فرغت للتو من قرآءة كتاب ( حكاوي امدرمان ) لشوقي بدري مرة أخري وقد خصني مشكورا" بكتابة تقديم للكتاب ، وقد أفدت منه متعة لا توصف ، وحرك في دواخلي ذكريات عذبة لأيام حلوة ماضيات طواها الزمن عشناها في طفولتنا وصبانا في مدينتنا الحبيبة أمدرمان بأريحيتها وسماحتها وكرمها وأصالتها ، وترابها و(كتاحتها ) وجالوصها وزقاقاتها .. واستمعت الي فاطمة احمد ابراهيم من شريط للأحتفاء بها في كندا قالت فيه : ( ماتقولوا أنحنا عاجبانا سكني العمارات والبنايات الفخمة ، والله أنحنا بنشتاق لبيوت الطين وزقاقات العباسية في امدرمان وهي الي الان تسكن في منزلهم العتيق في العباسية ، أطال الله عمرها وشملها بالصحة والعافية ، ويجدر الذكر أن المرحومة الكتورة خالدة زاهر وكانت تقيم مع أبنها في انجلترا كانت تحرص علي الحضور كل عام الي امدرمان في منزل العائلة في فريق ريد بالموردة في امدرمان ، والزعيم أزهري لم يغادر سكني امدرمان الي أن توفاه الله ، وكذلك الرئيس السابق نميري لم يغير مسكنه في ود نوباوي بامدرمان . وفوق ذلك كله فأن أهل أمدرمان في تحضرهم ورقتهم وانسانيتهم أناس سمت بهم فضائلهم ، فلا أحقاد ولاضغائن فهم يطلبون العفو من بعضهم البعض في الأعياد ، وليس بهم شح ولا بخل ، يقتسمون الزاد والملاح مع بعضهم البعض ، أهل نجدة وشهامة يخرجون الي الشارع مسرعين عند سماع أمرأة تصيح ( ورو روك ) ، حفظة شرف وعرض ، يعتبر كل واحد منهم بنات الحلة أخواته ونسآء الحلة خالاته ، كان كبارنا يعاملونا كأبنائهم من حيث التوجيه والتربية والعقاب البدني ولم نكن نري غضاضة في ذلك أ و شذوذا" لأنهم يتوقعون من الجميع أن يكون هذا تصرفهم .. الكل أشقآء بعض وأن لم تلدهم رحم واحدة ..هذه خصالهم تجدها عند البر والفاجر ..ولقد أتانا شوقي في حكاويه بأمثلة حية عنها ، فأمدرمان كالمصفاة جمعت شمائل السودانيين من عرب وزنج ونوبة ونفت منها جميع الشوائب وخرج من المصفاة مزيج صاف رائق طيب ..لم نحتاج الي قانون وشرطة نظام عام كالذي حدث ويحدث في زمن الكيزان الأغبر ، فقد كنا ونحن شبان بعد انتهآء ( اللعبة ) وهي حفلة الغنآء في الأعراس التي يغني فيها أحد المطربين وتلك عادة ما تنفض في منتصف الليل أو قبله ، كنا نصتحب بنات الحلة الي بيوتهن ونقرع الباب ويفتح لنا والد الفتاة ويدخل أبنته مع الشكر والدعآء لنا ، ولم يكن يساور بال أحد منا العيب ، فكيف تأتي العيب مع أختك؟ هكذا كان تعاملنا مع بنات الحلة ، وأن حدث تلاقح علاقات حميمة بين شاب وشابة ، فأن ذلك يحدث بكتمان شديد ، وأن جرؤ البعض فعن طريق الجوابات التي يكتبها الفتي والعاقبة الحتمية لمثل هذه العلاقة هي الزواج ، وكانت الفتاة تهدي الي فتاها منديلا" مطرزا" بيديها عليه الحرف الأول من اسمها أو أسمه ، وكانت هذه أغلي هدية يتمناها محب ، وكانت العلاقة يشوبها الطهر والعفاف ، ومع ذلك أذا علم بها أهل الفتاة فأن ( القيامة تقوم ) حينئذ .. هكذا كانت امدرمان .. وتطرق شوقي الي العالم السفلي في امدرمان حيث العرقي والبنقو والنشل ، وبرع في تصويرهم لأنه اختلط بهم وعاشرهم واتخذ من نفر منهم اصدقآء مع أنه لا يتعاطي هذه الموبقات وحتي تدخين السجاير وسف السعوط دعك من الخمر والبنقو ، ولذلك جاءت كتابته صادقة معبرة ، وهذا يذكرني بكتابات الكاتب الأمريكي الكبير مارك توين وكتابيه ( مغامرات توم سوير ) و ( هكلبري فن ) وأري شبها" بين بطل كل من الروايتين وشوقي في مغامراته وصولاته ، فقد كان ولدا" شقيا" ، أو كما نقول في أمدرمان ( شيطان وعصبجي ) وكنت فيما مضي عندما قرأت له عن امدرمان في جريدة الخرطوم عندما كانت تصدر في القاهرة وكنت اكتب فيها ، وسألت عنه ولأنني أعرف كل آل بدري وعلي رأسهم شيخنا الجليل بابكر بدري واعتبر نفسي ( بدريا " بالتجنس ) أو بالأحري ( حفيد ) فقد كان العميد يوسف بدري يأمرني بأن أدعوه ( بعمي ) وكذلك استاذي وناظري ابراهيم ادريس يرحمهما الله رحمة واسعة ،لأنني تلقيت تعليمي من الروضة والي الشانوي بمدرسة الأحفاد ،وعملت فيها مدرسا" حقبة من الزمن ، وزاملت في الدراسة مالك بدري ودرست قاسم بدري كما زاملت ودرست بعض أبنآء بيت المهدي كاحمد ويحي ومحمد والذين كانوا يتلقون تعليمهم في مدارس الأحفاد حتي المرحلة الأبتدائية ( المتوسطة ) ..وكتب شوقي عن بعض شخصيات الموردة وفريق ريد وهذا هو الحي الذي ولدت ونشأت فيه ولا أزال أعيش فيه ، وجميع هذه الشخصيات التي ذكرها عاصرتها والبعض كانت تربطني به صداقة أو زمالة دراسة أو زمالة الحي ، ومن هؤلاء ( كتلة ) وهذا لقبه واسمه الحقيق مصطفي ، وهو من عائلة محترمة ووالده ضابط جيش كبير متقاعد وتربطه بنا آصرة نسب ، وكتلة دفعتي وصديقي في المدرسة الأبتدائية وعمل بمصلحة الزراعة والغابات بعد تخرجه من الأبتدائية ،وفي تلك الأيام كانت الوظائف الدنيا يشغلها خريجو المدارس االأبتدائية والثانوية وجل موظفي الخدمة المدنية من هؤلاء وكانت الوظائف القيادية يشغلها الأنجليز ، وهو من الشخصيات التي ذكرها المؤلف بأنهم استهوتهم بنت الحان ( الخمر ) فأدمنوها ، ولكن هناك جوانب مشرقة في شخصياتهم ، فكتلة رجل مهذب حلو المعشر ( أخو أخوان ) كما نقول ، وفي أحدي المرات وهو في حالة ( انعدام الوزن ) أراد أن يعبر شارع ( الزلط ) وهو شارع الأسفلت الرئيسي صدمته عربة كسرت كلتا ساقيه ، وبعد أن شفي بعد وقت طويل صار يمشى بصعوبة بعكاز ، وبعد حين أقلع عن الشراب وتراه الأن جالسا" علي (بنبر) بجوار باب منزلهم منذ الصباح حتي يزول الظل ، ثم يعود الي الجلوس مرة أخري في العصر حتي الغروب ثم يدخل دارهم ، وفي جلسته تلك يتبادل التحية والحديث مع المارة من ناس الحلة ، كما أن له دخل من معاش أبيه المتوفي كفاه ذل السؤال والحاجة .. أما الشخصية الموردابية الأسطورية فهو ( كبس ألجبة ) وكان رجلا"قويا" كثور الساقية والذي تحدث عنه شوقي بايجاز فقد كتب عنه الكلتب الصحفي المخضرم الموردابي ميرغني حسن علي باسهاب في كتابه ( حكايات امدرمان ) ، وكذلك كتب باسهاب عن الأديب الشاعر المثقف عبد الله الصديق من أبكار خريجي جامعة بيروت واحد كتاب جريدة الفجرفي الثلاثينات من القرن العشرين والتي كان يصدرها عرفات محمد عبد الله الذي لا يحتاج لتعريف وكذلك جريدة الفجر ، وودت لو أن شوقي اورد شيئا" عن الجانب الأيجابي في شخصيته لو تيسر له ذلك ، فلا يستقيم لأحد اذا اراد أن يكتب عن ريادة الحياة الأدبية والثقافية في السودان دون أن يذكر عبد الله عشري الصديق وشقيقه المهندس محمد عشري الصديق اللذين كونا جمعية الموردة الثقافية التي أمتدت منها جمعية الهاشماب الثقافية وكان من أعضائها الطبيب المشهور الأديب عبد الحليم محمد والأديب الشاعر السياسي محمد احمد محجوب رئيس وزررآء السودان الأسبق ، وكانت هذه الجمعية مع جمعية أبو روف الثقافية النواة للحركة الثقافية في امدرمان ، وللأخوين عبد الله ومحمد عشري الصديق مؤلفات نشرتها دار نشر جامعة الخرطوم .. ومن طريف ما يذكر أن ( كبس الجبة ) وأحد أصدقائه كانا جالسين في أحد مطاعم الموردة الشعبية شرق شارع الأسفلت مكان سوق السمك الجديد الحالي وهما يحتسيان خمر ( الشري ) ، فمر بهما الأستاذ عبد الله ، ورحبا به ترحيبا" حارا" ودعوه للجلوس معهما ، وبالغ كبس في اكرامه من زجاجات الشري ، وكان الأستاذ عبد الله يسمي نفسه ( دابي الليل ) ولما لعبت الخمر برأس ( الدابي ) قال ( لكبس ) : ( اذاكنت نسرا" فقد لاقيت عقابا )، فرد عليه كبس بقوله : (يا أستاذ بالله اتكلم معانا عربي ) ، وقال له الدابي : ( أن كنت ريحا" فقد لاقيت أعصارا" ، فرد عليه كبس بنبرة حادة غاضبة : ( يا استاذ ما قلنا ليك اتكلم معانا عربي ) ، وصاح فيه الأستاذ : (أسكت يا ضب أنا دابي الليل ) ، وهنا نفد صبر كبس فحمل الدابي بين يديه كالطفل وقذف به بعيدا" كالكرة .. بقي أن أقول أن شوقي لا يؤرخ ولكن يكتب ذكريات نلمح فيها من خلال بعض شخصيات امدرمان بعض ملامح المجتمع الأمدرماني في الماضي القريب ويغلب علي هذه الذكريات جانب الطرائف والملح ، ومع ذلك فهو جهد يشكر عليه ويبقي الكتاب من الكتب الممتعة التي تسر النفس وتجلب البسمة أو الضحكة للشفآه في عالم أمتلأ بالنكد والمنغصات ...شكرا شوقي هلال زاهر الساداتي 22 يونيو 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة