من كتاب: مذبحة الحقوق الدستورية في السودان 1983م /2016م
ان المواد المتعلقه بحقوق الانسان في ميثاق الامم المتحده والاعلان العالمي والعهدين الدولين قد فتحت الباب الى تطور جديد جعل من فكرة القانون الدولي فكره تتمحور حول الفرد الانساني وتجعله خاضعا لاحكامه فيما يخص حقوقه وواجباته بعكس الرؤيه التقليديه للقانون الدولي التي تتمحور حول الدولة فهذا التطور يعني بالفرد اكثر من الدولة بحيث يجعل الفرد خاضعا لاحكام القانون الدولي وليس موضوعا من موضوعات القانون الدولي ويعني خضوع الافراد الطبيعين للقانون الدولي هو انهم قد اصبحو جزءا من نسيج القانون الدولي اثر عملية تراكمية بالحكم ان لهم حقوقا وعليهم واجبات الحق في تقديم ايعانة الا عن طريقة حكومية وموافقتها وفي هذا المضمار يقول العالم البريطاني اللورد ديننج :( إن الحق الذي يعتمد في امضائه وتطبيقه علي موافقة طرف اّهو اقرب الى ان الايكون حقا قانونيا بالمره ). وهكذا اصبحت فكرة القانون الدولي تتمحور حول الفرد الطبيعي بمعنى ان اهلية نيل الحقوق تقابلها في الجانب الاخر واجب الحماية لهذه الحقوق حتى ماكان للفرد في موقع المسؤلية ولعل ادخال العمودالدولية والمواثيق الخاصة بحقوق الانسان ضمن القانون الوطني للدولة (كما هو في دستور السودان والانتقال لعام 2005م ينعكس على الفرد الطبيعي ايا كان وضعه ويعتبر تغييرا جوهريا في النظره التقليدية التي تنظر الي للقانون الدولي علي اساس انه يحكم فقط العلاقات بين الدول لهذا المبدأ فهذا التطور فقط منح على سبيل المثال الميثاق الاوروبي لحقوق الانسان الفرد العادي حق تقديم الشكوى مباشرة للجنة حقوق الانسان الاوروبية ضد دولته والذهاب بالشكوى حتى محكمة حقوق الانسان الاوروبية بستراسبورج .فأذا كان كل التطور قد جعل من الفرد جزألايتجزأمن النسيج القانوني الدولي في مجال المطالبة بحقوق وتقديم الشكوى ضد دولته فأنه يصبح من باب الاولى مقاضاة الفرد الطبيعي فآليات القانون الدولي متى ماتعدى على حقوق وحريات الآخرين وينبغي هنا التأكيد على إن حماية حقوق الانسان ليست فقط مجرد قيمة نظرية تسمو على سيادة الدولة ولكنها أعلى من ذلك لان سيادة الدولة انما تنبعث من حقوق الافراد وكرامتهم وهذا يعني من الناحية العلمية انه عندما تصطدم سيادة الدولة مع الكرامة الانسانية فأنه لا مجال للتثبيت بسيادة الدولة وهذا ما ينطبق على الوضع في دارفور وانا لا أدري لماذا يثير البعض كل هذه الزوبعة حول التدخل الدولي الانساني مثلا في مجلس الامن وقراره الخاص بتحويل قضية دارفور للمحكمة الجنائية الدولية والحكومية نفسها قد سبق وان وقعت في 5يوليو2005م في ابوجا اعلانا للمبادئ لحل النزاع السوداني في دارفور مع المبعوث الخاص للاتحاد الإفريقي (نيابة عن الوساطة) ومع حركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وقد قام ذلك الاعلان على مبادئ من ضمنها المبادئ المدرجة في القانون الانساني الدولي واعراف الامم المتحدة ومعاييرها وهكذا جاء التدخل الدولي في دارفور لاسباب انسانية ولحماية حقوق الافراد المدنيين من مآس الحرب بين الحكومة والحركات المسلحة . ولكن حماية حقوق الافراد لا ينبغي ان تناقش بمعزل عن المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستوطنة في السودان اذن فأسباب انتهاكات الحقوق هي باالضرورة ذات طبيعة بنيوية ولايمكن وضع الحلول للخلل البنيوي دون التأمل الدقيق في البنيه السياسية لانها اصل كل بلاء اصاب السودان منذ الاستقلال بسب فشل الحركة الوطنية السودانية وفشل مؤسساتها الحزبية في حل قضايا البلاد مما ادى بالتالى الى خلل في البنيات الاقتصادية والاجتماعية بسب قصور الفكر السياسي وانعدام المنهجية السياسية بسب ادمان الاحزاب على الصراع على السلطة وكراس الحكم وقد افرز كل ذلك الفشل النزاعات العنصرية والانفصالية والدينية المتهوسة وزاد ذلك من تفتيت وحدة البلاد وادى الى التدخل الاجنبي وتدويل المشكلات المحلية بعد ان دفعت اثارها السالبة الى التأثير على الامن والسلم في الاقليم الافريقي كله ولاريب عندي ان سياسة الاسلمة هي التي أدت - كأهم عامل – الى ادخال السودان في مثل هذه المآزق وهي سياسة تراكميه لم تبدأ بعهد الانقاذ- فالأحزاب الكبيرة في السودان كلها كانت تدعو ولما تزل الى أسلمة السياسة والاقتصاد والاجتماع وفق رؤى قاصرة لاتستوعب قضايا المجتمع السوداني المعاصر ولا تلاحظ روح العصر وعلى الرغم من ان السودان قد دخل منذ التاسع من يوليو عام 2005م مرحلة جديدة من مراحل تطوره السياسي وهي مرحلة جديدة وهامة لانها قد جاءت وليدة مخاض لتجارب سياسية فاشلة منذ الاستقلال وحتى لخطة توقيع الدستور الانتقالي لعام 2005م والذي هوخطوة عملية لارساء دعائم الحكم الراشد وهي المواطنة كمعيار للحقوق والواجبات والمساواة والمشاركة في السلطة والثروة وضمانات حقوق الانسان ولكن شريكا الحكم لم يعملا على وضع كل هذا على ارض الواقع بمعنى ترشيد الاتفاقيات وتعديل الدستور نفسه لكي يأتي متوائما مع عقد المواطنة وهكذا ظلت سياسة الاسلمة منصوص عليها في الاتفاقيات والدستور على الرغم من الظروف الموضوعية التي فرضت وجودها اثناء ابرام الاتفاقيات قد زالت وهكذا بدت اتفاقيات السلام الشامل وكأنها صفقة بين المتفاوضين ولقد نسي أو تناسى شركاء الحكم ان سياسة الاسلمة في السودان وعبر تاريخيه السياسي الحديث ظلت دائماعاملا من عوامل الفرقة لانها تركز على ما يفرق السودانين لا على مايجمعهم وهي عامل تفرقة حتى بين الاسلاميين انفسهم وقد ظلت الحركة الشعبية تحارب هذه السياسة على مدى عقود من الزمان فما الذي استجد الآن حتى ترفض الحركة تعديل الدستور فيما يخص سياسة الاسلمة على الرغم من توجيهات قائدها الاكبر الراحل الدكتور جون قرنق الذي صرح عقب أنفاذ الدستور بأن الدستور ملك للشعب السوداني كله وينبغي ان يقول رأيه فيه . اما كون سياسة الاسلمة هي عامل تفرقة حتى بين الاسلاميين انفسهم فهذا يبينه بصورة واضحة الاعتداء الاخير على ام درمان حيث ان شقي الحركة الإسلامية المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي يتقاتلان من اجل السلطة السياسية في السودان وما فعلته حركة العدل والمساواة وهي الجناح العسكري للمؤتمر الشعبي (كما أكد على ذلك الرئيس البشير)إنما يؤكد بوضوح ان كلا من المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي قد جعلا من دار فور مسرحا للصراع على السلطة في الخرطوم ثم تداعي الامر حتى اتت قوات العدل والمساواة غازية للخرطوم فهل في هذا حماية لاهل دار فور أم هو طلب للسلطة في مركزها ؟
والسؤال الاكثر الحاحا هو هل ينتظر اهلنا من المنكوبين في دارفور حتى يحسم الصراع السياسي بين المؤتمر الوطني وأعدائه حتى ترد إليهم حقوقهم وتحفظ حيواتهم ويعود اللاجئون والنازحون منهم الي اماكنهم الاصليه ولم يكن للحكومة في سبيل بسط هيبة الدولة ان تستثمر الخلافات القبلية وذلك عن طريق محاباتها وتحيزها لبعض القبائل دون بعض لتحقيق هدفها في القضاء علي معارضيها السياسيين خاصة من الذين كانوا معها وانسلخوا منها وقاموا بالمقابل بتسليح قبائل اخري.. وقد اثار هذا الحساسيات العنصرية وجعل الوضع ياخذ صورة الصراع بين عناصر عربية واخري افريقية في الاقليم ، وهذا هو السر في تكاثر وتوالد الحركات المسلحة في دارفور، كذلك فان عدم مراعاة وحسبان عامل التداخل القبلي بين دارفور ودول الجوار ادي ايضا الي ان تاخذ المشكلة بعدا خارجيا ادي بالفعل الي التدخل في شئون دول الجوار والتي تعاملت بالمثل وتدخلت في الشئون السودانية مما ادي بالضرورة للتدخل الدولي الانساني ممثلا في مجلس الامن ومحكمة الجنايات الدولية.
المخرج من الأزمة سياسي وقانوني :
ولتفصيل ذلك نقول إن الدفع بعدم إختصاص المحكمة بحجة ان السودان ليس طرفاً فى قانونها الاساسى هو دفع ضعيف بل هو لا يرقى إلى مستوى الدفع القانونى .أذ لا يمكن لعاقل ان يتصور ان حقيقة ان السودان ليس طرفاً فى النظام الاساسى للمحكمة هو أمر يغيب عن إدارك ومعرفة مجلس الأمن الدولى او محكمة الجنايات الدولية وعليه فإن مجلس الأمن يقول أنه فى تحويله لمسالة دافور للمحكمة الجنائية الدولية كان يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة كجهة منوط بها الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ومسالة دارفور بكل تعقيداتها وتداعياتها تمثل تهديداً للسلم وأمن الدوليين فى الاقليم الافريقي وهكذا ينعقد الاختصاص للمحكمة من وجهة نظر مجلس الأمن . أما مدعى المحكمة الجنائية الدولية فسيقول أنه قد استوفى الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص بموجب المادة (25) من قانون المحكمة الجنائية الدولية والتى تتحدث عن المسئولية الجنائية الفردية حيث تقرأ الفقرة (1) من المادة المذكورة انه :( يكون للمحكمة اختصا ص على الاشخاص الطبيعين عملاً بهذا النظام الاساسى ) وهذه الفقرة مقرؤة مع المادة (27) من ذات النظام الاساسى والتى لا تضع إعتباراً او تعتد بالصفة الرسمية للشخص فى ايه دولة رئيساً كان ام عضواً فى حكومة او برلمان كما لا تحول الحصانات بموجب الفقرة (2) من هذه المادة دون ممارسة المحكمة لاختصاصها على هذا الشخص سواء اكانت هذه الحصانات فى إطار القانون الوطنى او الدولى .
وهذا إختصاص أصيل لمحكمة الجنايات الدولية ضد الأفراد الطبيعيين الذين لا يتصور إنضمامهم للنظام الاساسى لمحكمة الجنايات الدولية إذ أنهم ليسوا دولاً بل افراد عاديين رغم مواقعهم الرسمية ولذلك أشار المدعى العام لمحكمة الجنايات الدولية فى العديد من تصريحاته انه بصدد توجيه الإدعاء ضد بعض افراد الحركات المسلحة فى دارفور وهم من الافراد الطبيعيين . كذلك فإن المدعى العام لم يوجه إتهامه للدولة السودانية على الرغم من ان أى حكم يتعلق بالمسؤلية الجنائية للافراد لا يؤثر في مسؤلية الدول بموجب القانون الدولى وبمقتضى الفقرة (4) من المادة (25) من النظام الأساسى ، ولقد كان الاحرى بقانونيى الحكومة ومستشاريها الدفع لدى المحكمة نفسها لانها صاحبة اختصاص بعدم المقبوليه (NON _ ADMiSSibiIiTY) بموجب المادة (19 ) (ب) على أساس ان الدولة التى ينتمى اليها الاشخاص الذين وقع الادعاء فى حقهم قد باشرت بعض الاجراءات (وفقا للمادة 17 ) وكونت بعض اللجان والمحاكم ثم هى بصدد مواصلة هذه التحقيقات والمحاكمات . والدفع بعدم المقبوليه هنا يمكن ان ينتج أثره ويرجى إجراءات التحقيق خاصه اذا وقع تطور ملموس فى الظروف كتحسين النظام القضائى الوطنى وتفعيله وازدياد الثقه المتقاضيه أمامه وإحلال السلام وحقن الدماء وجلوس كل القوى السياسيه بما فيها الحركات لحل ازمة دارفور مثل هذه الخطوات العملية هى كفيلة فى حد ذاتها بسحب القضية من المحكمة الدولية بإعتبار ان المحمة الدولية هى ذات إختصاص تكميلى للولاية القضائية الوطنيه بموجب المادة (1) من القانون الاساسى للمحكمة . ولذلك جاءت المادة (21) من النظام الاساسى للمحكمة وهى تتحدث عن القانون الواجب التطبيق وهى هنا لا تختلف فيما يخص الجرائم المدعاة عن قانونين السودان ودستوره والتى لا تتعارض مع النظام الاساسى ولا القانون الدولى ولا مع القواعد والمعايير المعترف بها دولياً والخاصة بحقوق الانسان اى الشرعية الدولية المتمثلة فى الاعلان العالمى لحقوق الانسان والعهدين الدولين الخاصيين بالحقوق المدنيه والسياسية والحقوق الاقتصادية والإجتماعيه والتى هى جزء لا يتجزأ من دستور السودان الانتقالى ولكن العبرة ليست بوجود القوانين والاعلانات السامية بقدر ما هى اتساق للفعل السياسى مع القواعد والنصوص القانونية وهذا ما افتقداناه منذ الاستقلال حيث اننا دائماً ما نصادر الدستور بالقوانين الفرعيه ثم نحن مازلنا نتحدث عن سيادة حكم القانون ولا نتحدث عن سيادة حكم الدستور ولست بحاجة الى إيراد الامثلة هنا فهى كثيرة بحيث لا يتسع المجال ولكننا مازلنا نجنى ثمار ذقومها حتى كتابة هذه السطور ومن هنا فإن تعديل القوانين واللاوائح وحده لايجدى مالم يواكب ذلك الاصلاح الفعلي في البنية السياسية الخربة والتى هى السبب الاساسى فى الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان السودانى ، فالقضية الاساسية إذن هى قضية السودان كله وازمته المزمنه فى الحكم واول العلاج هو الاعتراف بحقيقة هذه الازمة والتى إن لم تتم معالجتها خارج إطار المصالح الحزبية الضيقة والطموحات الشخصية فإن كل البناء لابد آيل للسقوط والتفتيت والحرب الأهليه والفتنه التى لا تبقى ولا تذر فماذا نحن فاعلون ؟
ملاحظات ومقترحات :
إن البنيه الساسية مازالت خربة رغم وجود اتفاقيات السلام وانزال الدستور ذلك ان الشريكين فى تنفيذ الاتفاقيات تعاملا مع هذه الشراكة على انها شراكة فى السودان وليست شراكة فى تنفيذ الاتفاقيات وقد ذهب كل حزب بما أخذ فلم يتم حل قضية دارفور ضمن نيفاشا كإقليم مهمش بسبب صراع الاسلاميين على السلطة والتعامل مع مطالب الدارفوريين على انها تمرد وانفلات أمنى ، واستبعاداً لاى تحول ديمقراطى حقيقى فى البلاد لم يتم تعديل القوانين الماسة بالحقوق والحريات لتتسق مع الدستور الانتقالى منذ عام 2005م وتفاقمت مشكلة ابيى حتى حملوها للتحكيم العدلى بالاهالى واستشرى الفساد المالى دون محاسبة ولم يتم استرداد المال العام المنهوب حتى ان المحاباة قد وصلت الى المؤسسات الخاصة التى تحتكر مع الحكومة الخدمات الاساسية للمواطنين فلم تتم محاسبتها لممارسة الثراء الحرام او التهرب الضريبى بينما تطبق القوانين الرادعة على البسطاء او المعوزين هذا عدا السماح بالمرتبات والامتيازات ذات الارقام الفلكية للتنتفيذيين والبرلمانين . كذلك فإن الدستور نفسه لم يتم تعديلة ليتماشى مع عقد المواطنه المنصوص عليه فى الاتفاقيات بل وفى الدستور نفسه مما نتج عنه تغول بعض السلطات على بعض . إزاء كل هذه الاخفاق فإنه لابد من دعوة كل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة الى جانب الحركات المسلحة فى دارفور الى الاتى :
اولاً : الوقوف الفورى للحرب فى دارفور حقناً لدماء الابرياء من المواطنين الذين يقعون ضحايا الصراع بين الحكومة والحركات المسلحة والسماح للآجئين والنازحيين بالعودة الى أماكنهم الاصلية .
ثانياً: قيام حوكة انتقالية قومية تشكل من كافة القوى السياسية الحاكمة والعارضة الى جانب الحركات المسلحة فى دافور دون مراعاة للنسبب الحالية التى تقوم عليها حكومة الوحدة الوطنيه لانها نشأت فى ظل برلمان غير منتخب ديمقراطياً وذى طبيعة انتقالية وعلى هذه الحكومية ان تعمل بعد وقف إطلاق النار فى دافور على تعديل القوانين المصادرة للحريات وتعديل بعض مواد الدستور التى لا تتسق مع معيار المواطنه كأساس للحقوق والحريات .
ثالثاً: مبدأ المحاسبة الذى تحول اليوم الى المحكمة الدولية الجنائية يمكن انجازة محلياً وبواسطة دوائر قضائية دستورية تنتخبها الحكومة القومية الانتقالية وذلك لأسباب عديدة أولها أن الانتهاكات التى وقعت فى دافور هى إنتهاكات مباشرة للحقوق الاساسية وهذه ينعقد الاختصاص فيها للمحكمة الدستورية وحدها بموجب نص المادة 15 (1) (د) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م كما ينعقد لها الاختصاص الجنائى فى مواجهة رئيس الجمهورية والنائب الاول لرئيس الجمهورية وفقاً لأحكام المادة 60 (2) من الدستور كما لها إختصاص جنائى فى مواجهة نائب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الهئية التشريعية القومية .كما للمحكمة الدستورية بموجب المادة 16 (1) (د) ممارسة السلطات الاجرائية للمحكمة الجنائية فى حالة محاكمة رئيس الجمهورية او نائبيه أو رئس الملس الوطني ..) كما تملك بموجب الفقرة (أ) رد الحق والحرية للمتظلم وتعويضه عن الضرر . وقد أكد كل هذه الاختصاصات للمحكمة الدستورية الدستور الانتقالى لسنة 2005 فى المادة 122 . والمحكمة الدستورية بموجب المادة 119 (2) من الدستور هى مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ومنفصلة عن السلطة القضائية القومية وعليه فإن المحكمة الدستورية السودانية هى البديل لقضاء المحكمة الجنائية الدولية وهى المعنيه بحكم الاختصاص وبحكم طبيعة الادعاءات التى وجهها المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية فى مواجهة الرئيس البشير وعليه فليس المعنى بالقضاء الوطنى هنا هو السلطة القضائية القومية وإنما المعنى هو القضاء الدستورى الوطني صاحب الاختصاص ، فهل يعاني هذا القضاء الدستورى من اى خلل جوهرى او قانونى يكبل من حيدته ونزاهته واستقلاليته بحيث يصبح التدخل من قبل المحكمة الجنائية الدولية مبرراً بموجب نظامها الاساسى ؟
أولاً : ملاحظات حول وضع القضاء الدستورى الحالى
تنص المادة 119 (2) من الدستور الانتقالى على استغلالية المحكمة الدستورية عن السطلتين التشريعية والتنفيذية ولكن هنالك نصوص عديدة فى قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005 م تكبل الى حد كبير هذه الاستغلالية وتكاد ان تضع القضاء الدستورى تحت هيمنة السلطة التنفيذية والتى تتكون بموجب المادة 49 من الدستور من رئاسة الجمهورية ومجلس الوزارء القومى .
اولاً : اعضاء المحكمة الدستورية يعينهم رئيس الجمهورية بما فى ذلك رئيس المحكمة بناءً على توصيه المفوضية القومية للخدمة القضائية وموافقة ثلثي جميع المماثلين فى مجلس الولايات بموجب المادة 4 (أ) (ب) من قانون المحكمة الدستورية ، ويكون رئيس المحكمة الدستورية مساءلاً لدى رئاسة الجمهورية ، وفقاً للمادة (5) من قانون المحكمة الدستورية ، وكذلك فإن مخصصات وإمتيازات وحصانات رئيس وأعضاء المحكمة توافق عليها رئاسة الجمهورية بموجب المادة 11 (1) من قانون المحكمة ويتم عزل عضو المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية بناء علي توصية رئيس المحكمة الذي يعينه رئيس جمهورية وموافقة مجلس الولايات باغلبية ثلثى اعضائه وفقاً للمادة 10 (2) من قانون المحكمة . أ ضف الى ذلك أن لوائح رسوم التقاضى أمام المحكمة الدستورية قد صدرت بعد التشاور مع وزير المالية والاقتصاد الوطنى وفقاً للمادة 32 (2) من قانون المحكمة وفى هذا كله تدخل سافر من قبل السلطة التنفيذية فى شئون القضاء الدستورى . زد على ذلك واضف اليه انه ومع مراعاة أحكام المادة 60 من الدستور والتى تنص على حصانة رئيس الجمهورية والنائب الاول وعدم جواز إتهامهما او مقاضتهما فى اى محكمة اثناء فترة ولا يتهما الا بصدور قرار بذلك من ثلاثة ارباع جميع اعضاء الهيئة التشريعية القومية وايضا فإن قانون المحكمة الدستورية فى المادة 22 (1) يسير فى نفس الاتجاه فلا يجوز اتخاذ اى إجراءات جنائية ضد رئيس الجمهورية او النائب الاول إلا بقرار من الهيئة التشريعية القومية بأغلبية ثلاثة أرباع جميع الاعضاء وذلك فى حالة الخيانه العظمى او الانتهاك الجسيم لأحكام الدستور او السلوك المشين المتعلق بشئون الدولة .
والمستخلص من كل هذا فإنه من الاستحالة بمكان ان تتخذ ايه اجراءات جنائية ضد رئيس الجمهورية وذلك لان حزبة يملك الاغلبية الميكانيكيه فىالهيئة التشريعية القومية ولايمكن عملياً ان يصدر قرار فى هذا الشان ضد رئيس الحزب . وهكذا تنسف كل هذه النصوص فى قانون المحكمة الدستورية والدستور حيدة المحكمة الدستورية واستغلاليتها وتطفى على الرئيس ونائبه الاول نوعا من الحصانة لم يجدها حتى بعض الراشدين من الخلفاء فى قضاء الشريعة القراء . فلابد إذن من تعديل كل هذه النصوص حتى يستقيم أمر التقاضى دون استثناء لأحد عملاً بمبدأ المساواة أمام القانون والذى ينص عليه الدستور الإنتقالى فى المادة (31).
وبدون إجراء التعديل على المواد المذكورة فى الدستور وقانون المحكمة الدستورية فإنه يصبح من الصعب لدى الكثيرين وخاصة الحركات المسلحة فى دارفور الثقة فى حياد المحكمة وضمان استقلاليتها دون تدخل السلطة التنفيذية وهيمنتها بالصورة التى ذكرناها وذلك لان تحقيق الاجماع الوطني حول نزاهة واستقلالية وحياد القضاء الدستورى السودانى هو الامر الذى يستبعد الاختصاص التكميلى لمحكمة الجنايات الدولية ويدفع المجتمع الدولى ومجلس الأمن للضغط على الحركات المسلحة للجلوس مع الحكومة لوضع حد لمأساة دارفور كما فعل فى اتفاقيات نيفاشا . وما دامت المحكمة الدستورية الحالية هى وليدة الدستور واتفاقيات السلام التى رعاها ودعمها غالبية اعضاء مجلس الأمن فإنه يمكن ان تتم المحاكمات السودانيه تحت نظر ومراقبة الامم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الافريقى . ومادام مجلس الامن قد قبل مؤخراً تمديد فترة القوات المشتركة فى دارفور فهذا يعنى اعترافاً بالتعاون مع حكومة السودان طيلة هذه الفترة والتى يمكن ان يتم فيها الكثير وهى فرصته لحل أزمة دارفور وتحقيق الاجماع الوطنى بقيام الحكومة الانتقالية القومية . بمهماتها التى ذكرنها ذلك ان القضية الاساسية هى قضية السودان فى المقام الاول وهى لن تصلح إلا ببداية الاصلاح من الداخل وهو السبيل الوحيد لتفادى تفتيت السودان .
د. محمود شعراني
رئيس المركز السوداني لدراسات حقوق الانسان المقارنة
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة