طالب السيد الصادق المهدي المؤتمر الشعبي بممارسة النقد و النقد الذاتي لتجربتهم في الحكم، حيث قال في لقاء مفتوح مع الصحافيين ( أنه أجرى اتصالات مع قيادات في المؤتمر الشعبي، عقب رحيل زعيم الحزب الدكتور حسن عبد الله الترابي، طالبهم فيها بالعمل علي عقد مؤتمر للنقد الذاتي للإحاطة بنجاحات التجربة الجزئية في بعض البلدان، كما في تونس و المغرب، و الإحاطة بإخفاقاتها في بعض البلدان، كما في السودان و مصر، و الخروج بمشروع دور الإسلام في الحياة العامة و في الحياة المعاصرة، ما يستوجب حوارا إسلاميا داخليا، و حوارا مع الفكر المعاصر الداخلي و الدولي) إنها نقلة كبيرة في الحديث، من دائرة السياسة الانطباعية إلي الحديث الفكري، و هو الاختبار الذي تتهرب منه دائما عضوية الحركة الإسلامية المرتبطة تنظيميا، من قبل؛ كان الدكتور الترابي هو وحده الذي يتولي البت في القضايا الفكرية و التأويل و الفقه، و بعد رحيل الرجل أصبحت الساحة في الحركة الإسلامية مكشوفة، خاصة لؤلئك الذين يشكلون العضوية المنظمة في الحركة، فهل تجرؤ الحركة في قيام مثل هذا المؤتمر النقدي، أم إن ما تملك من رصيد معرفي و فكري سوف يجعلها تتجاهل مثل هذه الفكرة، خاصة طوال فترة الدكتور الترابي كانت فترة إهمال للشخصيات التي تشتغل بالفكر، و العملية النقدية لا تقدر عليها العناصر التنفيذية و لا تملك أدواتها، و هي تحتاج للعناصر التي لها باع في قضايا الفكر. إن ما ذهب إليه السيد الصادق المهدي، يجب التعامل معه بقلب و ذهن مفتوحين، باعتبار إن الحركة الإسلامية السياسية بكل مجموعاتها المتفرعة لها تأثيرها في الشارع السياسي السوداني، و تجربة الإنقاذ تجربة محسوبة علي مجموعات الإسلام السياسي، حيث إن الخطاب السياسي لهذه المجموعات خطاب مختلف و متباين حول تجربة الإنقاذ، في الوقت الذي بدأ المؤتمر الشعبي بعد المفاصلة ينقد التجربة، و علي رأسهم زعيم الحزب الراحل الدكتور الترابي، نجد هناك من الإسلاميين في المؤتمر الوطني يؤكد علي نجاح التجربة، رغم سلبياتها التي تفوق إيجابياتها، فهي قضية بالفعل تحتاج إلي إخضاع التجربة لدراسة علمية يتبع فيها المنهج النقدي، ليس من قبل الآخرين و لكن بالضرورة من قبل الإسلاميين أنفسهم. لكي يبينوا إذا كانت الإنقاذ تمثل عندهم الدولة الإسلامية التي يبشرون بها، أم أنها مسخ مشوه للدولة التي يتطلعون إليها. فالتجربة قد تم نقدها من قبل أفراد إسلاميين بصفاتهم العلمية أو الشخصية، و لكن المهم هو نقد المؤسسة السياسية التي تحتضن الفكرة و البرنامج، و القضية متعلقة بالمؤتمر الشعبي أكثر مما هي متعلقة بالمؤتمر الوطني، باعتبار إن الأخير هو حزب سلطة نشأ في كنف الدولة و يعتمد عليها في بقائه، و بالتالي أن النقد لدي هؤلاء غير مرتبط بالفكرة، بقدر ما هو مرتبط بالسلطة و المصالح الذاتية، و لكن المؤتمر الشعبي هو حزب من حيث التاريخ يرجع لتاريخ مسار الحركة الإسلامية السياسية، أي خلفيته اجتماعية و هو المطالب أن يقدم رؤية نقدية للتجربة السياسية. قضية تجربة الإنقاذ مرتبطة بالحركة الإسلامية وحدها، و هي تجربتها في الحكم و هي المناط بها أن تقدم تقيما نقديا لها، أما إخفاق الدولة السودانية و تعثر مسيرتها التاريخية في السلام و التنمية هي تشمل كل القوي السياسية دون استثناء. و منذ الاستقلال حتى اليوم لم تقدم القوي السياسية السودانية أية دراسات نقدية لأزمات البلاد، و في فشلها في صناعة دولة متطورة، و إن كان المنهج النقدي مهمل من قبل كل القوي السياسية. فأغلبية القيادات السياسية السودانية بما فيهم السيد الصادق المهدي نفسه الذي أثار قضية المؤتمر النقدي، لا يمارسون النقد في حياتهم السياسية، و السيد الصادق أكثر ميولا للمنهج التبريري و الدلالة علي ذلك راجع كتاب " الديمقراطية عائدة و راجحة" هو عبارة عن تبريرات عن تجربة كان علي رأسها، يبحث في الكتاب عن تبرير للإخفاقات، أو شماعات يعلق عليها فشل التجربة أبسطها عدم الحفاظ علي السلطة، و هي المرة الثانية يكون رئيسا للوزراء و يحدث انقلابا عسكريا دون أن يقدم نقدا ذاتيا عن ذلك، لأنه المسؤول عنها شخصيا. أن المنهج النقدي مرتبط بالنظم الديمقراطية، و ما توفره من مساحات واسعة من الحرية في المجالات المختلفة السياسية و التعليمية و الاقتصادية و الاجتماعية و حرية الصحافة و التعبير و غيرها. و تطور الدول الديمقراطية في شتى المجالات و استقرارها السياسي و الاجتماعي، يعود لممارستها المنهج النقدي في الضروب المختلفة، و الذي يساعدها علي تدارك الأخطاء أول بأول، فالسلطة التنفيذية تخضع لنقد من قبل المجلس التشريعي، و تجد العضو فيها ميالا للوقوف مع المصلحة العامة، و ليس المصلحة الحزبية، و كثير من المرات يصوت أعضاء مع المصلحة العامة، حتى إذا أدت إلي سقوط حكومة الحزب الذي ينتمون إليه، و أيضا حرية الصحافة تمكنها من ممارسة المنهج النقدي لكل القضايا المطروحة، و الحرية تمكن مراكز الدراسات و المؤسسات التعليمية أن تقدم رؤيتها في قضايا السياسة و الاقتصاد و غيرها من الشؤون العامة، الأمر الذي يقلل من ممارسات الفساد في البلاد، و يمكن السلطة الحاكمة من تدارك الأخطاء قبل الوقوع. أما في النظم الشمولية فإنها تضجر من النقد و لا تمارسه، بل تعاقب عليه من يمارسه، حيث تصادر الصحف بصورة مستمرة، المجالس التشريعية لا تمارس العملية الرقابية علي السلطة التنفيذية بالصورة المطلوبة، فالعلاقة مقطوعة بين النظم الشمولية و المنهج النقدي. و كذلك الأحزاب السياسية رغم إنها ترفع شعارات الحرية و الديمقراطية، و لكنها قياداتها نفسيا ليست راغبة في ممارسة النقد أو تقبله من قبل عضويتها، لذلك تجد الذين يمارسون النقد داخل مؤسساتهم الحزبية يواجهون بأصناف من المتاعب و الإهمال و العزل. فالذي يطلبه السيد الصادق المهدي من حزب المؤتمر الشعبي، يدرك إنها ثقافة غير متوفرة في المؤسسات الحزبية السودانية، و إنها عملة غير متداولة، و ليس للقيادات السياسية السودانية الاستعداد النفسي و الثقافي للتعامل مع المنهج النقدي، و لكن يمكن أن يوظف المنهج النقدي ضد الأخر، و مطالب من الأخر أن يستجيب للنقد و التنفيذ فورا، و لكنه لا يوصل إلي مواجهة الذات. و إذا كانت القيادات السياسية لديها الاستعداد بتقبل النقد منذ الاستقلال، و شاع وسطها، ما كانت تعمقت الأزمة السياسية السودانية، و ما كان الناس يتحدثون الآن عن عملية تحول ديمقراطي، و لا المؤسسة العسكرية كانت دخلت الحقل السياسي لكي تسيطر عليه أكثر من نصف قرن، و ما كانت علاقات السودانية الخارجية قد خربت، و لأن منهج النقد بضاعة غير متوفرة في المجتمع السوداني، و الموجود مناقض تماما له، لذلك يعاني السودان منذ الاستقلال حتى اليوم من عدم الاستقرار السياسي و أزمة حكم طاحنة. و يبقي حديث السيد الصادق رغم عدم توفر الاستعداد النفسي لقيادات الحركة الإسلامية، إنه ضرورة مهمة، لآن التجربة قاسية علي الشعب السوداني، و خاصة إن الحركة الإسلامية عضويتها تمثل الطبقة الوسطي في المجتمع، و هي الطبقة المناط بها عملية التغيير في المجتمع، و هي الطبقة التي قادت التحولات العظيمة في العالم، و خاصة في الغرب، من خلال معاركها مع الكنيسة و معركتها مع الإقطاع بمساندتها التغييرات البرجوازية في المجتمع، و هي التي كانت مصدر التنوير الإشعاع المعرفي، و لكن ذات الطبقة نجدها تلعب دورا معاكسا في السودان، حيث هي الطبقة التي كانت وراء الحكم الشمولي و مصادرة الحريات، و موقفها المناهض لقضية الديمقراطية، الأمر الذي أدي ألي تعميق الأزمة السياسية، و توسيع دائرة النزاعات العسكرية، و تفشي دائرة الفساد في المجتمع ، و تقديم المصالح الذاتية علي المصالح الاجتماعية و الوطنية، كل هذه التحولات كانت مخالفة لشعارات الإسلام التي كانت ترفعا قبل وصولها للسلطة، فالسؤال لماذا تخلت عن أطروحاتها الطهرانية و انساقت وراء شهواتها و ملذاتها في الحياة، الأمر الذي أدي للفشل العام للتجربة السياسية؟ فالسؤال معلق في ذهن أغلبية الشعب السوداني لماذا هذا حصل، من خلال التجربة و انحرف الذين يرفعون شعارات الشريعة عن طريقها، و الإجابة لا تكون إلا عند أهل الفكرة. و حتى نكون منصفين إن المسألة النقدية لا تكون وقفا علي الحركة الإسلامية، أيضا تشمل القوي السياسية السودانية الأخرى، فهي مشاركة بقدر في التجربة السياسية التاريخية، و هي أيضا لا تقبل اقتحام تجربة المنهج النقدي، حيث رفضها حزب الأمة في تجربة عبود، و ما يزال السيد الصادق يبرر و يحاول أن يعلق القضية في عنق عبد الله خليل، و يخرج حزب الأمة من المسؤولية، و أيضا تجربة الحزب الشيوعي في انقلاب مايو، و أيضا انقلاب الرائد هاشم العطا، و اكتفي الحزب الشيوعي بمقولة الأستاذ التجاني الطيب " تهمة لا ننكرها و شرف لا ندعيه" و هي تمثل هروبا من نقد التجربة. و كذلك الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يمثل القوي الحديثة و الطبقة الوسطي، و انجرار رئيسه مع شعارات الحركة الإسلامية في قضية المعهد الفني، و موافقته المشاركة في مؤامرة طرد النواب الشيوعيين من البرلمان، و حل الحزب الشيوعي، و ظل صامتا حتى اليوم دون أن ينقد العملية نقدا ذاتيا، فسبب إهمال القوي السياسية للمنهج النقدي عدم ممارسة الديمقراطية في مؤسساتها داخليا، حيث هناك رأيا واحدا يسود داخل هذه الأحزاب، هو رأي رئيس الحزب أو أمينه العام حسب التسميات، فالكل يأتي دوره بعد ما يفتي قائد الحزب، لذلك كانت العضوية المرغوب فيها في المؤسسات الحزبية، هي العضوية التنفيذية التي لا تستخدم عقلها في تمحيص الأشياء، و تلغيه بإرادتها، لكي تستطيع أن تكسب ثقة الزعيم و رضاه، الأمر الذي يسهل عملية تصعيدها، هذه الممارسة المستمرة داخل الأحزاب السودانية، تعيق ما يطالب به السيد الصادق، مؤتمر لنقد تجربة الإنقاذ، فالثقافة السياسية في البلاد لا تساعد علي عقد مثل هذا المؤتمر رغم ضرورته، باعتبار نقد التجربة سلبا أو إيجابا هي مهمة لمعرفة حقائق الأشياء. هذه الثقافة المعيقة للمنهج النقدي، هي نفسها التي تمكن من استمرار النظم الشمولية، باعتبار إن أغلبية النخب السياسية السودانية لا تمانع في تغيير شعاراتها، من المطالبة بالديمقراطية إلي أن تصبح هي نفسها تبرر استمرار النظم الشمولية، مادام تجد لها مواقع قدم في النظام الشمولي، فالذين يقاتلون من أجل الديمقراطية اليوم، كانوا بالأمس جزءا من نظام شمولي، و الذين كانوا في نظام شمولي أيضا تجدهم اليوم ينآدون بالديمقراطية، عدم المبدئية في مواقف النخبة السودانية، يرجع لعدم الاستقرار السياسي في البلاد، و عدم توازن القوة الذي يعتبر حجر الزاوية في عملية الاستقرار هذه, إن القضية متشابكة و تحتاج لدراسة نقدية متأنية بعيدا عن المصالح الحزبية و الذاتية، و كان من المفترض أن تقوم بها مراكز الدراسات و البحوث و أيضا المؤسسات الأكاديمية، لكن المشكلة أيضا إن هذه تتأثر باللونيات السياسية التي تعيقها أن تؤدي هذا الدور بجدارة، و هي مشكلة. ،سأل الله حسن البصيرة. نشر في جريدة إيلاف في الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة