لا اعرف سؤالاً بلّه صفوتنا اليسارية الجزافية وغير الجزافية مثل سؤال: من أين جاء هؤلاء (انقلابيو 1989)؟ الذي طرحه الطيب صالح في مبدأ قيام الانقلاب وأجاب عليه في خاتمة حياته الخصيبة بدلائل الإبداع. قلت لهذه الصفوة إنه من اختصاص الكاتب أن تركبه الدهشة لما يراه من غلظة في الإنسان أو النظم ويطلق الأسئلة المسماة بلاغية (rhetorical). وهي أسئلة لا إجابة لها لأن المقصود منها الاستنكار والاستفظاع لا غير. ووجدت صفوتنا الموصوفة تعيد سؤال الطيب صالح وتبديه معجبة بنصه الموجز كمن وجد المفتاح لفهم الانقلاب بينما يملك أكثرهم أدوات الإجابة عليها من زاوية علم السياسة والاقتصاد الاجتماع. ولكنهم تشبثوا بالسؤال البلاغي تشبث أهل سوق الثلاثاء بغرب الرباطاب بكلام عمدتهم المهيب سلمان أبو حجل. فهم يعيدون كلامه في السياسة من يوم قاله لهم في يوم السوق إلى انعقاده في ثلاثاء قادمة. هذه محاولة، ضمن محاولات تتالت، مني للنظر في منشأ انقلاب "الكيزان" في فكرنا وسياستنا بلا دهش او بله).
بلغني أن الدكتور حسن مكي، الكاتب الراكز في الحركة الإسلامية السودانية، قد دعا منذ مدة إلى قيام حزب إسلامي ييمم وجه شغفه ونشاطه شطر "المعلمين الله". وهم، في دارج العبارة السودانية، من يعلم الله سبحانه وتعالى وحده إملاقهم وصبرهم الجميل عليه. وخصوم الحركة الإسلامية، الذين قنعوا في خيرها أو برها، سيعدون دعوة حسن وسواساً خناساً من وساوسها الخناسة، أو على الأقل محاولة من بعض ليني الركب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حكم الحركة الإسلامية بقيادة الفريق البشير، أو للقفز من مركبه الغارقة لا محالة في زعمهم. وحسن عندي صادق ومؤمن. والذي يقرأه بدقة يجده لم يفقده التزامه العريق الدقيق بالحركة الإسلامية احترامه البليغ لعقله. فقد سبقنا جميعاً إلى التنبيه إلى غلواء عنصر المحامين في الحركة الإسلامية، وكل حركة السياسة عندنا، مما أدى إلى طبعهما بمزيج مؤسف من اللجاج المهني واستصغار شأن المباحث الإنسانية والاجتماعية في علم السياسة والحكم. وقد حمل على الحركة الإسلامية لانصرافها عن الشغل المُرّ والإنتاج الأمَرّ في باب الدراسات والبحوث إلا النذر القليل. وإنني لأثق أن مثل هذا الرجل المشغول بأمهات المسائل لا ينطلق فيما يدعو إليه عن استرضاء أو وجل. تستحق دعوة حسن إلى حساسية إسلامية مبتكرة حيال المعلمين الله عناية كل مؤرق بهاجس العدالة الاجتماعية التي توارت عن أجندة الساسة بعد أن تهاوى أكبر معاملها البشرية في أقصى الأرض إثر "طي الخيام"، في تعبير لبق للأستاذ علي عثمان محمد طه، الاشتراكي الفاضح. ومع ذلك تأخرت هذه الدعوة إلى وضع المعلمين الله نصب ممارسة الحركة الإسلامية كثيراً برغم أن الإسلام نفسه مجاز بليغ عجيب في نصرة المستضعفين. وقد تفادت الحركة الإسلامية، وبثمن فادح، أن تشق طريقاً مخصوصاً إلى المعلمين الله في ظلال هذا المجاز البليغ. وربما كان سبب الحركة إلى تفادي هذا الطريق أنها نشأت في ملابسات سودانية في آخر الأربعينات والخمسينات وقد سبقتها إلى معاني العدل الاجتماعي حركة شيوعية قادرة. فقد نجح الحزب الشيوعي في ابتدار حركة نقابية واجتماعية مزجت بين الوطنية والتغيير الاجتماعي مزجاً ذكياً في أقل من عقد من الزمان منذ تأسيسه. وبإزاء هذا الوضع التاريخي الدقيق، الذي يحسن فيه المسلم البسيط الظن بمتهمين في دينهم، وجدت الحركة الإسلامية أن غاية أمرها أن تفك الاشتباك بين المسلمين والحركة الشيوعية الملحدة. واستسهلت الحركة الإسلامية أن تضرب على وتر العداء للشيوعية، وأن تُزهد المسلمين في الشيوعيين، ولم توفق هي مع ذلك في شق طريق أصيل إلى المسلمين بآيات بينات من العدالة الاجتماعية. فقد جندت الحركة الإسلامية جندها وغير جندها في نهايات 1965 لحل الحزب الشيوعي، الممثل في البرلمان، إثر ندوة أساء فيها طالب محسوب على الحزب الشيوعي للنبي الكريم وأهله حين استشهد بحادث الإفك للقول بأن الدعارة قديمة في البشر ولا سبيل إلى إلغائها. ولم يحل دون الحركة الإسلامية وخطتها للقضاء على الحزب الشيوعي نداء الحرب، الذي زينه بـ "إن جاءكم فاسق بنبأ. الآية"، أنكر فيه عضوية الطالب به، موضحاً أن حزباً مُثله في حرب الفقر والحاجة المؤديين إلى الرذيلة، وفي الدعوة إلى كرامة المرأة، لا يمكن أن يرى في البغاء معنى أو قيمة. وكبرت كلمة. ولشبهة الحركة الإسلامية أن الدعوة للعدالة الاجتماعية رجس شيوعي في آخر المطاف، نفت من صفوفها كل من جاء إليها بفكرة أو بأخرى لتنظيم المجتمع متأثراً بدعوات الاشتراكية التي راجت خلال فترة التحرر والبناء الوطنيين. فقد نازلت الحركة الإسلامية فكراً وتنظيماً الجماعة الإسلامية من شيعة المرحوم بابكر كرار حين مزجوا بين الإسلام والاشتراكية. وقد بلغ هذا المزج حداً سماهم به المرحوم حسن نجيله "شيوعيو إسلام"، لما رأى أشواقهم البرنامجية في إلغاء الإقطاع والملكية الجماعية للأرض تحت شـعار الأرض لمن يفلحها. ولهجاء شيعة كرار توفر عمر بخيت العوض، العضو البارز في الحركة الإسلامية في الخمسينات على كتابة كلمة مدروسة راجعها حسن الترابي وهو لم يزل طالباً بالجامعة. وقد شددت الكلمة على أن أسباب السعادة والشقاء في هذه الدنيا راجعة إلى قضية مركزية هي الإيمان بالله أو الكفر به لا إلى العوامل المادية المباشرة. وأطلقت الكلمة العنان للملكية الفردية ولم تر في الغنى والفقر ما يشين المجتمع الإسلامي طالما التزم الأغنياء والفقراء بالتقوى، وكف الأغنياء يدهم عن التسلط المنهي عنه في الإسلام. وهي كلمة جيدة السبك نشرها الدكتور حسن مكي كملحق للجزء الأول من سفره الحركة الإسلامية في السودان. ولحق مصير شيعة كرار بالمرحوم الرشيد الطاهر بكر العضو المؤسس بالحركة الإسلامية والذي برز في أدوار قيادية مرموقة في ظل حكم الرئيس نميري، وكان قد جاء إلى الحركة الإسلامية بعد ثورة أكتوبر 1964 ببدعة الاشتراكية الإسلامية وبمزاج للتعاون مع الشيوعيين دون الأحزاب السياسية التقليدية. واصطدم الرشيد بالحركة واستقال في 1965، أو اضطُر للاستقالة. وزاد طين جفاء الحركة الإسلامية للمعاني المستحدثة في العدالة الاجتماعية أنهم جاءوا إلى الجزيرة العربية في سنوات البترول الباكرة حين خرجوا عن ديارهم بعد انقلاب الرئيس نميري اليساري في 1969 تطهيراً وملاحقة وتضييقاً. وأثرى أبكار الحركة من أبواب عدة: من باب التضامن معهم إنسانياً وإسلامياً، ومن باب كفاءتهم الجيدة في السياسة والمهن كافة، ولما عادوا إلى السودان كانوا خلقاً آخر. فهم لم يثروا فحسب بل امتلكوا الأدوات الفريدة لبناء دولة للأغنياء مثل البنوك وشركات وخبرات الاستثمار والتأمين، ومعرفة وذوق بالأسواق وأهلها في العالم العربي الإسلامي وغيره. وهكذا عادت هذه الجماعة الإسلامية، وأكثر أفرادها من أصول ريفية متواضعة، شتلة منقولة من رياض العالم العربي الإسلامي، وفاتت عليها بذلك تجربة دقيقة في الفقر السوداني المديني وغير المديني تحت هجير الجفاف والتصحر والمجاعة والحرب وسياسات للحكم مرتجلة وخالية من الأمانة والمسئولية. واستلموا حال عودتهم مقاليد هامة في السياسة السودانية والدولة التي يعض الفقر أهلها بنابه الأزرق. وحتى حين بلغت هذه الجماعة الحكم، أو هجمت عليه في 1989، لم تستشعر حرجاً حيال مسألة العدالة الاجتماعية. فقد جاءت إلى الحكم في فترة من الزمان سميت بـ "نهاية التاريخ" انتصر الغرب الرأسمالي الديمقراطي انتصاراً كاسحاً عجيباً على الاشتراكية العالمية تعطل به فعل التاريخ، أو توقف قطاره في محطة الغرب الظاهرة. وبهذا الانتصار خبا بريق الأشواق إلى العدالة الاجتماعية المؤزرة بالهندسة الاجتماعية والاقتصادية. وأصبحت الخصخصة وما لف لفها من عقائد البنك الدولي هي روشتات سعادة العالم الثالث. وهكذا لم يستنفر حتى الحكم، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الحركة الإسلامية، إلى شغف بقبس معلن وملزم بالعدالة الاجتماعية التي باخت في سائر بلاد الله. ولم استغرب حين رأيت الحكومة المحسوبة على الحركة الإسلامية تقبل بالفقر كحقيقة من حقائق الطبيعة الراسخة وتنظم المؤتمرات وتنشئ المؤسسات لتخفيف غلوائه واستئناسه لا إلى قتله كما تاق إلى ذلك صحابي جليل. اضطررت إلى هذا التاريخ، الذي لا أحسب أنني من رواته الثقاة، رأفة بزملائي في الحركة اليسارية الاجتماعية السودانية، الذين كثيراً ما أعمتهم ضغينتهم على الحركة الإسلامية من فرز صالحها من طالحها. فقد رأيت هؤلاء الزملاء اشتطوا في عداء الحركة، وهم محقون في أكثره، حتى ضلوا عن أصل وفصل مطلبهم الأساسي في التغيير الاجتماعي ونصرة المعلمين الله. وأنني لآمل أن يأخذوا كلمة حسن مأخذ الجد حتى لو استثقلوها فليس بوسعهم في ظل التبخيس المؤسسي للعدالة الاجتماعية ومنزلة السياسة في الإتيان بها، وفي ظلام الخيبة العامة في إمكان أو جدوى تحقيق هذا العدالة، طرد دعوة أخرى لها طرد البعير المجرب. فالطريق إلى العدالة الاجتماعية، بعد، طريق بكر يلتزم سالكوه بفتح باب الاجتهاد بروح يخلو من كل زعم بامتلاك الصواب أو حتى الرغبة في ذلك الامتلاك. والذي يتخطى فصل داحس وغبراء الأخير في تاريخ الحركة الإسلامية والحركة اليسارية سيجد أنهما قد تورطا في أشكال باكرة وشيقة من التعاون. فقد نطحا دون الحريات العامة في مصر على أيام عبد الناصر الأولى، وحملت بيانات إدانة مذبحة مزارعي جودة في 1956 توقيع الحركتين معاً. وحتى منتصف الخمسينات لم "تتشنج" الحركة اليسارية بوجه مطلب الإسلاميين بالدستور الإسلامي، وإنما سألتهم أن يميزوا دعوتهم عن دعوات أخرى لا طعم لها ولا رائحة. وقد عملت الحركتان جنباً إلى جنب في اتحادات الطلاب السرية والسر في الجناب، حتى أطاحا بنظام الفريق عبود. وحتى حين دقا بينهما عطر منشم بعد حل الحزب الشيوعي في 1965 كان الأستاذ محمد إبراهيم نقد الزعيم الشيوعي، يتساءل إن لم نكن قد حاسبنا الحركة الإسلامية بجريرة الحركة الإسلامية المصرية التي عَنُفَتْ في آخر الأربعينات عنفاً اغتيالياً. وهذا من الإسلام شيء كبير: ألا تزر وازرة وزر أخرى. لأنني مصاب قديم بالمعلمين الله، فكل دعوة تقترب منهم مثل دعوة دكتور حسن مكي، بعد تجربة لحزبه في الحكم والإدارة، في الزمان الذي بلا فؤاد مثل زماننا، فهي عندي وعي في الطريق الصحيح لمن لم تشغله عاجلة السياسة بآجلة الدولة السودانية المعززة بالعدل الاجتماعي والتي تقر فيها عيون المعلمين الله، ويأمنون إلى يومهم وغدهم، ونسلهم وحرثهم، والحمد لله.
أراك تقدم ورقتك - و لعلك غير مدعو- لإحتفالية "رحمتات" الترابي التي ينظمها له سدنته بمناسبة الذكرى الأولى لذهابه عن دنياهم. بس حتقدر تجي المأتم السنوي كيف مع حركات دونالد ترَمپ ؟؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة