تناولت في هذا الكتاب مسيرة عملي في حقل التعليم والتربية من البداية والي النهاية والتي أنفقت فيها أربعين عاما" متنقلا" فيها في ارجآء بلادي بين مدنها شمالا" وجنوبا"شرقا" وغربا" وتجاوزتها الي العمل في المملكة العربية السعودية ووصلت فيها الي أعلي الدرجات الوظيفية ، وعلمت وتعلمت ذخيرة ثرة من المعرفة من الناس ومن البيئآت المختلفة ، ولقد وصلني من بعض القرآء الكرام تعبيرهم عن رغبتهم في الحصول علي الكتاب ومنهم من يريد معلومات عن معهد بخت الرضا، وأما عن معهد التربية ببخت الرضا فقد كتبت عنه عدة مقالات بعنوان ( بخت الرضا فردوس التعليم المفقود ) ونشرت في صحيفة الأيام اليومية بالسودان منذ عدة سنوات ، وقد نشرت ثلاث مقالات جامعة ردا" علي الكتور عبد الله علي ابراهيم الذي نشر مقالا "كله سب وافترآء علي معهد بخت الرضا وعنونت المقالات بعنوان ( الدكتور عبد الله علي ابراهيم وافتراؤه علي بخت الرضا) ونشرت المقالات الثلاث في صحيفة سودنايل الألكترونية تباعا" بتواريخ 10 أبريل 2010 و16 أبريل 2010 و24 أبريل 2010 ، وما تزال المقالات موجودة حتي الساعة في موقع كتاباتي في الصحيفة المذكورة بمنبر الرأي لمن يود الأطلاع عليها ، وقد أفردت فصلا" كاملا" للحديث عن بخت الرضا والتي تلقيت معرفتي وتدريبي بالتربية والتعليم بها في ذلك الزمن الرائع الذي عشته ملقيا" نظرة الي ما آل اليه التعليم من ترد وتدهور في الزمن الحالي الذي أصبح فيه التعليم في كل مستوياته ته تجهيلا" وتأليما" ، ورأيت أن أنشر مقتطفات من الكتاب عن التعليم والمدارس في ذلك الزمن الجميل . وأبدأ بمدرسة المناقل الحكومية المتوسطة ولأنها وما زالت حبيبة الي قلبي وهي التي قمت بافتتاحها في الربع الأول من عام 1959 عقب ترقيتي بعد أن أمضيت سنة في مدرسة بورتسودان الأميرية الوسطي التي عينت بها أثر عودتي من المملكة العربية السعودية ، ومدرسة بورتسودان الأميرية الوسطي من المدارس القديمة والعريقة في السودان ومبناها فخم وبها نهران أي ثمانية فصول وبها داخلية من طابقين وزودت بمرافق حديثة من حمامات ومراحيض سيفون واحواض غسيل للوجه وقال لي زميلي نائب الناظر وضابط الداخلية انهم جمعوا التلاميذ واعطوهم درسا" في استعمال المراحيض فكلهم أتوا من البدو ويسكنون بيوتا" من الشعر ويقضون حاجتهم في العرآء ، واسند الي الناظر وظيفة ضابط للداخلية ومسئول عن استلام الغذاءآت من المتعهد ومشرف علي الطباخ والسفرجي والمطبخ ، كما يشرف زميلي نائب الناظر علي النظام وحل المشاكل بالداخلية وأسند الي في جدول الحصص تدريس الأنجليري لصف من الصفوف الروابع وصف من الثواني وكانت تجربة أولية لي فى العمل بمدرسة داخلية وكان من واجباتي كضابط داخلية أن أعد ( الراجعة ) وهى بيان بكمية الغذاءآت اليو مية من طازجة كالخضروات والخبز واللبن واللحم والبهارات و الزيت والسمن يقوم بتوريدها المتعهد ، وغذاءآت جافة كالفول المصري والعدس والأرز والشاي والسكر والصابون وهذه نأخذها من مخرن الغذاءآت بالمدرسة والذي يشرف عليه أحد المدرسين ، والمقادير من كل صنف من الغذاءآت محدد بالجرام لكل فرد من التلاميذ وتأتينا الغذاءات الجافة من مصلحة المخازن والمهمات بالخرطوم بحري وهي التي تمد كل المدارس الداخلية في السودان ، واما الغذاءآت الطازجة فتطرح في عطاءآت ومن يفوز بالعطآء يتعهد بتوريدها ، وعملية الراجعة عملية حسابية مرهقة وهي ضرب نصيب كل فرد من كل صنف في عدد التلاميذ بالداخلية ليعطينا الكمية المطلوبة وتحتوي الراجعة علي عشرين صنفا، وتتم العملية الحسابية بالورقة والقلم ولم تكن الآلة الحاسبة قد استعملت حينئذ ، وقد وقعت في شر كراهية الحساب مكرها" ، وقد أعانني فى فهم واعداد الراجعة ناظر المدرسة الاستاذ مصطفي حميدة وهو طراز نادر من البشر فهو أنسان بمعني الكلمة بشوش متواضع صبور ومتفهم عالي الكفاية في ادارته ، وكانت لحظة الحساب العسير علي هي في نهاية كل شهر حين نجلس الناظر وشخصي والمتعهد لنعد الحساب لما ورده بالنقود فنقوم بضرب الكمية اليومية من كل صنف في ثلاثين يوما" ثم نضرب الحاصل في السعر المبين في العطاء وبعد ذلك نجمع الناتج ليكون استحقاق المتعهد من النقود ونوقع نحن الثلاثة علي دفتر الراجعة ، ويقوم الناظربكتابة اذن صرف بالمبلغ ليصرفه المتعهد من خزينة البلدية ، وكنت وانا أتعثر في عملية الضرب والجمع أجدهما يفرغان بسرعة ويقارنان الناتج مع بعضهما ، وجدير بالذكر ان دفاتر الراجعة المنتهية تحفظ لدي الناظر في الخزنة لعرضها علي المراجعين الذين يأتون من مكتب المراجع العام من الخرطوم في كل عام امراجعة حسابات جميع الوحدات الحكومية . أما في التدريس فقد كانت الأنشاء أو التعبير معضلة بالنسبة للتلاميذ وبالنسبة لي فتلاميذي من شعب البجة وهؤلاء لغتهم ليست العربية ولهم لغتهم الخاصة ( رطانة ) فالواحد منهم يفكر بلغته ويصوغ افكاره بها ويترجمها الي عربية مكسرة ثم ينقلها الي الانجليزية ، ولذلك كان تصحيح كراسات الأنشاء يأخذ مني وقتا" طويلا" وجهدا" مضنييا" لفك طلاسم الكتابة مع العلم أن موضوع الأنشاء نعده شفويا" في الحصة السابقة لها ، وأمر آخر حدث لي فقد شاهدت أحد تلاميذ الصف الثانى يبصق السفة في حوض غسيل الوجه ، واستدعيته وصفعته علي وجهه وانا أقول له مستنكرا" ( بتسف صعوط يا ولد ) واجابني بثبات ( أيوه نسف صعوط ) وغضبت وقلت له ( كمان بتصر علي كلامك) وصفعته مرة أخري ، وقال لي ( يا استاذ أبوي بنفسه يسف ، أمي بنفسها تسف ، أخوي بنفسه يسف ،أختي بنفسها تسف ) وازاء هذا السيل العائلي من تعاطي ( السفة ) سكت وقلت له ( خلاص سف ) وبعد ذلك علمت من الناظر والزملاء أن تعاطي التنباك شئ عادي لديهم ، ومما سبب استنكاري انه لدينا من حيث جئت ان التنباك وتدخين السجاير للصغار مستهجن وعيب خاصة اذا كان المتعاطي تلميذا" أو طالبا" ، هكذا كانت المعايير الخلقية والسلوكية . مدرسة بورتسودان الحكومية مدرسة ممتازة بها ناظر مقتدر ومجموعة ممتازة من المعلمين وان كانواجميعا" من الوسط والشمال والعاصمة ولم يكن بينهم من ابناء البجة الا واحدا"تعين حديثا" وهو تحت التدريب ومخازن المدرسة تكتظ بالكتب والأدوات والاثاثات والغذاءات ممايمكن من فتح مدرسة جديدة ،والعمل في غاية الدقة والانتظام والجودة ، ولم يشذ من هذه المجموعة الا واحدا" فقط أفلحنا كلنا في تقويمه فقد كنا حريصين علي سمعة مدرستنا ، وتفتح المدرسة ليلا" من السادسة الي الثامنة مساء للتلاميذ الداخليين ولطلبة الروابع للمذاكرة ويحضر معظم الاساتذة كي يحضروا دروسهم للغد أو لتصحيح الكراسات . ومن طريف ما حدث هو أن المدرسة كانت مقرا" لفبول التلاميذ الجدد ، وتكونت
لجنة القبول من مندوب مكتب التعليم ببورتسودان وناظري المدرستين الحكومية والأهلية وعضوين من المدرستين وكنت عضوا" في اللجنة ، ويتم القبول من كشف الناجحين في امتحان الدخول للمدارس المتوسطة ويؤخذ الاول للحكومة والثاني للأهلية وهكذ نزولا" فى الكشف حتي يكتمل العدد المطلوب وكان ابن ناظر الأهلية من الناجحين ولما جاء دوره كان نصيبه ان يذهب الي الأهلية ، ولكن والده وهو ناظر الأهلية أصر أن يكون ابنه بالمدرسة الحكومية ، وقد كان ، وحدث شيئ مماثل ولكن في اتجاه مغاير فقدأصر والد أحد التلاميذ علي أن نقبل ابنه بالداخلية ولما كان القبول بالداخلية مكرسا" للتلاميذ الذين الذين يأتون من خارج مدينة بورتسودان ولايقبل بها من كاان أهله من المدينة ولكنه أصر أصرارا" عنيفا" علي قبول ابنه بالداخلية ، وقلنا له لا يوجد سبب وجيه يستدعي قبول ابنه داخليا" ، وبعد جدال ( ألقي بقنبلته ) وقال انه يسكن في بيت يتكون من حجرة واحدة هو وزوجته وابنهما وان الولد الآن قد كبر وادرك مما يهدد خصوصية علاقته الزوجية ، ورغم وجاهة السبب لم يقبل ابنه فليس في أسباب القبول انفراد والد النلميذ بزوجته ، وتركت اللجنة الرجل ليحل مشكلته بنفسه . وصدر كسف التنقلات والترقيات السنوي من الوزارة ووجدت أسمي مترقيا" لناظر ولفتح مدرسة جديدة في المناقل ، وتلقيت التهاني من الزملاء وكانت الترقية في الربع الأول من عام 1959 ، واذنت شمس وجودي ببورتسودان للمغيب لتشرق مرة أخري علي بقعة جديدة من سوداننا الحبيب ، وجاء الناظر وجميع مدرسي المدرسة لوداعي وكان وداعا" مؤثرا" تحركت معه دواخلي واغرورقت معه عيناي بالدموع ، وةحرك القطار نحو الخرطوم يحملني بعيدا" عن زملاء أحمل لهم في صدري ذكريات حبيبة ومشاعرعطرة لعام قضيته معهم فكانوا نعم الصحبة وخير أخوة . في المناقل وحال وصولي اي الخرطوم والي مدينتي الحبيبة امدرمان حيث قابلت المسؤول عن التعليم الاوسط ، وكان أول سؤال يجول بخاطري هو عن المناقل واين تقع في خريطة السودان فقد كانت معلوماتي تتلخص في أن هناك مشروع زراعي كبير رديف لمشروع الجزيرة الزراعي في مساحته ولم أكن أعلم أن هناك مدينة بهذا الأسم ( المناقل) ولما سألت المسؤول عنها وجدت المسؤول في الجهل سواء مع السائل ! وقال لي عندما تذهب الي مدينة مدني والتي يوجد بها مكتب تعليم الجزيرة والذي تتبع له المناقل سيدلوني عليها ، وعجبت من مسؤول يفتح مدرسة جديدة في مكان يجهله ، وزودني بمنشورات ادارية ومالية لتنظيم العمل ورودني أيضا" بملف يدعي ( فايل النظار ) وهو ملف جري أعداده من معهد التربية ببخت الرضا وهو بمثابة مرشد لادارة المدرسة يهتدي به الناظر ، وذهبت الي شئون الموظفين لاستخراج استمارة السفر المجانية بالقطار ومعها استمارة العفش ، ووصلت الي مدني وتوجهت الي مكتب التعليم حيث قابلت مفتش تعليم المديرية الذي رحب بي وطلب مني أن أضع تقويما" للدراسة للمدؤسة الجديدة فقد كانت الدراسة قد بدأت بالفعل منذ شهر وعلينا أن نعوض هذا الشهر في التقويم الجديد ، وطلب مني أن أبقي بالمكتب الي أن تصل أثاثات وكتب المدرسة بالقطار من الخرطوم بحري واشحنها في لوري واصطحبها معي للمناقل ، وفال لي أن المدرسة ستبدأ بفصل واحد سيكون مقرها في مبني المدرسة الأولية الصغري حيث سيخصص لنا مكتب وحجرة دراسية ومخزن ، وأما الداخلية فقد تبرع أحد أهل المناقل بمنزل لهذا الغرض ، وهذه الترتيبات سوف تكون مؤقتة الي أن تكتمل مباني المدرسة وملحقاتها من الداخلية ومنازل الناظر والمدرسين وستقوم مصلحة الخدمات الأجتماعية بمشروع الجزيرة ببناء المدرسة كما ستقوم وزارة الري بالتنفيذ . وهيئت لي ترابيزة مكتب في حجرة مكتب المفتش دهب عبد الجابر وهو شخصية لطيفة وشهم وخفيف الظل وساخر مثل كل الحلفاويين وهو منهم وظللت أجيئ كل يوم الي المكتب واجلس بدون عمل ، وحل أول الشهر ولم تصل شهادة آخر صرفية من الخرطوم والتي بمقتضاها احصل علي راتبي مما سبب لي قلفا" وضيقا" وصرت أتحدث مع الأستاذ دهب في هذا الشأن ، فقال لي باللهجة الحلفاوية المحببة ( انت خاوتني شهادة آخر صرفية ما جات شهادة آخر صرفية ما جات ، انت عاوز كم وانا أديك لحدي الشهادة ما تجي ) واعطاني مشكورا" المبلغ الذي طلبته والذي رددته له فيما بعد . وكنت في مدني اسكن مع خال لي يعمل في الا رصاد في ميس يضمه وثلاثة آخرين ومكثت في مدني لمدة اسبوع حتي وصلت اثاثات وادوات المدرسة ، وتعاقدت مع لوري وشحنتها وركبت الي جوار السا ئق وتوجهنا علي بركة الله الي المناقل ، وكان الاستاذ دهب قد سبقني في صباح نفس اليوم الي هناك ولكن تأخيرنا في السكة الحديد لشحن العفش أخر تحركنا الي المناقل وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة صباحا" ، وتوقفنا عند نقطة للشرطة في آخر المدينة وهي المدخل والمخرج الوحيد للمدينة ، واطلع الجندي علي اوراق اللوري وسأل عن وجهتنا ثم أعاد الاوراق للسائق وتراجع للورآء ملتصقا" باللوري ، ورأيت السائق يخرج من جيبه ورقة من النقود ويمد يده خارجا" الي جانب اللوري وتناولها الشرطي ، واستنكرت الأمر وسألت السائق لم فعل ذلك ، فأجابني بانه اذا لم يدفع له فانه يعاكسه بأي حجة وأن أي عربة داخلة أو خارجة تدفع للعسكري ، واضاف فائلا" ان هذا المبلغ ( ياكل منه ) العسكري حتي ( الكمندان ) أي رئيس الشرطة ! هلال زاهر الساداتي 6\2\2016 ونواصل
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة