|
مفهوم إسلامية لدى الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس محمد وقيع الله
|
مفهوم إسلامية لدى الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس محمد وقيع الله (4)
يقول الإمام جعفر شيخ إدريس إنه حين يُبيِّن المُنظّر أو الفيلسوف المسلم فضل الإطار الإسلامي على غيره فإنه لا يتحدث لإخوانه المسلمين فحسب. ولا يقول إن الإطار الإسلامي صالح لعلم دون علم، أو لأمة دون أخرى، بل إن هدفه أن يبين صلاحية هذا الإطار للبحث العلمي أيَّا كان، وللباحث أيَّا كان. إسلامية المعرفة لا تقتصر على المعرفة بالمسلمين وعليه فمن الخطأ أن ينظر إلى إسـلامية العلوم على أنها علوم خاصة بالدين الإسـلامي. أو بأحوال المسلمين الراهنة، أو بتاريخهم. فهذا خطأ لا ينبغي أن ينزلق إليه دعاة هذا المشروع. أولا لأنه يسلم بصحة النظرة النسبية. فكأنه يقول للغربيين إن نظرياتكم في العلوم الإنسانية صالحة لمجتمعاتكم ونظرياتنا صالحة لمجتمعاتنا. إن العالم الغربي الذي يؤمن بالموضوعية يعتبر نظريته صالحة لتفسير الظواهر التي يتحدث عنها حينما وُجدت. ولا يعتبر علمه خاصا بالمجتمعات الغربية، كما أن زميله في العلوم الطبيعية لا يعتبر علمه علما غربيا بمعنى أنه يصلح للغربيين وحدهم، أو يفسر الظواهر الطبيعية المتعلقة ببلادهم. إن عالم الاجتماع الغربي يعتبر (القوانين) التي توصل إليها قوانين للمجتمعات الإنسانية أيّا كانت. ونحن كذلك نريد أن نضع أنفسنا في الإطار الإسلامي ونحن نبحث في علوم الفيزياء والكيمياء وسائر العلوم الطبيعية. وأن نضعها في هذا الإطار. ونحن نبحث في علم النفس الإنسانية وعلم الاجتماع الإنساني وعلم الاقتصاد الإنساني وعلم التاريخ الإنساني، لا نفوس المسلمين ومجتمعات المسلمين واقتصادهم وتاريخهم فحسب. إن الــقـرآن الكريــم يتـحــدث عـن الإنسـان في أصـلـه الـفـطـري. الإنـسـان الـمـســلـم وغـير الـمسـلـم. فحـين يـقـول الله تـعالــى: {إنَّ الإنسان خُلِق هَلُوعاً إذا مِسهُ الشرُ جَزُوعاً وإذا مَسَّه الخير منوعاً} [المعارج:19-21]. فإنه لا يعني بذلك الإنسان المسلم وحده. لأنه يقول بعد ذلك: {إلاّ المُصَلِين} [المعارج:22]. بل إنه لا يتحدث عن الإنسان في أصله الفطري. لأنه تعالى يقول في آية أخرى: {ونَفسٍ وما سَوَّاهَا} [الشمس:7]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " كل مولود يولد على الفطرة " . ومن هنا نخرج بتصور عام للإنسان فنقول إنه في أصله الفطري كذا وكذا. وإذا حاد عنه صار كذا وكذا. وإذا اسلم كان إسلامه امتدادا لذلك الأصل فصار كذا وكذا. وكذلك حين يقول الله تعالى: {إنّ الله لا يُغيرُ ما بِقَومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] فإنه يعطينا قانونا اجتماعيا عاما شاملا لكل المجتمعات الإنسانية وليس خاص بالمجتمعات الإسلامية. عالمية مفهوم إسلامية المعرفة فميدان علماء الاجتماع المسلمين لا يقتصر إذن على المجتمعات الإسلامية. بل يشمل المجتمع الإنساني كله، بما في ذلك المجتمعات الغربية. فهم يبحثون في مشكلاتها الاجتماعية والنفسية، ونُظمها السياسية، وعلاقاتها الاجتماعية والدولية، وتاريخها، ومستقبلها. ويطلعون على ما يكتب علماء الاجتماع الغربيون ويناقشونهم. لكنهم يفعلون كل ذلك وهم مستشعرون لإيمانهم بالله وبأن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كلام الله. كما أن الباحث الغربي يدرس تاريخ المسلمين وواقعهم الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي وقد وضع نفسه في إطار غير الإطار الإسلامي. لاعصمة لعالم مسلم والإطار الإسلامي للمعرفة لن يعصم العالم المسلم من الخطأ. ولن يجعل كل ما يقوله موافقا للإسلام. ولن يمنع من تعدد الآراء والنظريات واختلاف العلماء المسلمين وتخطئة بعضهم لبعض. لأنه إذا كان كل هذا يحدث في مجال الفقه والأدلة الشرعية التفصيلية أقرب إليه. فكيف لا يحدث لمن لا يملكون مثل هذه الأدلة التفصيلية. ولمن يكتفون، في معظم الأحيان، بمجرد وضع علمهم في داخل الإطار الإسلامي. وحدة الكينونة الإنسانية وإذا كانت الدعوة إلى إسلامية العلوم لا تخالف الموضوعية بل تؤيدها، فإنها تضع للعالم المسلم حلا لمشكلة نفسية لا يشعر بها العالم الملحد. ولكن يشعر بها كثير من العلماء المؤمنين بالنصرانية أو المعتقدين في وجود الخالق وفاعليته. أعني مشكلة الانفصام بين شخصية الإنسان وهو يبحث في مجاله العلمي ويكتب ويناقش، وشخصيته وهو يتلو كتاب الله تعالى ويصلى ويصوم ويتزوج ويعاشر الناس. والانفصام سببه أن الحالة الأولى تفرض عليه أن ينسى إيمانه أو يعلقه. والحالة الثانية تدعوه إلى أن يذكر هذا الإيمان ويستشعره. والإنسان لا يرتاح إلى الشتات في الأمور الفكرية، فكيف به في الأحوال النفسية؟! فإذا كان العلماء الطبيعيون يبحثون - تخلصاً من الشتات وسعيا إلى الوحدة- عن مبدأ واحد أو نظرية واحدة ترجع إليها سائر النظريات الأساسية حتى تفسر مظاهر الطبيعة بمبدأ واحد ترجع إليه حقول القوى الطبيعية الأربعة المعروفة حتى الآن، أعنى الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والحقل القوي، والحقل الضعيف. وإذا كانوا يبحثون وراء مظاهر المادة المختلفة الأشكال والألوان والأحجام والخصائص عن اللبنات الأساسية التي ترجع إليها هذه المظاهر . أفلا يسوغ - بل أليس من الأحرى - أن يبحث العالم عن تصور الكون بجمع شتات نظراته الطبيعية والاجتماعية والفردية، بحيث لا يعيش في انفصام بين شخصه وهو باحث علمي، وشخصه وهو رجل اجتماعي، وشخصه وهو رب أسرة، وشخصه وهو متأمل في ذاته أو متذوق للجمال أو ملتزم بالأخلاق أو مدافع عن الحقوق؟! إنَّ المبدأ الذي يجمع هذا الشتات هو مبدأ التوحيد، مبدأ الإيمان بالله واحداً لا معبود بحق سواه، والإيمان بأن طريق محمد، صلى الله عليه وسلم، هو وحده الطريق الموصل إلى الله تعالى. ملحوظة ختامية: أذكر أني نشرت هذه الدراسة للدكتور جعفر شيخ إدريس قبل عدة عقود، وأذكر أنه التقاني ضاحكا بعد نشرها بعدة أسابيع، وأخبرني أن أناسا كثيرين التقوه وقالوا له إنهم رأوا هذه الدراسة منشورة باسمه، إلا ان واحدا من هؤلاء لم يقل له إنه قد قرأها! ولذلك جشمت نفسي عبء تبسيطها وتقديمها للقراء بهذا النحو السهل عسى أن يقرأوها! وبالله تعالى التوفيق.
|
|
|
|
|
|