|
من سيكتب القصيدة الرابعة؟
|
على المحك صلاح يوسف – [email protected]
رحم الله شاعر الشعب الفذ ورمز الوطنية والإنسانية محجوب شريف الذي - كان من فرط حبه لنا وحرصه على التواصل معنا، حتى وهو في أحلك الظروف المرضية - يتحين لحظات الإفاقة من غيبوبته في غرفة الإنعاش لا ليتنسم عبير العافية فيسعد، وإنما لدوزنة عباراته الشعرية والحديث ولو عبر الهاتف مع أصدقائه وعارفي فضله الكثر. فقد حدثني الدكتور عبد القادر الرفاعي عنه ونحن جلوساً في المأتم بأنه كان يتحدث معه بالأمس – أي اليوم السابق لرحيله - فذكر أن محجوباً قال له إنه بخير وكتب من سرير المرض ثلاثة قصائد نشرت بالشبكة العنكبوتية وغداً سيكتب القصيدة الرابعة، غير أن القدر كان أسرع منه فلم يسعفه الزمن ليحقق حلمه بكتابة القصيدة الرابعة. وبدلاً من أن ترى النور وتضيء حروفها الفضاءات جاء الأثير موشحاً بلون السواد حاملاً خبر نعيه الذي شق على الجميع. هل يا ترى أن محجوباً كان يحس بدنو أجله وأرادنا أن نتهيأ لقصيدته الأخيرة التي وعدنا بها فتفرقت حروفها من بين يديه حائرة وحومت على هاماتنا مترعة بالأسى والحزن المتمثل في حالة من الوجوم والشتات الذي غمرنا فأنبهم سيلاً من الحسرة والنشيج نراه بادياً في تظاهرة التشييع الذي كان بمثابة استفتاء لصالح مسلكه السوي وأعماله الشعرية الخالدة. لقد مضى محجوب مأسوفاً عليه، فمن يا ترى سيكتب القصيدة الرابعة ومن يملك أدواته ومهارته وحسه الرفيع لمجاراته؟ يبدو أن القصيدة التي وعدنا بها أفصحت عن سرها الدفين فكانت هي كل ما تدفق من مشاعر حزينة لكننا لا نقدر على قولبته شعراً أو نثراً ليرقى إلى درجة رد الجميل الذي رفعه شعاراً لخدمة غمار الناس والفقراء والبسطاء.
أذكر من الشعراء الذين كتبوا قصائدهم وهم يعانون مرارة لحظاتهم الأخيرة، بدر شاكر السياب عندما كان بالمستشفى الأميري بالكويت إذ قال في قصيدته الأخيرة نفس وقبر: (نفسي من الآمال خاويةٌ / جرداء لا ماءٌ ولا عُشبُ / ما أرتجيه هو المحالُ و ما لا أرتجيه هو الذي يجبُ / قدرٌ رمى فأصاب صادية في الجو خرت وهي تنتحبُ). وأذكر أمل دنقل عندما أدخل للعلاج في الغرفة 8 التي كانت محطته الأخيرة قال في قصيدته ضد من: (فلماذا إذا متُّ يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحدادْ؟ هل لأن السواد .. هو لون النجاة من الموتِ، لونُ التميمة ضد الزمنْ؟! ضد مَنْ؟ ومتى القلب – في الخفقان – اطمأنْ؟ بين لونين: أستقبل الأصدقاء الذين يرون سريري قبراً / وحياتي .. دهراً / وأرى في العيون العميقة / لون الحقيقة / لونَ تراب الوطنْ) وحين نقرأ قصائدهم الأخيرة هذي نلمس تصويراً دقيقاً وفيضاً من الصدق والتسليم بالقضاء الذي لا مفر منه. وعلى هذا النسق كانت قصيدة محجوب شريف (صحة وعافية للشعب السوداني) وهي آخر قصائده الثلاث التي كتبها على السرير الأبيض وفيها يودع الشعب السوداني ويتمنى له الصحة والعافية التي كنا جميعاً نتمناها له هو، فما أروعه وهو يقول: (مِنْ وجْداني/ صَحَّة وعَافية/ لكل الشعب السوداني/ القَاصِي هناك والداني/ شُكراً للأرض الجابتني والدرب الليكم ودَّاني/ يا طارف وتالد/ يا والد/ النيل الخالد شرَّفني / واحد من نسلك عدَّاني/ إنتَ الأول وما بتحوَّل/ وتَب ما عندي كلام بتأوَّل/ أنت الأول/ وكل العالم بعدك تاني/ يا متعدِّد وما متشدِّد ما متردِّد … ما متردِّد/ ملئ جفوني بَنوم مُتأكِّد/ بل متجدِّد .. تنهض تاني). نأمل أن يتحقق حلمه بالتجدد والنهوض حتى يرقد مرتاح البال بأن ما نذر نفسه للدفاع عنه وما كان شاغله الأول والأخير قد صار حقيقة.
لك الرحمة والمغفرة أيها الشاعر بما لم نشعر به .. أيها الحادي الذي غسلت أدراننا بمائك الطهور وانرت طريقنا بمسلكك القويم وقوّمت اعوجاجنا بثباتك على المبدأ. والعزاء موصول لزوجه وابنتيه وأصهاره وأقاربه ولجميع محبي شعره الباذخ ولكل حروف الأبجدية.
|
|

|
|
|
|