[email protected] أشرنا في المقال السابق أن اليعقوبي ذكر في القرن الثالث الهدري (9 م) في كتابيه التاريخ والبلدان أول تفاصيل عن ممالك وقبائل البجة، ووضح في كتاب التاريخ (في مسعد، المكتبة التاريخية ص 22) أن المملكة الأولى تجاورالمسلمين وأطلق عليها اسم مملكة نقيس وعاصمتها مدينة هجر ومن سكانها الحداربة والزنافج، وأوضح أنهم "مسالمون للمسلمين، والمسلمون يعملون في بلادهم في المعدن." وفي كتابه البلدان (في مسعد، المكتبة السودانية ص 19) ذكر أن "الحداربة والكدبيين مدينتهم تسمى هجر يأتيها المسلمون للتجارات." والمملكة الثانية:هي مملكة بقلين الواسعة والكثيرة المدن كما ذكر اليعقوبي في كتابه التاريخ (نفس المكان السابق) ووضح في كتابه البلدان (موقع الوراق. ج 1 ص 41.) أن "المدينة التي يسكنها ملك الزنافجة يقال لها بقلين. وربما صار المسلمون إليها للتجارات" فأي المملكتين هي مملكة البجة التي ساعدت البيزنطيين إبان فتح المسلمين لمصر، ثم حاربت المسلمين بعد ذلك في بلاد البجة حتى بداية القرن الثالث الهجري (9م)؟ هل هي مملكة الحداربة أم مملكة الزنافجة؟ تعرفنا على المملكة الأولي مملكة نقيس من وصف اليعقوبي لها بأنها مسالمة للمسلمين وتجاورهم ويعملون في المعدن بأرضها وعاصمتها هجر، ويسكنها الحداربة والزنافجة. وأضاف المسعودي وابن سليم بعض المعلومات عن الحداربة في القرن الرابع الهجري (10 م). ذكر المسعودي (مروج الذهب، في مسعد، المكتبة السودانية ص 51) أثناء حديثه عن قبيلة ربيعة العربية قائلاً: "وتزوجوا في البجة، فقويت البجه بمن صاهرها من ربيعه، وقويت ربيعه بالبجة على ما ناوأها ... وصاحب المعدن في وقتنا هذا - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثماثة- أبو مروان بشر بن إسحاق، وهو من ربيعه، يركب في ثلاثة آلاف من ربيعه وأحلافها من مضر واليمن وثلاثين آلاف حرّاب على النُّجُب من البجة بالحَجَف البجاوية، وهم الحداربة، وهم المسلمون من بين سائر البجة" يقول ابن منظور في لسان العرب: "الحَجَف ضرب من التّرَسَة واحدها جَحَفة ... قيل هي من جلود الإبل مقورة ... ويقال للترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب حَجَفة ودرقة"
وأضاف ابن سليم (تاريخ النوبة، في مسعد، المكتبة السودانية ص 109) أثناء حديثه عن البجة والعرب في أرض المعدن: "ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم، وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلاماً ضعيفاً، وهم شوكة القوم، ووجوههم، وهم مما يلي مصر من أوّل حدهم إلى العلاقي وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك." فالحداربة هم أصحاب القوة لمصاهرتهم ربيعة، وهم الذين يعمل المسلمون في المعدن في بلادهم كما ذكر المسعودي. وهم شوكة القوم المجاورون للمسلمين كما ذكر ابن سليم. فالحداربة إذاً هم أصحاب المملكة الأولى "مملكة نقيس" التي ذكر اليعقوبي أن "سكانها الحداربة والزنافجة" فمملكة الحداربة كانت ممتدة كما وصفها ابن سليم بين وادي العلاقي وميناء عيذاب، وأوضح كل من المسعودي وابن سليم أن مملكة نقيس قويت بعد منتصف القرن الثالث الهجري (9 م) بمصاهرة ربيعة، وأصبح ملوكها شوكة البجة ووجوههم. وقد استقرت قبيلة ربيعة في أرض المعدن كما ذكر ابن حوقل (صورة الأرض، في مسعد، المكتبة السوداية ص 68) عام 238هـ مع بداية توافد المسلمين لأرض المعدن. أما الزنافجة أصحاب مملكة بقلين فقد قال عنهم ابن سليم (نفس المكان السابق): "ومنهم جنس آخر يعرفون بالزنافج هم أكثر عدداً من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم ويحلبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب، قوم من الزنافج في حملته، فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الزنافج قديماً أظهر عليهم" فالزنافج أكثر عدداً من الحدارب لكنهم أصبحوا تحت سيطرة الحدارب كالعبيد لهم بينما كانوا في السابق أقوى من الحداربة وظاهرين عليهم. فالاشارة إلى قوة الحداربة وسيطرتهم على الزنافجة أتت بعد تحالفهم وتصاهرهم مع ربيعة في منتصف القرن الثالث الهجري، وقبل ذلك كان الزنافجة أظهرعليهم. وهذا يعني أن مملكة الزنافجة كانت هي المملكة الأقوى والسائدة، وأن الحداربة كانوا تحت سيطرتهم سواء كانت لهم مملكة صغيرة أو كانوا تحت حكم الزنافجة المباشر. وبذلك فيبدو معقولاً إن تكون مملكة البجة التي ساعدت البيزنطيين وحاربت المسلمين حتى بداية القرن الثالث الهجري (9 م) هي مملكة الزنافجة التي كانت عاصمتها هجر كما ظهر في صلح كنون بن عبد العزيز. فالزنافجة هم الذين ورثوا السلطة من الترجلودايت في بداية القرن السادس الميلادي. وعندما دخل المسلمون مصر كان الزنافجة هم ملوك البجة. ثم تمكن الحدارب بعد تحالفهم مع ربيعة من السيطرة على الزنافج وأصبحوا هم ملوك البجة المجاورين للمسلمين. وتقهقر الزنافج جنوباً نحو وادي القاش حيث أسسوا مملكة تفلين الاسلامية ودخلوا تحت طاعة ملك علوة. وبقيت جماعة منهم كما ذكر ابن سليم داخل مملكة نقيس الحدربية وهم الذين وصفهم بأنهم" تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم" ويبدو هذا الوصف متطابقاً مع ما ذكره ابن حوقل (المصدر السابق، ص 72) عن قبيلتي برقابات وحنديبا حيث ذكر: "وتحازي سواكن بطون تعرف برقابات وحنديبا، وهم خفراء على الحدربية، وخفارتهم لعبدك وهم تحت يده" ولم تمدنا المصادر العربية بأخبار مملكة الحداربة فيا لقرون التي تلت عصر ابن سليم في القرن الرابع الهجري (10 م). فناصر خسروا الذي مكث في عيذاب ثلاثة أشهر في منتصف القرن الخامس الهجري (11 م) ثم عبر منها إلى جدة تناول البجة باختصار شديد وبين نشاط ميناء عيذاب التجاري. وأول معلومات مفصلة وردت عند ابن بطوطة في القرن الرابع عشَر الميلادي عندما دخل ميناء عيذاب التي ذكر ابن سليم (نفس المكان السابق) أنها في منطقة الحدارب. قال ابن بطوطة (تحفة النظار، في مسعد، المكتبة السودانية ص 254) عن عيذاب: "وأهلها البجاة ... ثلث المدينة للملك الناصر وثلثاها لملك البجاة، وهو يعرف بالحَدْرَبي -بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء ... ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحَدْرَبي سلطان البجاة يحارب الأتراك، وقد خرق المراكب، وهرب الترك أمامه فتعذر سفرنا في البحر" ويوضح هذا أن سيادة المماليك على ميناء عيذاب كانت إسمية فقط، وأن حكامها الفعليين الذين يتولون حمايتها هم البجة الحداربة. كما اتضحت قوة البجة الحداربة في سواكن أيضاً رغم إن حاكمها كما ذكر ابن بطوطة كان زيد بن أبي نمي. وهو ابن أمير مكة الشريف الحسني الذي تولت اسرته إمارة مكة منذ بداية القرن السابع الهجري (13م). وقد ذكر ابن فضل الله العمري (مسالك الآبصار، في مسعد، المكتبة السودانية ص246) الذي كان معاصراً لابن بطوطة أن بنو نمي كانوا تحت طاعة المماليك. وكان أمراء مكة يعترفون بسلطة أمراء المماليك على مناطق نفوذهم، وذكر ابن خلدون (كتاب العبر، موقع الوراق. ج 5 ص 481) "وقد فرض المماليك سيادتهم على سواكن منذ بداية قيام دولتهم، فقد استولى عليها اسطول المماليك عام 664هـ [1256م] وهرب أميرها الشريف علم الدين أسبغاني، لكنه عاد إليها بعد مغادرة الجيش المملوكي." وبدأت مملكة الحداربة في عيذاب في التدهور في النصف الأخير من القرن الرابع عشَر الميلادي، فقد فَـقَـدَ ميناء عيذاب أهميته التي اكتسبها كميناء ذهب بتوقف العمل في مناطق التعدين في ذلك الوقت، وكانت عيذاب قد فقدت نشاطها كمعبر للحجاج عندما اعيد فتح طريق الحج البري عبر سيناء بعد استعادة المسلمين مناطق جنوب الشام من قبضة الصليبيين. وجاءت الضربة القاضية لمملكة الحداربة عندما دمر المماليك في عهد السلطان برسباي (1422 - 1438م) مدينة عيذاب، وبدأ في نفس الوقت نشاط ميناء سواكن في الازدهار. أدت تلك الأحداث إلى هجرة الحداربة نحو الجنوب، وبلغت تلك الهجرة ذروتها في بداية القرن الخامس عشَر الميلادي، وانتقل مركز مملكتهم إلى مدينتهم الثانية مدينة سواكن. فقد ذكر القلقشندي (صبح الأعشى، في مسعد، المكتبة السودانية ص 283) الذي توفى عام 821 هـ (1418 م) أن البجة قاعدتهم سواكن، ونَصَّ أن "حاكم سواكنرالآن" أي في عصر القلقشندي أول القرن الخامس عشَر من الحدارب. ويبناءً على ما ذكره القلقشندي فأن حكم أسرة بني نمي في سواكن كان قد انتهى وانفراد الحدارب بحكمها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة