لم أجد في فاتحة مقالي هذا كلمات أواسي بها نفسي المكلومة وأشارك بها غيري من بنات وأبناء وطني الجريح الذين تعودوا على أحزانهم المقيمة حد الإدمان حتى لم يعد في قلوبهم من متسع لحزن جديد، سوى كلمات قصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش التي قال فيها:ـ أيها المارون بين الكلمات العابرة* احملوا أسماءكم وانصرفوا* واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا، وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة، وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا* أيها المارون بين الكلمات العابرة* منكم السيف- ومنا دمنا* منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا* منكم دبابة أخرى- ومنا حجر* منكم قنبلة الغاز- ومنا المطر* وعلينا ما عليكم من سماء وهواء * فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا * كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء. يقولون: (إن الصورة لا تكذب أبدا)، و (إن الرصاصة تخبر عن الحقيقة دائما)، وفي خضم أحداث مدينة الجنينة الصامدة صدق القولان، لقد أخبرتنا الصورة، ونقلت إلينا كل شيء بتفاصيله الدقيقة بما حواه إطارها المخضب بدماء البؤساء والمعذبون في الأرض، وحكت لنا في صمت بليغ، وتجرد صادق عن مأساة وعذابات الإنسان في بلادي المغتصبة.... أخبرتنا الصورة عن هوان الإنسانية، وتآكل رصيدها حد التلاشي.... وحدثتنا عن الهزيمة في أقصى مرارتها حدة... عن العار والإنكسار... عن الذل والمهانة.... عن الشقاء والبؤس.... عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان في أبهى حُلل الظلم قشابة.... وعن الخداع والزيف كيف يكونان باسم الله الواحد الأحد الفرد الصمد. في تلك اللحظة الرهيبة التي توقف فيها زمن مدينة الجنينة الثائرة.... انتحبت المروءة حد الإنهيار... وبكت البراءة ملء دموعها.... وضحك كفيفو الإنسانية حد القهقهة لانتصارهم المهزوم في عيون أطفالنا، وكبرياء وكرامة نساءنا، وشموخ وعزة شيوخنا، وصبر وجلد شبابنا. تلك هي الصورة التي لخصت كل شيء لتقول لنا بصوت صاخب إن للإنسانية مفهوم آخر.... وصورت لنا في منظر مهيب أغنانا عن ألف كلمة وخبر وتقرير ومقال، وسردت لنا في مشهد سريالي كانت كل تفاصيله حاضرة في مسام شعورنا، لتحكي عن مأساة أطفال ونساء وشيوخ وكهول وشباب فارون من الموت الزؤام ومساقون إليه، وهم لا يدرون. تركوا قراهم وديارهم وحملوا أمتعتهم البائسة التي لا قيمة ولا ثمن لها خارج سياقها المكاني، واتجهوا صوب مقر حكومة حاضرة ولايتهم ظنا منهم بأن الأمن والأمان هناك.. وأن الشهامة والمروءة تقبع بين جدرانه المزينة بالديباج والحلي والحلل، وما دروا أن فرمانات الموت والهلاك يصدرها ويمهرها بخاتم القسوة وقراطيس الخذلان ساكن المكان نفسه. تركوا أحلام طفولتهم ومرتع صباهم ومهجع كهولتهم واتجهوا صوب ذلك المقر الحكومي المنيف الذي لا يشبه بؤس المكان وقبحه في شيء، ولاذوا به وتحصنوا فيه، فأدركتهم الحقيقة المرة بداخله، وأخبرتنا رصاصات زبانيته الأمنية حقيقة كل شيء، لتسقط الإنسانية سقطتها الداوية في امتحان إغاثة الملهوف وإجارة المستجير، ونجدة الضعيف، ويضيع بين ضجيج الهلع والخوف صوت إستغاثة إمرأة عمورية في بلاد الروم التي قالت وامعتصماه، فسًير لنجدتها ونصرتها جيشا فاق عديده ما تواضع عليه الناس وقتذاك من أرقام. لقد كانوا يظنون صادقين بأن من استجاروا به سيعيد للتاريخ الغابر ألقه في حاضرهم البئيس، وللرجولة الضائعة في زمن الخنوع والإنكسار مجدها الآفل ومكانتها المهابة، وللسلطة المنكسرة والمنهزمة في عهد التيه والضلال جبروتها وهيبتها، ويهُب لنصرتهم ونجدتهم، ليكفُ عنهم أذى صولة الصائلين، وجولة المحاربين الجائلين أعداء الحياة وصناع الموت، فسًير جحافل زبانيته عليهم ليحصدهم رصاص الغدر حصدا، ليحصن نفسه ويحس بأمانه الشخصي الخادع، ولو لبعض حين. لقد كنا نظن وكان ظننا إثما عظيما، إن حرق القرى يشمل فيما يشمل المدرسة، والشفخانة والاجزخانة، ونقطة البوليس، والطاحونة، ونادي متواضع للسمر، ومساحة للعب أطفال القرية وشبابها، ومحطة صغيرة لانتاج الكهرباء، وسوق لشراء الحاجيات اليومية، ومكانا إداريا يرمز للسلطة ووجودها. فانكشف لنا بعد أكثر من عقدين تحت سيطرة الدجل والشعوذة والضلال باسم الدين ستر حقيقة التنمية الكاذبة، واعوجاج فرية عدالتها وتوازنها المائل، فلم تكن تلك القرى والبوادي سوى بقايا من خيش رث، وقش مهتريء تعاقبت عليه دورات السنون، وقليل من حجارة وطين وأشجار شائكة متفرقة لا ظل لها ولا ثمر، وقليل من دواب عجاف تحتاج لمن يحملها، بدلا من أن تحمل خيرات تلك القرى التي لم تعد تنتج سوى الموت وفاجعته، وعار الإغتصاب وذله، وسيطرة الخوف وسلطانه، واختبار الألم وفظاعته، وجائحات الجوع الكافر ولسعاته، ولواعج الحرمان المهلك وتبعاته، وبشاعة المسغبة القاتلة ومراراتها، وما تبقى منها أرض بور بلقع لا تنتج سوى العدم، تتناثر فيها بقايا أكواخ بائسة لا تحمي من شمس السودان اللاهبة ولا تقي من برده القارس، ولا تحجز مطرا ولا تعطي ظلا. هذه هي طبيعة قراهم وبواديهم منذ نفخة الصور الأولى، نشأوا عليها، وماتوا عليها، ومنهم من ينتظر. تلك هي الحقيقة عارية بلا رتوش، وذلك هو واقع هؤلاء البؤساء بقرار مركزي منذ تشكُل دولة الشعب بلا حدود، ودولة الحدود بلا شعب التي اسمها السودان دون زيادة أو نقصان، فكأنما الزمن قد توقف عندهم منذ عهد الخليقة الأول، ليصبح للتنمية والعمران مفهومان آخران عند تتار العصر ومغول الزمان تتمثل في الرد كباري وسد (ليهرس) بها أمير دولة المشروع الحضاري المشير الراقص (فشفاش)، وأكباد ضحايا ميزان تنميته المختل، ويفقع بها مرارة أعداءه المتوهمين منهم والحقيقيين، أو كما قال أمام مؤيديه ومطبليه وسدنته في مقام زهو كاذب. نعم لقد صدق المشير الراقص حين قال في لحظة صدق كونية نادرة الحدوث بأنهم يقتلون إنسان دارفور لأتفه الأسباب أو حتى دون أسباب إن اقتضت شهوة القتل ذلك، وطلب في حياء مستتر الصفح والمغفرة أمام المدجنين والخانعين له سياسيا تحت ظلال سيوف إتفاقيات السلام التي تتناسل حروبا ودمارا. ووقف مخاطبا أولئك الذين ينتمون لأهل الضحايا إسما حين حل عليهم ضيفا ثقيلا في شهر الصفح والمغفرة، فسقط في إمتحان شروط التوبة وموجباتها، ونكص على عقبيه دون أن يخاف الله وعاقبة عقابه، وواصل في قتل إنسان دارفور، ليشبع شهوته المريضة في القتل من أجل القتل كما يفعل القتلة المتسلسلون ومصاصو الدماء في غزواتهم وحفلات صيدهم في بحثهم الدؤوب عن البشر. هل يستحق أهلنا في قرى دارفور وبواديها وحلاًلها الذين يعيشون خارج دورة التاريخ والزمن القتل والسحل والتشريد؟، هل يستحق هؤلاء الذين كان بؤسهم وحرمانهم، وكانت ولم تزل مظالمهم التاريخية بفعل فاعل مع سبق إصرار وتعمد من يحكمون باسمهم غصبا هذا المصير المظلم، وهذه النهاية المأساوية التي تمثلت في مقتلة ومجزرة مدينة الجنينة دار أندوكة الحزينة؟، أم إنهم جديرون بالحياة ومباهجها كغيرهم من الشعوب والجماعات والأمم؟. لقد غاب العدل في دولة اللاعدل، غابت القيم النبيلة في دولة اللا قيم، غابت النخوة في دولة أنا ومن بعدي الطوفان المتسربلة كذبا بأهداب الدين، غاب معنى الرجولة والشهامة في الدفاع عن الضعيف والذود عنه، بدلا عن قتله وسحله والإعتداء عليه بفرمانات ومراسيم وأوامر دولة القهر والظلم، غاب معنى أن يكون الإنسان إنسانا أو لا يكون شيئا على الإطلاق. وغاب كل شيء ينتمي لمفردات كلمات الرحمة والحلم والعدالة والإنصاف ووزن الأشياء بسليم الوجدان. في ذلك اليوم المشهود، وفي تلك اللحظات القاسية التي كنا نسمع ونشاهد فيها عن بعد مسافة آلاف الأميال بواسطة تنكنولوجيا نقل الصورة الناطقة زغاريد الخوف والجزع، لا زغاريد السعادة والفرح تنطلق من حناجر نساء ملتاعات هدهن الذُعر وتملكهن الفزع، بينما كان رصاص زبانية النظام الأمنية يحصد أمامهن أجسادا انهكها الجوع والخوف والمرض، أجساد لا تقوى حتى على المسير، ناهيك عن قدرتها في الدفاع عن نفسها، فأيقنا وراء ظلال كل شك معقول بأن الرجولة قد نُحرت على محراب الفضيلة والشرف الضائعين. ذلك الرصاص اللئيم الغادر الذي صام عن إسترداد أراضينا المغتصبة والسليبة، وكف صوته عن مسامع أعداءنا ومدنثي شرف وطهارة ترابنا، ليقتل ويشرد ويقمع ويهين أهلنا العُزل، ويدمر قرانا وديارنا. هذا الرصاص الذي لا يقتل إلا بريئا لائذا خائفا لا يمكننا وصفه ووصف من يحملونه إلا بالجبن والخوار والخسة والغدر، وينطبق عليهم وصف غزالة زوجة شبيب الشيباني، للحجاج بن يوسف الثقفي، وهو يفر من أمامها، حين قالت وهي تستعير هذه الأبيات من شاعرها عمران بن حطان:ـ أسد عليً وفي الحروب نعامة * ربداء تجفل من صفير الصافر،،،، هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر،،،، صدعت غزالة قلبه بفوارس * تركت منابره كأمس الدابر،،،، ألق السلاح وخذ وشاحي معصر * وأعمد لمنزلة الجبان الكافر. وإذا كان جيشنا الذي أقسم بشرف الجندية ونبلها بأن يحمي عرض نساءنا ويصون أرضنا ويحفظ ديارنا وعزتنا، لا يوجه سلاحه إلا إلى صدور الأبرياء من شعبنا على مر تاريخه، فليأخذ وشاح نساءنا، ويعمد لمنزلة الجبان الكافر، ذاك الذي كفر بالقيم الإنسانية واعتنق ديانة القتل والترهيب والإرهاب والقمع بحق شعبه، ولا نقول كُفر من كفر بقيم السماء، فهذا حسابه يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلاً. فيا أعداء الإنسانية خذوا ما شئتم من خيرات هذا البلد المعطاء، وافسدوا في كل شيء، واسرقوا واملئوا خزائنكم من ماله المشاع بينكم، وتنافسوا في إستطالة البنيان، وأسرفوا في اغتناء الفارهات من العربات، وكدسوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وتزوجوا مثنى وثلات ورباع، وما ملكت أيمانكم، واصطفوا من الغلمان المردة ما شاءت لكم سعة الإختيار، واضربوا في مناكب بلاد الله الواسعة سائحين متمتعين مستشفيين بعرقنا ومقدراتنا ومقدرات أجيالنا، واستدينوا باسمنا، ولوثوا بيئتنا وسمموا أرضنا، وأوقفوا مصانعنا، ودمروا مشاريعنا، وجففوا آبار بترولنا، وبيعوا طائراتنا وخطوطها، وبواخرنا وموانئها، وارهنوا سيادتنا وقرارنا. فقط دعوا شبابنا وأطفالنا يعيشون، عسى أن يصلحوا في يوم من الأيام، ما دمرته أياديكم الآثمة، وما فعلتموه عامدين متعمدين بحق وطن يُوصف بحق وحقيقة بأنه منبع الشهامة والنبل، وأرض الرجولة والنخوة، ومهبط سماحة أهله الكرماء الطيبيين، أصحاب النفرة والنفير، ومغيثي الخائف والملهوف. فصبرا أهلنا في الجنينة الباسلة، وكل أهلنا في هذه الدولة المكتئبة، غدا تشرق شمس الحرية وإن تأخر أوان شروقها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة