|
مشاهد من مسرح التسعينات باقة وجد علي محراب
|
أوراق سودانية (6)
مشاهد من مسرح التسعينات باقة وجد علي محراب السودان القديم حسن أحمد الحسن / واشنطن
يقول الكاتب الصحفي اللبناني فيصل دراج " حين يقرر الكاتب ان يكتب بين السطور يستذكر من سبقة الي الوضوح القاتل او الي كتابة شديدة الحسبان نصفها قناع , والكتابة كانت ولازالت مرءآة كثيفة تحدث عن الصدق القاتل ومرجعه عقل يستنكر الصمت وعن قاتل الصدق ومرجعه مستبد ملتحف بخوفه او جماعة احترفت تمزيق الوضوح.
لم اكن اتوقع ان تمتد الغيبة عن الوطن لاكثر من بضعة اسابيع مهما كانت المبررات التي لم يكن من بينها مايسمي بالمنفي فقد كنا نقرا عن المنافي في اشعار وكتابات عبد الوهاب البياتي وحنينه الي زينب ومحي الدين ابن العربي استاذه الروحي الذي تمني ان تكون خاتمة المطاف الي جواره فكان له مااراده في اطراف حي السيدة زينب بدمشق .
قرأنا عن الحنين في كتابات المهاجرين الذين دفعت بهم مظالم ذوي قرباهم من الحكام الي التماس حقوق الانسان في غير اوطانهم وشاهدنا مجتمعات في مهاجر شتي تحاول ان تقيم جسورا من الحنين الي الوطن الذي افتقدوه وانتزعوا منه انتزاعا كما تنتزع قطعة الحلوي من طفل شديد التعلق بمكتسباته الصغيرة . وشاهدنا وشهدنا علي اهات القابعين في اركان المقاهي وهم يعيشون لحظات مسلسل عربي متسلل عبر السيتلايت وكانهم يعيشون في طرقاته واحداثه وماان ينتهي زمن المسلسل حتي يعودون الي واقعهم المزدحم بالثلج والبرد والشارات الضوئية . كانت العودة الي الخرطوم بعد ثلاثة عشر عاما تبدلت فيها الاشياء والاحياء واختلف الناس والطرقات واتسعت الاهتمامات والمطالب حيث لم تكن تلك الايام العشرين التي قضيتها ابحث عن اشيائي واناسي وا مكنتي وذكرياتي التي نقشتها علي حيطان الازقة والحواري بكافية فعدت ادراجي الي القاهرة في طريقي الي واشنطن كطفل ينتزع من حضن امه . وتظل القاهرة ذ ات الاعوام الإحدي عشر مستودعا متفرد ا لحقبة التسعينات من وهج العمر هي وحدها دون غيرها التي تملك مفاتيح اسرارها واحداثها وبقدر ماكان الحب لها قائما كان عشقها دائما حتي وهي تودعني الي المطار والي محطة جديدة عبر الاطلسي محتشدة بالمطالب والأرقام وعدد السنين والساعات والحساب .
محطات عديدة توقف فيها قطار العمر وأخري ابطا عندها دون توقف حفظت حيثياتها الذاكرة واختزنتها باصداء أصواتها المتقاطعة وملامح شخصياتها وأمكنتها التي طالما احتفت بخطي متسارعة تارة ومتباطئة تارة اخري حفظت معاني الإلفة .
مابين الخرطوم والقاهرة ولندن وواشنطن وعدد من العواصم الأخري مساحات عديدة امتلئت بشخوص وأحداث ومواقف تضاربت أحيانا وتقاربت أحيانا أخري تحمل هاجس الوطن الذي أصبح متنازعا في هويته وانتماءه ووجهته الحضارية مابين تظلمات علت نبرتها بسبب سوء السياسات السابقة وتطلعات لظلم إثني جديد يحاول ان يصحح اخطاء الماضي بخطأ اكبر يستمد نصره من الخارج. والوطن مابين هذا وذاك يسعي لايجاد أوراق ثبوتية تؤكد هويته الفريدة وواقعه الحضاري الذي لاتلغيه اخطاء الماضي ولن تتجاوزه أصوات نكرة في الحاضر مهماا تكاثرت من حوله الأهواء والمصالح . الصحافة والسياسة كانتا حاضرتين في معالجة تلك السنوات تجسد دورا حمل بكل معاناته ولحظاته بعضا من طعم تلك السنوات التي تألقت في سماء القاهرة وتنزلت بشخوصها وأحداثها بين الناس تمشي في الأسواق وتأكل الطعام وتختلط بأنفاس المارة في الطرقات والأزقة والحواري تحمل هما واحدا هو الوطن و تنام وتصحو علي حلم العودة الكريمة ولملمة الجراح ولقاء الاشتات . ويبقي اطار الحب الذي وسع كل هذه السنوات مصر وجدانا ومسرحا لسيرة جيل لم يستريح ولم تهداء له حياة .
جيلنا الذي وعي الحياة الثقافية والسياسية علي مشارف المرحلة الثانوية العامة مدين بالفضل لاساتذته الاجلاء من رسل تلك الفترة الذين نهلوا من معين سابقيهم من منارات العلم والمعرفة فكانوا بحشدهم لنا في سبل القراءة وترغيبهم لنا في حلقات الشعر والأدب كانوا جسورا من الوصال الثقافي ا لتي عبرت عليها إهتماماتنا الصغيرة للإلمام بما حولنا من معرفة كانت مصر ينبوعا صافيا من ينابيعها
وقبل ان تنتشر التلفزيونات بألوانها الذاهية وتتمدد المحطات الفضائية عبر الاقطار والأمصار كنا نهرع الي السينما مساء كل خميس لمشاهدة الأفلام العربية في سينما أمدرمان والسينما الوطنية حيث كان المقهي المقابل للسينما الوطنية ملتقانا قبل الولوج د اخل السينما وأحيانا كان مقهي يوسف الفكي المشهور من الناحية الأخري البديل الآخر وقد كان يوم الخميس بنكهته الخاصة بعد أسبوع دراسي متصل متنفسا محببا لنا فضلاعن كونه يحمل ايضا في نهاره ثمرات المطابع حيث كنا ننتظر الصحف والمجلات المصرية وكتب الروايات والقصص التي تحملها شركات التوزيع من القاهرة ظهر نفس اليوم ومن خلالها تعرفنا علي مصر بنيانا وانسانا وتجولنا في أحياءها ووسط أهلها واذدنا منها التصاقا عبر صور المجتمع التي تحملها لنا شاشات السينما والتلفزيون حتي كبرت فينا رغبة تجتاز المساحات الي الي مسرحها. فقد كان حب الإتطلاع الذي غرسه فينا اساتذتنا الاجلاء وتشجيعهم لنا بانشاء مكتبات خاصة في دورنا دافعا لانشاء زاوية صغيرة اختزنت فيها بعضا من الكتب والروايات والصور اذكر منها روايات يوسف السباعي ونجيب محفوظ وعبد الحليم عبدالله ومجلات صباح الخير وروز اليوسف واخر ساعة وغيرها وصورا من المعارض التي كانت تقيمها جمعيات الصداقة مع الشعوب للحركات التحررية في الخرطوم اذكر منها صورا لشيى جيفارا ومشاهد من حرب الانفاق الصينية والثورة الجزائرية ومناضليها امثال جميلة بوحريد وفضة الجزائرية وغيرهم من الأبطال والثوار الذين شكلت بطولاتهم واقاصيصهم وجدان جيل تلك الفترة . امدرمان هذه المدينة الغنية بناسها وتراثها الخالد بطولة عبر التاريخ المعاصر وفنا وابداعا في شتي الميادين كان إسهامها عظيما وحظها وافرا في الأدب والثقافة والسياسة والرياضة والقيم الإجتماعية الفاضلة التي أضحت بطاقات هوية يحملها أبنائها اينما رحلوا وحلوا تعرفهم بسيماهم وفي لحن القول ساهمت بمكتباتها التجارية والعامة في تنمية الاهتمامات الراقية لأبنائها وفي مقدمتها القراءة فكانت مكتبة المجلس البريطاني ومكتبة أمدرمان المركزية وهي منشأة عامة تمد جسور المعرفة و تكتنز في أضابيرها المجلدات الفلسفية والروائية بدء ا با الإمام الغزالي وابن تيمية وأبن كثير والماوردي والأصفهاني ومنشورات المهدي ومرورا بالأدب والتاريخ والشعر وانتهاءا بنجيب محفوظ والسباعي ودستوفسكي والبرتومورافيا وشكسبير ومسلسلات الادب الانجليزي المعاصر . هي ورصيفاتها كن مشاعل النور لأكثر من جيل .
ولم تكن أمدرمان إلا لتكون صنوا للقاهرة بكل زخمها الثقافي والإبداعي وقد توالت موجات التأثير عبر الفنانين والسياسيين والمثقفين وسائر قطاعات المجتمع وصالا وتواصلا ورغم الايقاع المتسارع للقاهرة والحضور السكاني الكثيف الا أن الروح التي تمتليء بها الازقة والحواري كانت واحدة في طيبة الناس واحتشاداتهم الإنسانية في الأفراح والأتراح ومفترقات الطرق وملتقياتها حيث تتسابق الإبتسامات الي الشفاه وتنفرج الأسارير بالتحايا ورغم اهتماماتنا الصغيرة في تلك المرحلة الا ان البيئة السياسية السودانية قد فرضت تأثيراتها علي جيل تلك الفترة وشكلت مستقبل ايامه من بعد .
فقد تميزت حقبة السبعينات بإعتمالاتها الثورية حيث كانت مسرحا للانقلابات العسكرية والانتفاضات الطلابية والمفردا ت السياسية التي تراوحت من أقصي اليسار لأقصي اليمين وتفردت حقبة الثمانينات بأن كانت مختبرا لتلك الشعارات في امتحان لم يكمل دورته الديمقراطية فلم يجد الوليد من يحسن قدومه او حتي من يخفف عنه وطاءة امراض التسنين فضاع في زحام الشعارات وتحول الي مطلب في قائمة المطالب والحقوق الاساسية يلتمس حق العودة الي صلب الدستور والتحرك بحرية في عبارات الناس والاختلاط ببنات افكارهم دون ان يكون ذلك مخالفا للنظام العام . في هذه الأجواء بدت التجربة الصحافية في السودان متعثرة بعد أن تحولت بعض الصحف الي فرق كروية ترتدي الشعارات و الفنلات الحمراء والخضراء والصفراء وذ ات حضور فاعل في النادي الدبلوماسى المعتمد في الخرطوم طمس دورها بشبهات الخلط بين الإنضباط والحرية حيث لم يكن مايعرف إدراكا بالأمن القومي هكذا تكاملت اجزاء الصورة القاتمة ليكتمل شكلها النهائي صبيحة دورة جديدة لأنقلاب إنقلبت بعده الحياة في السودان وتقلبت فيه بين الخير والشروالقبض والبسط وتبدلت الشعارات والأهواء وبدأ الجميع ينظرون الي سودان غير الذي عرفوه من قبل وعلاقات غير التي عهدوها فتطورت المطالب وأجتزئت الأمصاروعرف السودانيون لأول مرة واقع الشتات الكوني رغبا ورهبا وبدأ البحث عن السودان القديم الذي كان منصة إنطلاق لجيل من النابهين والوطنيين الذي شكلوا بفكرهم وسلوكهم ملامح الشخصية السودانية بكل تنوعها الثقافي والجغرافي في روزنامات من الأوراق والمقترحات مابين نيفاشا وأخواتها.
نواصل
|
|
|
|
|
|