|
من الذى فتن النوبة مع البقارة ؟!
|
وبه نستعين
مقال رقم (1)
اللواء/ تلفون كوكو ابوجلحة
أكتب هذا المقال وفى نفسى شئ من الإستغراب والتعاطف مع السيد الزعيم المعتقل السيد الصادق المهدى زعيم الأنصار ورئيس حزب الأمة . لماذا الإستغراب ؟ لأن ما جاء فى حديثه عن قوات الدعم السريع والذى إستُدْعى بناءاً عليه ووُجه بموجبه تهم إليه.. ومنه سيق إلى سجن كوبر.. وأدى ذلك بلا شك إلى إرتفاع أوراقه السياسية إلى أعلا مداها بعد أن كانت قد هبطت إلى أدنى مستوى لها بسبب علاقته المشكوك فيها مع نظام الحكم الذى إنقلب عليه وبسبب إستيعاب أبناءه من التمرد إلى قوات الشعب المسلحة.. ومواقفه المتذبذبة مع أحزاب التجمع . تهتدون.. تفلحون.. فإنى أجد أن حديث زعيم الأنصار ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي عن الإنتهاكات التى تقوم بها قوات ما تُسمى بقوات الدعم السريع فى كردفان ودارفور فهو غير صادق وحديث فارغ وفيه نفاق ... وهو فقط للإستهلاك السياسى ... وقبل أن أسوق المبررات التى تدعم زعمى هذا ضده.. دعنى أسوق مبرر لماذا تعاطفى معه ؟! حقيقة إن إحدى كريماته وقفت معى موقفاً مشرفاً أثناء إعتقالى التعسفى التأمرى ( عبدالعزيز الحلو ) ، وكانت من ضمن لجنة المناصرة لى فى الخرطوم.. وتحدثت معى عندما كنت فى الإعتقال.. حيث شجعتنى على الثبات والصبر.. لذلك أجد نفسى فى موقف حرج بالغ عندما أتناول تاريخ يخص أبيها فى هذا المقال ..ولكنى أجد لنفسى العزر وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات.. وأننا يجب أن لا نقفز فوق التاريخ . لأن القفز فوق التاريخ تضررت منه شعوب أصيلة فى السودان على سبيل المثال كالنوبة . فتاريخهم تجاوزه الكتّاب غير الأمناء بغرض طمس الحقائق وبغرض أخذ حقوق الغير والتقليل من شأن الآخرين بغرض دفن تاريخهم وتذويبهم .... فالعتبى لك يامريم الصادق المهدى حتى ترضى ..
عزيزى القارئ ، إن ما دفعنى لكتابة هذا المقال هو حديث الإمام الصادق المهدى الذى إنتقد فيه قوات الدعم السريع وذلك لأن حديثه هذا سوف لن يمر عبر المتابعين لتاريخ السودان الحديث بصفة خاصة ... وللنزاعات القبلية فى السودان .. وفى كردفان .. وعلى وجه الخصوص فى جنوب كردفان من دون الوقوف عند المقصود من مثل هذا الحديث . فهو يمكن أن يمر من دون ردود أفعال عند الغافلين فقط ... فزعيم الأنصار ورئيس حزب الاُمة تقلد رئاسة الوزراء مرتان أو ثلاثة منذ ولوجه فى السياسة .. ويقال أنه دخل البرلمان وفى عمره فى ذلك الزمان قصة ... فما يهمنا هنا فى هذا المقال هو الصادق المهدى رئيس الوزراء المنتخب فى عام 1986م الذى أطاح به حسن عبدالله الترابى فى 30 يونيو 1989م ...
القارئ العزيز ، بعد إستقلال السودان 1956م كان لا يوجد فى السودان تنظيمات مسلحة غير حركة الأنانيا ون 1955م فى جنوب السودان.. وكان يتم التعامل معها وفق الخطة الأمنية العسكرية لجمهورية السودان.. يتم تنفيذه على مسرح العمليات فى جنوب السودان بواسطة قوات الشعب المسلحة... والتى كان قوامها جميع قبائل السودان المختلفة.. إذ كان يعتبر حركة الأنانيا ون حركة إنفصالية ومهدد أمنى لشعب السودان كله.. إلى أن تم توقيع إتفاقية أديس أبابا للسلام مارس 1972م بينها وبين حكومة السودان والتى لم تستمر طويلاً.. حيث إنفجرت حركة الأنانيا تو فى 1975م . وفى سنوات الحرب فى الجنوب لم تكن فى باقى أقاليم السودان الأخرى أى حروبات تذكر غير ما يسمى بالشفتة فى البحر الأحمر والهمباتة فى شمال كردفان الكبابيش ، الحمرْ . وما يُسمى بالنهب المسلح فى دارفور ، وفي الجزيرة أبا قوات الأنصار.. أما فى جنوب كردفان بالتحديد فكان هناك نزاعات بين المسيرية والدينكا في أبيي 1976م ـ 1977م ، وبين المسيرية والدينكا فى فارينق 1984م ، وبين المسيرية والرزيقات فى سفاهة 1980م ـ أما بخصوص النزاعات ما بين النوبة والبقارة فلا توجد غير المناوشات بين المزارعين من النوبة والرعاة من قبائل المسيرية والحوازمة حول زراعات النوبة... وفى كثير من هذه النزاعات كانت آلة الحربة والسكين والخرطوش هى المستعملة من قبل الرعاة ضد المزارعين .. وكان يتم معالجة هذه النزاعات عبر المحاكم القضائية التى تحوّل كثير من هذه النزاعات إلى الإدارات الأهلية والتى غالباً ما تنتهى بمؤتمرات صلح يدفع فيها تعويضات فى شكل دية لذوى الذين فقدوا أرواحهم فى هذه النزاعات ... هذا هو شكل النزاعات وطرق حلها التى عاصرناها منذ الإستقلال حيث كان النسيج الإجتماعى بين قبائل النوبة وقبائل البقارة متين للغاية إذ أن الطرفين إستطاعا أن يخلقا صمام أمان لهذا النسيج الإجتماعى تمثل ذلك فى إقامة تحالفات قوية . هذه التحالفات شجعت وقادت إلى خلق علاقات أسرية نتج عنها التزاوج بينهما وبذلك كونوا نسيج إجتماعى رائع وخلقوا نموذج فريد للتعايش والإندماج العرقى ... وبعد أكثر من ثلاثة قرون أصبح من الصعب التمييز بين من هو النوبى ومن هو العربى فى جنوب كردفان . حيث أصبح سحنات هؤلاء المولودين وفيهم دماء تحمل جينات نوبية أقرب إلى النوبة . فتغيرت ملامحهم العربية المعروفة من لون أبيض للبشرة ، وبشرة ناعمة (غير خشنة ) وشعر سبيبى ناعم يتدلى حتى تحت الكتف عند بعض النساء وقد غنى عن ذلك المطرب إبن البادية :( سال من شعرها الذهب .. وتدلى وما إنسكب ...إلخ ) وكذلك العيون البيضاء الزرقاء . وفى هذا غنى المرحوم وردى :( والعيون مثل الفناجين ) .. كل هذه الملامح إختفت بالعوامل الوراثية وحل بدلاً عنها الملامح النوبية المتمثلة فى البشرة الخضراء السمراء (البشرة الخشنة) والبنية القوية للجسم ، والعضلات المفتولة ، والشعر القرقدى الذى لا يتدلى حتى عند النساء إلى مؤخرة الرأس ناهيك عن الكتف ... " فبإى آلاء ربكما تكذبان" .. فوصل الحال بالسكان فى جنوب كردفان قبل 1986م وقبل 1989م إلى مراحل متقدمة جداً فى مفهوم التعايش السلمى بين النوبة والبقارة ... وأصبحت الصداقات والعلاقات بين أبناء وبنات النوبة مع أبناء وبنات البقارة أقوى من علاقات وصداقات أبناء وبنات النوبة بعضهم بعضاً ... وكما تواصلت علاقات أبناء وبنات النوبة مع أبناء وبنات البقارة من خلال الزمالة فى المدارس .. فإن لم يكونوا أصدقاء فى أثناء ترعرعهم فى القرى.. فهم غالباً زملاء دراسة ... كل هذه العوامل ساعدت فى إذابة وتذويب القبلية بين النوبة والبقارة وخلقت بالضرورة نموذج جيل جديد من الشباب النوبى العربى لا يحمل ضغائن وجاهلية الماضى وكان يفترض أن يُمضى بهذه العلاقات النوعية الفريدة إلى أقصى غاياتها المنطقية ... والتى كان من الممكن أن تفضي إلي قيام الدولة النموذجية فى السودان .. لأن جميع عوامل بناء الدولة الحديثة التى تتجاوز العرق واللون والدين أصبحت متوفرة ... ولكن يا للأسف فإن سلطة المركز كانت هى الفتنة الكبرى بين النوبة والبقارة فى جنوب كردفان ...
ونواصل فى المقال القادم
|
|
|
|
|
|