قبل سنوات طرح علي صديق عزيز فرصة شراء أرض بسعر رمزي جدا ، بالفعل قبلت فورا لأن الفرصة لا تأتي مرتين ، كانت الأراضي بعيدة جدا في كرري الفتح 2 ، واكتشفت عالما مختلفا هناك ..عالم مليء بالبؤس والشقاء لا ماء لا كهرباء وأرض صخرية حارة وأسر تعيش على حافة الوجود ، في حياة تجاوزت حياة البدائيين الحجريين ، مع ذلك قبلت بأن تكون الارض في هذه المنطقة على أمل ان تدخلها الماء والكهرباء يوما ما ويتم تعميرها وبالتالي ترتفع أسعارها ، لم اناقش كثيرا ، واتجهت الى المحلية مع صديقي والتقينا بعمدة احدى القبائل الذي أخبرنا بأن أداء القسم سيكون بعد أيام معدودات واستلم مبلغ المقدم. فسألته القسم على ماذا ؟ حينها فاجأني بأنني سأقسم على أنني أنتمي لقبيلته ، فقلت له ولكني لا أنتمي لهذه القبيلة ، حينها انتحت بي احداهن جانبا وأشارت لي ان أقسم بأي كلام والله غفور رحيم. بالتأكيد رفضت العرض ليس بواعز ديني ، فالضرورات تبيح المحظورات ولكن لأنه قد انتابني شعور مفاجئ بأن الحقوق يتم تقسيمها على أساس قبلي. أخذت المقدم الذي دفعته والتقيت بصديق آخر من دارفور جلسنا وحدثته عما حدث لي ، فضحك وقال لي هذا أمر عادي جدا فالحكومة تفرز منطقة ما وتقدمها لنظارة قبيلة محددة لتقوم هذه النظارة بتوزيعها على الأفراد المنتمين لهذه القبيلة. وأفادني بأنهم هم أيضا في سبيلهم إلى القيام بذات الأمر. حينها سألته وماذا عن اللذين ليس لديهم قبائل تحمل السلاح أو ليس لديهم قبائل مطلقا كالأقباط والمغاربة ؟ من سيمنحهم حقوقهم في الأرض ، لم يجبني عندما أحس بأن سؤالي سخيف ، مع مرور الأيام اكتشفت أن كل الأشياء تقسم على أساس قبلي ، فالمناصب الدستورية توزع على أساس قبلي ، والوظائف العامة توزع على أساس قبلي ، وحتى الجيش صار يتم الاستيعاب فيه على أساس قبلي والتمويل الأصغر يتم على أساس قبلي . وحتى التنمية تتم على أساس قبلي والمنح الدراسية تتم على أساس قبلي ، لا شيء لا يتم بدون أن تشير إلى قبيلتك ، ولن تنال اهتماما من مسؤول إلا إذا أعلنت عن قبيلتك ، وحتى عندما استخرجت الرقم الوطني تم سؤالي عن قبيلتي . وبالتالي لم تعد هناك فكرة المواطنة بل (القلع عبر الارتداد الى الجذور) ، الاستناد إلى الخصوصيات الثقافية ، وقوة تجمع المنظومات الاجتماعية وليس على أساس القانون ، ليس على أساس المساواة في الحقوق والواجبات ، وبالتالي ارتدت الدولة إلى عصور قديمة سحيقة القدم أي ما قبل ظهور الدولة الحديثة ، ولا تؤدي هذه السياسة سوى إلى تهيئة المناخ للفوضى والتنازعات وإضاعة الحقوق على الضعفاء ، السودان يتم تقسيمه قبليا بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، جغرافيا وسياسيا وإداريا واجتماعيا ، وتنعدم المساواة بين الجميع. إن أغلب الدارفوريين نالوا حقوقا أضعاف ما نالته القبائل الأخرى في الشرق والشمال والجنوب ، لأنهم فرضوا على الحكومة أنفسهم فصاروا يتقلدون المناصب والوظائف ولهم أولوية في الخدمة العامة. لقد تأسست الدولة الحديثة على مفهوم القانون والمؤسسات ، أي على تساوي الحقوق والواجبات امام أصحاب المراكز القانونية المتماثلة ، فالجميع يخضعون لقاعدة عامة مجردة ، وهذا ما يكشف لك عن بؤس الفكر الذي تحمله الحكومة وحملة السلاح حين يتم الحديث عن توزيع الثروة والسلطة عل أساس قبلي ، فالنوبة يمثلهم مالك عقار والزغاوة يمثلهم مناوي والفور وهكذا ، كلهم يسعون إلى اقتلاع حقوقهم بل اكثر من حقوقهم دون مراعاة أن الثروة لا يمكن أن يتم تركيزها بهذا الشكل الجاهلي البدائي لا في أيدي الحكومة ولا في أيدي حملة السلاح وأن الحصول على المناصب والوظائف لا يجب أن يخضع لقياسات ومعايير قبلية بل عبر الكفاءة والخبرة . قديما قبل كارثة الانقاذ كان السودان مقسوما إلى طائفتين هما الختمية والأنصار مما دفع بعض المثقفين المحايدين إلى محاولة بناء تنظيمات تمثلهم كالأحزاب الإسلامية التي نشأت ليس بداع ديني بقدر ما كانت بداع خلق هوية لمن ليس لديهم انتماء للطائفتين ، ولذلك استطاعت أن تستقطب إليها الأقليات ، فشخص كغازي العتباني ما كان ليجد لنفسه موطئ قدم في الحراك السياسي لولا انضمامه للتيار الإسلامي وكذا الحال بالنسبة لفاروق أبو عيسى وغيرهما ، وبوصول الإسلاميين إلى السلطة ومعرفة حجمهم الضئيل في إدارة دولة ضخمة كالسودان وإثر الاختلافات والصراعات انهارت الدولة ولم يجد المواطن ما يسنده من قوة حزبية سياسية تسترجع له حقوقه المسلوبة بعد تفتيت جميع الأحزاب بمافيها الإسلامية ، فما كان من المواطن إلا أن أرتد إلى هوية بدائية جدا هي هوية القبيلة . وهكذا وجدت الحكومة نفسها أمام حالة من العصيان المسلح والمواجهة المباشرة مع المكونات الاجتماعية هذه فسلمت بحقيقة وجودها وتعاملت معها كأمر واقع بل وصارت هي التي تدير الصراعات الناشئة عن الخلاف حول الثروة والسلطة.. ظهرت لنا أسماء قبلية محضة كعقار ومناوي وعبد الواحد وحميدتي وموسى هلال وانت ماشي ... إن اصلاح ما أفسده هذا النظام يزداد صعوبة كلما مضى الوقت وأعتقد أن مزيدا من حالات تقرير المصير والانقسامات ستأتينا في المستقبل القريب. ولن يرتاح هذا النظام إلا وقد تحددت سلطاته بحدود قبيلة الرئيس وبطانته.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة