|
معرض الشاب مؤيد بشرى/صلاح يوسف
|
على المحك صلاح يوسف – [email protected]
على لوحة عرض أخذت موقعها في ركن بيت المسرحيين قدم شاب لم يبلغ العشرين من عمره معرضاً لنماذج من ابداع يدوي اظهر فيه مهارة متمكنة اكتسبها من خلال الممارسة والتأمل العميق لما حوله. وقد لفتت لوحاته أنظار الكثيرين من رواد المسرح خلال أيام مهرجان البقعة دون ان يعلموا أن مصممها أصم وأبكم منذ ميلاده وبالتالي لم يكن في مقدوره أن ينهل جرعة تعليمية تعينه على شق طريقه مثل أقرانه أو تمهد له الدرب لتطوير هوايته. فقد نشأ معتمداً على التعلم بالإشارة وقدرته الفطرية على الطاعة والتخزين. وعندما شب عن الطوق لم يكن أمام والده سوى تدريبه على مهنته وهي إصلاح إطارات السيارات أو ما يعرف بـورشة (البنشر) فأجاد هذه المهنة التي يمكن حذقها بالممارسة ويكفي طالب الخدمة مجرد التأشير له ليفهم المطلوب منه وينجزه على أكمل وجه. لكن لما كانت في داخله بذرة فنان خفية تبحث عن مخارج لفضاء العلن، ولما كان يتمتع بخيال عميق في تأمل الأشياء من حوله بلا وسيلة بوح للتعبير عنها للآخرين فقد بدأ يعبث في أوقات الفراغ بالمقص لتفصيل أشكال هندسية تريحه نفسياً كأنه بذلك يحاور ذاته بلغة أدواتها المقص وبقايا انابيب إطارات السيارات التالفة التي يلقي بها والدة صاحب (البنشر) ورويداً رويداً طور هوايته دونما توجيه أو إرشاد لتفصيل أشكال تتطابق مع ما يراه من كائنات أو صور، لذلك كانت لوحة عرضه تشتمل على نماذج صغيرة لمختلف الأدوات المنزلية والطيور والحشرات والحيوانات الأليفة والمفترسة بما في ذلك التنين، كما تشتمل على نماذج من بروفايل الشخوص بدقة متناهية، ولكي تبدو واضحة للعيان قام بإلصاقها على ورق مقوى أبيض اللون فانجلى لون الأشكال المفصلة بالأسود مما شجعه على المضي في هذا الدرب.
لم أشأ أن أتأمل اللوحات وأغادر مكتفياً بإبداء عبارات الإعجاب والإشادة مثلما فعل الكثيرون دون معرفة المزيد عن هذا الفنان الشاب الذي لم يستسلم لحالة الصمت والسكون المطبق التي ظل يعاني منها منذ ميلاده رغم البحث في عيادات المتخصصين في الطب عما يفعّل الآذان للسمع أو يطوع اللسان على النطق دون جدوى، فقمت بتفعيل أدوات فضولي لأعلم ان اسمه مؤيد بشرى وهو من مواليد قرية العزاوي بجوار المناقل لكنه يسكن حالياً مع ذويه في الجنوب الغربي للفتيحاب فيما يعرف بالسكن العقاري. وإزاء ما انطبع في الذاكرة لم أشأ أيضا أن اختزن هذه الحالة دون الإشارة إليها، لذلك وجت نفسي أتناولها تقديراً لمهارة هذا الشاب وتشجيعاً له على بذله واجتهاده للتنفيس عن ذاته وإسعادنا برؤية ما يقدمه من مهارات من الممكن أن يرتقي بها أكثر إلى إنجاز تفصيلات بأحجام أكبر ووضعها في براويز منسقة تجعلها في متناول من يرغب في تزيين جدران منزله، كما يمكن أن يستخدم مواداً أخرى غير بقايا الأنابيب كالورق أو الجلد لتنويع الأشكال لو قصد التسويق، غير أنه فيما يبدو سعيداً لكون مواد إشباع الهواية من تالف الأنابيب التي لا تكلف شيئاً.
ونحن إذا نظرنا حولنا قد نجد أن كل ذوي الاحتياجات الخاصة يتمتعون بقدرات عالية قد لا تتوفر لدى الأصحاء المتمتعين في معمعة الحياة بكل حواسهم الخلقية ومكتسباتهم الذاتية، وتلك حكمة ربانية وعناية إلهيه تعويضاً لهم عن الضعف أو التعطل في حاسة معينة. فقد تجد الأعمى الذي يستطيع التعرف على الأشخاص بحاسة الشم من الرائحة أو سماع نبرات الصوت وقد تجد من يبدع فنّـاً بالغناء والعزف على آلة لم يرها مطلقاً وقد تجد صاحب تأتأة تلازمه في حديثه فتكاد تنتزع من فمه الكلمة إشفاقاً عليه من انكتام النفس لكن حين يطرب يغني بسلاسة يحسد عليها وقد تجد الأصم الذي يتمايل طربا وفق أيقاع معين من خلال متابعته بالنظر للآخرين أو ذلك الذي يفهم من تحريك الشفاه وخلجات الوجه ما إذا كان الكلام المنطوق مدحاً أم ذماً، فسبحان الخالق الذي وهبنا نعمة العقل.
|
|
|
|
|
|