ما أن دهم الأمة الإسلامية خبر وفاة الدكتور حسن الترابي ، حتى هبّت عاصفة غير مسبوقة من الأحكام التي تقدح في إيمان الشيخ ، ومن الاتهامات التي تتهمه بكل مصيبة حاقت بحياة الناس العامة والخاصة في السودان . منذ الوهلة الأولى كان واضحا أنّ كل رياح تلك العاصفة الهوجاء تهب من مرتفعات الأهواء الذاتية ، وكان بينا أنّ مطرها يهطل من سحب أمراض القلوب، التي حذّر منها المصطفى صلى عليه وسلم ، و التي تنكرها فطرة المسلم الحق ، وتأباها نفس المؤمن السليمة ، فتلك الأحكام الطائشة لم تستند إلى أراء فقهية علمية صحيحة ولا الى ادلة جازمة ، ولم تأت من علماء كبار ، أو من أشخاص مُنزهون عن نزعات النفس الأمارة بالسوء ، فالذين أطلقوها كان واضحا أنّ بعضهم تنقصه الإحاطة الكاملة بأقوال الترابي ، وانه يفتقر للفهم ، و للإدراك التام لما قال ، وكان واضحاً أنّ البعض الآخر ينقصه وضوح الرؤية ، وانه يفتقر للعلم الكافي الذي يجعله قادرا على الحكم على الآخرين لأنه متمترس خلف نصوص لا يحملها إلا على وجه واحد ، و لا يرضى بغيرها ، أما البقية فهي كالعهد بها تتناقل ما يطلق سامعاً عن سامع ، دون إعمال للعقل، و دون مراجعة للنفس من اجل (عصمة الألسن ) حتى لا توردهم الموارد. إنّ كثيرا من الذين تناقلوا تلك الأحكام ، وفرحوا بها ، وتداولوها في السابق قد عادوا إلى تداولها ، ونشرها ، بعد أن أضافوا إليها السّب ، والشتم ، واللّعن ، والتّمنى بدخول جهنم من أوسع أبوابها في اللّحظات التي كان يوارى فيها الجثمان الذي نظن طهر صاحبه - دون أن نزكيه على ربه - الثرى ، وهي اللّحظات التي أمر فيها الرسول الكريم بالدعاء للميت ، وبالاستغفار له ، فأي دين يتبع هؤلاء ، وبأي سنة يقتدون . إنّ أي مسلم يتمنى دخول مسلم آخر النار، ويفرح بذلك ، هو مسلم لم يفهم الإسلام ، ولم يعرف رحمة ربه الرّحمن الرّحيم ، الذي طوى الأرض طياً ، من أجل أن يُدخِل نفساً واحدة الجنّة ، بالرغم من أن صاحب تلك النفس كان قد قتل مائة نفس ، دون أن يطرف له طرف أو يرف له جفن . إنّ الله يحاسب الناس على نياتهم قبل أفعالهم ، ولذلك فان أول ثلاثة توقد بهم النار يوم القيامة ، هم قارئ قُرآن ، ومُجاهد ، ومُتصدِّق بماله ، ويقيننا أنّ نوايا الشيخ بشأن الدين ، والوطن ، كانت خالصة لوجه الله تعالى ، حتى وان كان قد أخطا في أمر، أو جانب الصواب في قضية ، بالرغم من أنّ كل أو معظم القضايا التي دفعت أولئك لتكفيره هي قضايا خلافية ، تحدث فيها كثيرون غيره ، دون أن نسمع أحداً يكفرهم ، أو يحضّ الناس على تكفيرهم ، أو الدعاء عليهم ، وذلك أمر يبين ، ويؤكد أن الشيخ كان مستهدفاً لشخصه ، ولمكانته ، ولحراسته لثغرة من ثغرات الدين في هذا الموقع المهم من العالم الإسلامي ، وان البغض ، والكره كانا هما الدافع الأساسي في الحكم عليه. إن العداء للترابي قد سنّه أول الأمر أهل اليسار من السياسيين في السودان ، الذين بارت أحزابهم ، وكسدت سلعهم ، وفسدت دعاواهم ، أولئك الذين لم يعجبهم إغلاق البارات ، ولا الغاء رخص بيوت الدعارة ، ولا اختفاء صفوف الزنا ، التي كان يتولى حراستها ، وتنظيمها أفراد الشرطة النّظامية ، فمضوا من وقتها يلفقون الأكاذيب ، وينشرون الإشاعات عن الترابي في حرب مستترة على كل ما هو إسلامي ، حتّى وصل بهم الأمر للتحّدث في رجولته ، فتمكنوا بتلك الوسائل الرخيصة ، من التأثير على أنصاف الفقهاء ومن استعدائهم عليه ، واستطاعوا التأثير على عوام الناس فجعلوهم يرمونه بكل ما لم يفعله وحتى أطلقوا على قوانين الله قوانين سبتمبر . إنّ أكثر ما اضرّ بالإسلام ، واضر بأمتينا العربية ، والإسلامية عبر التاريخ ، هو شدة الحماس ، وقلة المعرفة ، الحماس الطاغي الذي يعمي البصر ، فيجعل صاحبه عاجزاً عن رؤية الشمس في وضح النّهار ، وعن تمييز الصواب من الخطأ ، ويدفعه ليرمي بنفسه في المهالك ، والشرور ، ظانا انه سيصيب خيراً ، ونجاحاً ، وفلاحا ، وقلة المعرفة التي تعمي البصر ، والبصيرة ، وتجعل الإنسان متعصباً يظن من شدة تعصبه انه أولى بالله من غيره ، وانه اقرب إليه من الآخرين ، وانه أعرف بدينه منهم ، لذا فهو ينوب عنه في الأرض ، وانه بموجب تلك الإنابة له الحق في إجبار الآخرين على أتباع ما يتبع ، وعلى سلوك الصراط الذي يسلك فان أبوا فمن حقه أن يحكم عليهم ، وان يحاكمهم ، أما أكثر ما اضر بالسودان فهو تصديق كل ما يقال وترديده بتلك الطريقة الببغائية دون تحري ودون تثبت . ومن عجب أنّ بعض علماء هذا الزمان يبينون رأي الشرع للناس في بعض القضايا من مذهب واحد ، ومن قول واحد هو المذهب الذي يعتنقون ، دون أن يذكروا لهم أنّ هناك أراء أخرى لفقهاء آخرين لها أدلتها وبراهينها . إنّ الذين كفروا الشيخ في السودان هم فرقة متفيقهين ، أنصاف متعلمين ، أولياء مذهب ، أو أنصار جماعة ، أو متعصبين لطائفة ، لا يقبلون بخلاف أو اختلاف ، يفرحهم التكفير فيسارعوا له كأنه فتح الفتوح ، ويبهجهم ويثلج صدورهم دخول الناس إلى النار فيكيلوا لمخالفيهم اللّعنات ، والدعوات من أجل أن يدخلوها، بدلاً من أن يسألوه أن يمن عليهم بالهداية (مثلهم ) طالما أنهم يظنون أنهم مهتدون ، وطالما أنهم يسالون رباً رحيماً ، كريماً ، يستجيب الدعاء و يفرح بتوبة عبده فرحاً عظيماً ، فمن المفترض أنهم دعاة خير لا دعاة شر . وهؤلاء يشبهون أصحاب ذي الخويصرة اليماني الذي قال فيهم الرسول صلى الله عليه (إن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ) . فالأيام تدور ولا بد أننا نستشرف زمانا مثل زمان ذي الخويصرة ولا بد أننا على أعتابه فقد بدت طلائعه تترى وبانت نذره تقول( صبحكم ومساكم ) ففي الكثير من بلدان العالم الإسلامي اليوم أصبح المسلمون يقتلون المسلمون ( جهادا في سبيل الله ونصرة لنبيه ) ، و يجعلون من بقر بطون النساء ، والأطفال ، والشيوخ طريقاً يسلكونه إلى جنة الفردوس الأعلى ، لينعموا بحورها ، وحريرها ، وأنهارها ، وثمارها ، وإيمانهم بصحة ما يفعلون ، وما يقولون ، وما يعتقدون ، يفوق أي إيمان آخر فأي ضلال أشد من هذا الضّلال . .ان تكفير المسلم لا يكون إلا بأدلة قطعية لا تقبل الجدل ، ولا يكون إلا باستفهامه وبمراجعته عمّا قال اذا كان ما قاله فيه لبس ، ولا يكون الا بالتحدث اليه لفهم مراده ، ولقد شهد الكل أن الشيخ الراحل كان في غاية اللّطف ، والصبر والتواضع ، وان باب داره كان مفتوحا على الدوام ، وانه كان يستقبل كل من يقصده ، ويحادث كل من يحادثه ، ويراجع كل من يراجعه ، فهل ذهب الذين كفروه إليه يوما ليراجعوه فيما قال ويسألوه عنه ؟ هل جلسوا اليه مستفسرين حتى يفهمهم ويعرض عليهم أدلته ؟ أم أنهم سارعوا إلى تكفيره فرحين ؟ ولماذا لم يذهبوا إليه ومضوا يكفرونه - من على البعد - استنادا إلى مقولات المجلات والصحف التي لا يجزم احد بصحة كل ما تكتب ؟ إنّ السبب واضح فالشيخ قد كساه علمه الغزير هيبة كهيبة الأسد ، جعلت الآخرين يهابونه فمضوا يرمونه بسهامهم من بعيد ، خشية أن تفترس أنياب علمه لحم معرفتهم الغض الهش ، فيتضح جليا قلة معرفتهم إلى جانب معرفته فاثروا السلامة . إن أنصار الترابي يرحمه الله ، وتلاميذه ، ومحبيه ، والمؤمنون بصدق نواياه ، وبجهاده واجتهاده ، المستوعبون لأحاديثه الفاهمون لمقاصده ، يترحمون عليه في الصباح وفي المساء لأنهم مقتنعون انه أفنى عمره كله في محاولة تمكين الدّين في السودان ، وفي السعي لإيجاد مخرج لهذا البلد الطيب ، بل يعرف فضل الترابي حتى الأفارقة الذين لا يجيدون اللّغة العربية إجادة تامة ويكفىه انه كان السبب ، في تطبيق أول شريعة في السودان بعد الاستعمار ، ويكفيه انه صُلّي عليه صلاة الغائب في 60 مسجدا في موزمبيق وحدها ، مثلما صُلّي عليه صلاة الغائب في الكثير من دول الساحل الأفريقي. أما غوغاء السياسية أصحاب الاتهامات الكاذبة الذين تطاولوا عليه وأطلقوا الأكاذيب ، وروجوا الإشاعات ، ورموه حتى في شرفه سيعرفون يوم يقوم الناس لرب العالمين أي منقلب ينقلبون لان الله سيطالبهم ، بادلتهم ، وسيرد أمرهم إليه إن شاء أن يقتصّ منهم ، وان شاء غفر لهم . ألا رحم الله العلامة الدكتور حسن الترابي ، واسكنه فسيح جناته ، مع الصديقين ، والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . بهاء جميل
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة