدرتهم على التعايش السلمي فيما بينهم, قبل أن يصبح الدين عاملا من عوامل النزاع, وقبل أن يتم توظيفه في تأجيج نار الفتنة والاحتراب بين السودانيين. في ذلك الخطاب الشهير, الذي طبع باللغتين الإنجليزية والعربية, ذكر البابا دعاة "التوجه الحضاري" بتاريخ التسامح في الحضارة السودانية العريقة, وبقصة كنيسة دنقلا العجوز, في أيام مجد الممالك النوبية المسيحية القديمة. ففي تلك الكنيسة, لم تجد الأفواج الأولى من العرب المسلمين الوافدين إلى السودان, غضاضة في أن تقتسم المبنى, وتتناوب أوقاته, في أداء الشعائر الدينية مع أهله من المواطنين النوبة المسيحيين, بدلا من الصلاة في العراء. وكانت تلك استجابة لدعوة مقدمة لهم من قبل الكنيسة الوحيدة في المنطقة! كانت زيارة البابا كلها بمثابة رسالة وتذكير وحنين إلى ذلك الماضي البعيد. وكانت الكلمة التي قالها تصب كلها في معنى: أين راح أريج ذلك التسامح النبيل بيننا؟! وكانت الخرطوم حينها, في عز عنفوان هجمتها الشرسة على تقاليد التسامح وثقافته, في بواكير قبضة الإنقاذيين على السلطة الباطشة. ذكرت ذلك وأنا أقرأ تقديم الأستاذ مكي أبوقرجة لكتابه "اليهود في السودان" بغضبة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم على قولة رعناء, صدرت عن الرئيس السابق جعفر نميري, نعت فيها بعض خصومه السياسيين باليهود, شاملا بينهم أصهار الشفيع أحمد الشيخ, النقابي البارز الذي أعدم إثر انقلاب يوليو 1971. سرني أن قال مكي في مقدمته, تعليقا على تلك الرعونة: ما كان يدري ما يقول.. فالرجل ما كان يكترث بتاريخ بلاده السياسي والاجتماعي ولا ثقافتها. وما كان يدرك أن أصهار الشفيع هم من العائلات السودانية العريقة المعروفة, من دنقلا حتى القطينة فأمدرمان. فهم "نفر كريم من أهلنا". وما كان صلاح غافلا عن أن الديانة اليهودية ليست سبة ولا معرة- فهم أهل كتاب- لولا ارتباطها بالمشروع الصهيوني الذي اغتصب الحقوق الفلسطينية. ولكن صلاحا أدرك الخبث الذي أراد به نميري, النيل من خصمه السياسي- صهر الشاعر- بمحاولة سبه باليهودية. كان ذلك هو مدخلي لقراءة الكتاب, باعتباره سفرا في تاريخ التسامح والتمازج العرقي والثقافي والديني بين السودانيين, وفي قدرة نيل ذلك البلد وهوائه وشعبه, على استيعاب "الوافد الغريب" وتكييفه على واقع الحياة السودانية, وجعله مفردة ومكونا أصيلا من مكوناتها. يصدق هذا هنا, بقدر ما يصدق على المكونات العربية الإسلامية في الثقافة السودانية-إن صحت التسمية مجازا- إذ تم تمثل الإسلام وعناصر الحضارة العربية الإسلامية بآدابها وتراثها ورموزها, وأعيد ترتيب وضعها وتكييفها ثقافيا, حتى استأسدت واستعلت لاحقا على غيرها من ثقافات وطنية محلية, حين آلت مقاليد الحكم والسيطرة السياسية والاقتصادية إلي يد غلاة ومتطرفي أهل السودان. لا تنزلق صفحات الكتاب من بين اليد, وتفرغ منه كقارئ, دون أن تخطر ببالك وذاكرتك, مجموعة مما كتب من دراسات أنثروبولوجية ثقافية عن السودان- بعضها ما ورد في مجلة Sudan Notes & Records ولم يزل تِبراً كامنا في مناجم متون اللغة الإنجليزية- ومنه شذرات مما كتب عن صور المدينة السودانية, على نحو ما ورد في كتابات جمال محمد أحمد, وحسن نجيلة, وما نشرته على نحو متفرق مجلتا النهضة والفجر في عقد الثلاثينيات, وصولا إلى الكتابات اللاحقة عن تاريخ المدن السودانية فيما رأينا من تناول الباحث والمؤرخ إبراهيم أبو سليم عن "تاريخ الخرطوم" وشوقي إبراهيم بدري "حكاوي أمدرمان" وغيرها من محاولات وإسهامات جادة في التأريخ للمدن السودانية الأخرى, كوستي, الأبيض ..إلخ. تندرج في السلسلة ذاتها أشعار الدكتور محمد الواثق التي ضمنها في ديوانه "أم درمان تحتضر" على رغم هجائيتها واختلاف مادتها الشعرية. إن كنت قد أحسنت قراءة الكتاب, فهو تناول أنثروبولوجي ثقافي, لشريحة من شرائح المجتمع السوداني, هي مجموعات اليهود التي وفدت إليه في فترات وحقب تاريخية مختلفة, فغادر منهم من غادر, وبقي منهم من بقي, فظل السودان كامنا نابضا بين حناياهم, حتى من ذهب بعضهم إلى أقاصي أركان الدنيا ولم يزل يتحدث العربية بلهجتها السودانية, ويردد بين حين وآخر, وهو في نيويورك أغنية "البنسلين يا تمرجي" وغيرها! يتابع مكي ضمن- ترجمته للكتاب الأصل-تاريخ تسلسل العوائل السودانية, تحركاتها الداخلية, اندغامها في نسيج المجتمع السوداني, تأثيرها ودورها في تنمية ونهضة المدينة الحديثة, تأثيرها على الصناعة والتجارة, بل وحتى السياسة السودانية وجهاز الدولة الإداري, طوال فترة زمنية طويلة امتدت في مرحلتي ما قبل وما بعد الثورة المهدية. وفي ثنايا كل ذلك, يقدم صورة بانورامية شاملة وواسعة, عن الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية للجالية اليهودية في السودان, عن أزيائها وطقوسها وشعائرها وعاداتها في الذبح والختان والزواج والصلوات, وعن رموزها الثقافية والدينية الخاصة بها كجالية ومجموعة عرقية دينية متميزة, من المجموعات العرقية التي ضربت بجذورها في تربة المجتمع السوداني, وتسامحت معه, بقدر ما تسامح معها واحتضنها. يتحدث المؤلف والمترجم معا, عن تفاصيل في سيرة يهود السودان, لها علاقة بإسهامهم في بناء نموذج المدينة السودانية الحديثة عموما, وفي تشكيل الوجدان السوداني السمح المتسامح. على أن مادة الكتاب لا تقتصر على جانبها الثقافي الأنثروبولوجي فحسب, في دراسة أشكال ومظاهر تغلغل الجالية اليهودية في نسيج المجتمع السوداني, إلى درجة أوصلت بعضهم, لتولي مناصب إدارية وسياسية وقانونية مرموقة, في جهاز الدولة السوداني, في مختلف مراحل تطوره, فضلا عن تداخلهم مع السودانيين اجتماعيا إلى حد الزواج والمصاهرة, بل والأسلمة والتهويد كذلك. إنما تشمل بالقدر ذاته, قسطا لا يستهان به ممن تعامل من اليهود مع أرض السودان وشعبه, بعقلية ونفسية " المهاجر المنبت" وعابر الأوطان والمحطات المؤقتة, إلى أرض الأحلام والميعاد, وجنة اليهود وموطنهم النهائي, حيث تحط عصا الترحال بعد رحلة طويلة وشاقة من التشرد والضياع والعذاب. وفي هذا الجانب, لم تكن هناك مواربة البتة, لا من جانب كاتب النص الأصلي, سولومون ملكا, ولا من جانب الأستاذ مكي الذي قرأ الكتاب, وترجمه بهمة القارئ الوظيفي للنصوص. ومن هنا فقد كان السودان, معبرا, لا أكثر, بالنسبة للكثيرين منهم, على نحو ما نجد في قصص ونصوص الميثولوجيا اليهودية- القديمة والمعاصرة- عن رحلة العذاب, والهجرة الكبرى نحو أرض الميعاد. ثم إن الأمر لم يقف عند ذلك الحد وحده, أي مجرد الحلم الميثولوجي التوراتي المعذب بأرض الميعاد, بل تخطاه إلى ما هو أبعد, من خلال ما ورد في كثير من فصول الكتاب وأبوابه, عن الأجندة والأنشطة الخفية التي كانت تجري وتنفذ تحت السطح الظاهري, للطقوس والشعائر الدينية والاجتماعية والثقافية اليهودية التي كانت تقام في "بناي بريث" والنادي اليهودي, وغيرهما من مؤسسات ذات صبغة اجتماعية دينية يهودية في الأساس. فقد كانت تجمع التبرعات والأموال, وكان يتم تبادل المعلومات والخبرات والتجارب, وكذلك اللقاءات والأنشطة المشتركة بين يهود السودان, ويهود مصر, بل والحركة الصهيونية العالمية برمتها عبر تلك المؤسسات. وأسهم قسم كبير من يهود السودان, في تنفيذ المخطط الصهيوني من داخل الأراضي السودانية, وفي غفلة من أهله, كما ورد في تعليق للدكتور قاسم عثمان نور في مقال له عن الكتاب, نشرته صحيفة الأيام السودانية عقب صدور الكتاب. وكما النسور الجارحة المهاجرة, جاء قسم كبير منهم إلى السودان, فأخذوا وخرجوا, دون أن يكون لبعضهم أدنى شعور بالانتماء لأرض السودان, ولا ذرة ولاء واحدة, لذلك البلد الذي احتضنهم ونضا عنهم ذلك الشعور الممض المميت بعقدة " الجيتو" اليهودي, بعد أن تحول الكثيرون منهم فيه إلى أثرياء ووجهاء, وانضموا إلى علية القوم ووجهاء المجتمع المحلي, بيهوده وسودانييه, وإنجليزه وطليانه وغيرهم من الجاليات الأجنبية التي عاشت في تلك الحقبة, حتى مرحلة ما بعد الاستقلال بعدة عقود. يلاحظ على الكتاب- في أصله وترجمته- أنه تعبير عن وجهة نظر واحدة, هي رؤية الكاتب سولومون ملكا, الذي لم يخف انحيازه الفكري والعقائدي, بل وجدانه وحماسه الشخصي الدافق, للمشروع الصهيوني, الذي كرس حياته كلها لتحقيقه وترجمته إلى واقع ملموس في إسرائيل. لذلك, ومع شح وندرة المصادر التاريخية المتوفرة عن الجالية اليهودية في السودان, فقد جاءت قراءة الأستاذ مكي للكتاب, على رغم جودتها وحصافتها, قراءة بعين واحدة, لتفاصيل وخفايا تلك التجربة الفريدة, ولم يتوفر له من المراجع المستقلة الأخرى, ما يعينه على إقامة الحس النقدي الواضح الذي قرأ به الأصل, على نسق آخر مغاير من المعرفة الموثوق بها بيهود السودان, سواء كان مصدر تلك المعرفة الوثائق والمواد الأرشيفية التاريخية المدونة, أم مصادر التاريخ الشفهية إذا ما تعذر المدون والمكتوب. ليست هذه منقصة للكتاب ولا للأستاذ مكي بأية حال. ولا نزال ندين له بفض هذا السر الدفين, من تاريخ بلادنا المعاصر, والمبادرة إلى تعريفنا بما نجهله من أمر يهود السودان, وهذا سبق تاريخي لا يمحقه أحد, ولا يجرؤ على القدح فيه. على أن الفض الكامل لأسرار هذه الجالية, لا تزال أمامه مسافة شاسعة من البحث والتنقيب, ونفض الغبار عن ذاكرة التاريخ الحية, المكتوب منها والمسموع على حد سواء. ويقيني أن ما أهل مكي لعبور هذه العتبة الأولى من البحث والتعليق والملاحظة والنقد عبر الترجمة, سيؤهله حتما للغوص عميقا .. عميقا في الأضابير العصية المتربة المضنية, وللسعي في دروب بعيدة من المعرفة, دونها درب الآلام الذي كتب عنه الروائي الروسي العظيم تولستوي, ودونها هجرة اليهود المعذبة في مخيلتهم الصهيونية لأرض الميعاد نفسها. وربما ألهمت هذه المبادرة المقدرة من جانب مكي, غيره الهمة والطاقة والحماس, للخوض المشترك في عمق هذه الظاهرة وسبر أغوارها وتجاويفها, أكثر مما فعل الآن بقراءته وترجمته لهذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن. لحسن الحظ فقد توفرت على قراءة الأصل الإنجليزي وترجمته معا, ولحظت أين لخص مكي وأين اختصر, وأين ترجم النص ترجمة كاملة لضرورة تعميق الرؤية التي تناول بها الكتاب. وبصفتي مترجما, فإنني أتواضع كثيرا أمام هذه الرصانة التي أبداها مكي في تناوله للغة الأصل, وقدرته على مناورته وتطويع مفرداته وتراكيبه العصية, وإخضاعها جميعا لسلطان الفصاحة والبلاغة, والقدرة على إحياء النصوص الهامدة الميتة, بدفء وحيوية وعمق الرؤية التي ينطلق منها المترجم نحو موضوعه. أهم ما في هذه الرؤية على الإطلاق, تكييفها الثقافي والمعرفي للنص المترجم, وتوجيهه مباشرة نحو قرائه. والمترجم هنا شأنه شأن الكاتب الذي لا يخط حرفا واحدا إلا وفي ذهنه من سيقرأ كل تلك السطور والحروف. شكرا لمكي على هذا التمرين العملي المفيد في الترجمة. على أن هذا لا يمنع الإشارة إلى بعض الهنات الطفيفة, والغفلات الساهية, التي اعترت النص المترجم, وتبعثرت متباعدة بين ثناياه, دون أن تترك أثرا سيئا على نسيجه العام, لا شكلا ولا مضمونا. من ذلك مثلا إغفاله ضرورة إيراد المقابل الإنجليزي لبعض المسميات, حيثما تقتضي الضرورة, سهوه عن مراجعة بعض التواريخ الواردة في متن الأصل, وتدقيقها بعين القارئ الناقد. ومنها كذلك, المراجعة النهائية لبعض الجمل التي بدا تركيبها غريبا وناقصا في بعض الأحيان, نسيانه لملل الاستطراد من جانب الأصل, فيما لا يخدم الرؤية التي يسعى لتحقيقها المترجم من خلال قراءته الأولى أو الثانية للكتاب. وثمة كلمة أخيرة لا بد منها: إن تناول الكتاب بهذه الرؤية ومن هذا المنحى التلخيصي للمضمون, لا يمنع ترجمته ترجمة كاملة, تلبي حاجة القارئ للتوفر عليه في نصه العربي. ولا أظن أنني بناصح لمكي فيما هو أدرى وأعلم به مني. ختاما: فإن ترجمة الكتاب الأصل لا تكتسب قيمتها وأهميتها, من طبيعة المادة التاريخية المترجمة فحسب, بل من نظرة المترجم إلى الترجمة ووظيفتها وأهميتها لبلد مثل السودان, إذ يمثل الحوار والتفاعل اللغوي الثقافي السيكولوجي, عنصرا لا غنى عنه, في ترسيخ ثقافة السلام ونبذ العنف والتطرف بين مواطنيه. وظف الكاتب- المترجم مادة الكتاب الأصل, بقدر ما يحتاجه القارئ من معرفة تاريخ وهجرات ودور الجالية اليهودية في السودان. نلتقي مكي في هذا الكتاب مترجما, ومعلقا وراويا للأحداث, مؤكدا بعضها من مصادر أخرى, ومشككا ومصححا لبعضها الآخر, بحصافة القارئ الذكي, وفطنة الكاتب الحذق. وفوق ذلك, نلفى روح الكاتب المترجم, وحبه الدافق لأهله وشعبه ووطنه السودان. فمن عرف مكي, أحب فيه ومن خلاله روح هذا الوطن الجميل.
عبد الجبار عبد الله الكتاب: اليهود في السودان: قراءة في كتاب "أطفال يعقوب في بقعة المهدي" لكاتبه الياهو سولومون ملكا المؤلف: مكي أبو قرجة الناشر: مطابع الظفرة للطباعة والنشر- أبوظبي دولة الإمارات العربية المتحدة تاريخ النشر: أبريل 2004
|
|
|
|
|
|