|
مفهوم الحكم الذاتي في القانون الدولي والدستوري بقلم تاور ميرغني علي
|
مقدمة يعكس مفهوم الحكم الذاتي تاريخياً جوانب متعددة لحياة بعض المجتمعات الإنسانية - القوميات و المجتمعات العرقية. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله لا يجد مستقراً ثابتاً في نظام قانوني واحد. ويعتبر الحكم الذاتي ذو تاريخ طويل في التفكير الإنساني والفلسفي، هذا الأمر أكسبه شيئاً من الغموض والتعقيد نتيجة للمعاني والأدوار التاريخية التي مر بها ، وللازدواج في مدلولها بين الجانب السياسي والجانب القانوني. والحكم الذاتي كمفهوم يصعب ضبطه نظرياً، فهو يثير الخلاف و يستعصى بشأنه الاتفاق، إذ هو غامض ومتسع، ويتضمن قدراً كبيراً من المرونة،إذ يقترب في أحيان كثيرة من الإدارة والقانون، أي يمكنه أن يكون "حكماً ذاتًيا إدارياً، وفي حالات أخرى يقترب من السياسة، وفي بعض التطبيقات قد يجمع بين الطابع الإداري القانوني والسياسي معاً. ويمكن القول أن الحكم الذاتي Autonomy/self- government من وجهة نظر القانون الدولي، أن يحكم الإقليم نفسه، ويقصد به أيضًا " صيغة قانونية لمفهوم سياسي يتضمن منح نوع من الاستقلال الذاتي للأقاليم المستعمرة لأنها أصبحت من الوجهتين السياسية والاقتصادية جديرة بأن تقف وحدها مع ممارسة الدولة المستعمرة السيادة عليها".وقد يطلق عليه أيضاً الحكم الذاتي الدولي International autonomies' وهو ينشأ بواسطة وثيقة دولية، سواء كانت معاهدة دولية تعقد بين دولتين بشأن إقليم خاضع لسيطرتها أو عن طريق اتفاقيات تبرمها منظمة الأمم المتحدة وقبلها عصبة الأمم. وقد بدأ مفهوم الحكم الذاتي في البروز عندما هجرت الدول الاستعمارية سياسة اللامركزية في إدارة شؤون مستعمراتها ولجأت إلى تطبيق الحكم الذاتي بهدف تحويل رابطة الاستعمار بينها وبين مستعمراتها إلى علاقة اشتراك بمعنى آخر بقاء المستعمرات في حالة تبعية لكن في إطار جديد هو الحكم الذاتي. ومن هنا كانت العلاقة بين الطرفين على أساس مبادئ القانون الدولي العام، غير أن التحولات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم وتبنيها لنظام حماية الأقليات ونظام الانتداب Mandate جعلت مفهوم الحكم الذاتي يعرف تطوراً أساسياً، فقد تمكنت الدول الاستعمارية من إيجاد صيغة قانونية لاستمرار هيمنتها الاستعمارية وذلك عن طريق تطبيقها لنظام الحكم الذاتي في مستعمراتها.وقد أدى هذا التطور الذي شهده مفهوم الحكم الذاتي إلى خروجه من نطاقه الضيق كعلاقة داخلية إلى المجال الدولي واكتسابه بعد ذلك بعداً قانونياً دولياً. وتم التنصيص عليه بعد ذلك في ميثاق الأمم المتحدة في الفصول 73 و 74 . وفي الفصل الحادي عشر من ميثاق الأمم المتحدة وفي المادتين 73 و76 أشير إلى مفهوم الحكم الذاتي، والتزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الذين يضطلعون بإدارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطا من الحكم الذاتي الكامل بمراعاة العمل على تنمية هذه الأقاليم، وشمل هذا الالتزام جانبين:أولهما، كفالة تقدم هذه الشعوب، و ثانيهما إنماء الحكم الذاتي. غير أن الدول الكبرى، آنذاك أصرت على ضرورة أن يكون الحكم الذاتي، وليس الاستقلال هدف هذه الشعوب والأقاليم التابعة والمستعمرة، سواء أكان في مناقشات مؤتمر سان فرانسيسكو،أو في مناقشات اللجان الفرعية فيما بعد، على الرغم من اعتراض بعض ممثلي الدول على عبارة "الحكم الذاتي" إذ كانوا يرون فيها ذريعة لتهرب الدول المستعمرة من منح الاستقلال السياسي الكامل للبلدان المستعمرة، وفي مقابل ذلك رأوا ضرورة النص على الاستقلال السياسي الكامل، كهدف للدول التي لم تكن تمتع بالاستقلال آنذاك. وهكذا قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتشكيل لجنة في عام ً1946 عرفت فيما بعد بلجنة الإعلام عن الأقاليم غير المحكومة ذاتيا" non-self governing territories " وشغل تعريف هذه الأقاليم حيزاً كبيراً من المناقشات، وذلك في ضوء المادتين73 و76 من الميثاق وشارك في هذه المناقشات دول عديدة،في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا ومصر، والهند والفلبين وغيرها. وأفضت هذه المناقشات إلى تبني عدد من المعايير العامة التي لا بد من توافرها في الإقليم، حتى يمكن انطباق صفة الحكم الذاتي عليه وهي: 1-ضرورة وفر سلطة تشريعية في الإقليم تولى سن القوانين، ويتم انتخاب الأعضاء بحرية، في إطار عملية ديموقراطية أو أن تشكل بطريقة تتوافق مع القانون، وتجعلها موضع اتفاق السكان. 2-سلطة تنفيذية يتم اختيار الأعضاء في جهاز له هذه الصلاحية ويحظى بموافقة الشعب. 3-سلطة قضائية يناط بها تطبيق القانون واختيار القضاة والمحاكم. كما تضمنت هذه المعايير ضرورة التحقق من مشاركة السكان في اختيار حكومة الإقليم من دون أية ضغوط خارجية مباشرة،أو غير مباشرة، من طريق أقليات محلية مرتبطة بقوى خارج الإقليم، تريد فرض إرادتها على الأغلبية، وبالمثل توفر درجة من الاستقلال الذاتي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والتحرر من الضغوط الخارجية، وتحقيق المساواة بين مواطني الإقليم في التشريعات الاجتماعية وغيرها. مفهوم الحكم الذاتي في القانون العام الداخلي (القانون الدستوري): قام مشرعو القانون العام الداخلي في الدول التي أسهمت ظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية في وجود قوميات أو جماعات متباينة، بمحاولات للتخفيف من الطابع الاستعماري للحكم الذاتي، وذلك بتصويره فكرة مستمدة من مبدأ تقرير المصير القومي ، وقاموا بتنظيمها في إطار قانوني ليكون أساس لحل المسألة القومية ومشكلة التكامل ومن خلال ذلك ظهرت تطبيقات عديدة ومتباينة في كل من إيطاليا وإسبانيا والسودان والعراق. كما أن أكثر الحركات القومية والتنظيمات السياسية في الدول متعددة القوميات، اقتنعت بأن الحكم الذاتي يمثل أحد أشكال التعبير السياسي القومي التي يمكن بواسطتها تنمية التراث الحضاري والثقافي، وقيام الجماعات القومية بإدارة شؤونها الداخلية في إقليمها القومي، وانطلاقًا من هذا التصور للحكم الذاتي اتجهت هذه الحركات إلى تبني هذا النظام، دون رفع شعار المطالبة بالانفصال والاستقلال التام، حفاظا على وحدة الوطن وصيانة الوحدة الوطنية، ولقد ساعدت هذه الظواهر الجديدة على التخفيف من الآثار الاستعمارية التي علقت به في ظل السياسة الدولية، إذ اتجهت معظم الدول التي تعاني من الصراع الداخلي وعدم التكامل إلى النص صراحة على الحكم الذاتي في صلب دساتيرها. ويمكن القول أن المقصود بالحكم الذاتي الداخلي "Internal Autonomy" هو نظام قانوني وسياسي يرتكز على قواعد القانون الدستوري، وبتعبير آخر هو نظام لا مركزي، مبني على أساس الاعتراف لإقليم مميز قومياً أو عرقيا داخل الدولة بالاستقلال في إدارة شؤونه تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية. ولهذا فهو في نطاق القانون الداخلي أسلوب للحكم والإدارة في إطار الوحدة القانونية والسياسية للدولة. لهذا عندما تطلب الحركة الشعبية لتحرير السودان هذا المطلب هو مطلبا قانونيا ودستوريا حفاظا على وحدة الوطن وصيانة الوحدة الوطنية وهناك امثلة الاكراد في اقليم كردستان العراق. ونواصل....
|
|
|
|
|
|