|
مسحة من الأحزان وصوَرُ الجهل التأريخىّ:- لماذا لم يتمرّدِ الشماليون؟؟ بقلم عبد الحفيظ مريود
|
12:05 م Feb 5,2015 سودانيز أون لاين عبد الحفيظ مريود - مكتبتي في سودانيزاونلاين
عبد الحفيظ مريود mailto:[email protected]@gmail.com لم يجدِ المؤرخون والجغرافيون العرب أصلاً للزرافة. لم تشهدِ جزيرتهم حيواناً مثلها، قطّ. وهم مأخوذون بتقريب الصورة للمتلقّى العربى، القابع فى صحرائه القاحلة، فحاولوا أنْ يصفوها، فقال إبن الفقيه المتوفّى عام 903م، وهو يكتب عن بلاد النوبة التى يكثر بها الزراف "وذكروا أنّها بين النمر والناقة، وأنّ النمر ينزو على الناقة، فتلدُ الزرافة، ولا تتغذّى إلاّ بما تستخرجه من البحر". ويسترسلُ – متأكّداً من معلوماته – أنّ الله – تعالى – خلق لها عنقاً طويلاً حتّى تتمكّن من إدخالها فى الماء فتصطاد ما تريد أكله. ولم يكن إبن الفقيه، ولا من جاء بعده مخطئين بشأنِ الزرافة بالنسبة لجمهور المتلقين العرب. فلم يرَ أحدٌ منهم – إلاّ من إختصّه الله – زرافةً فى حياته، وبالتالى ليس هناك من سبيلٍ إلى الغلاط. يندرج ذلك تحت الصوَر الزائفة التى يشكّلها الآخرون عمّا لا يعرفون، وليس فى مُكْنتِهم أنْ يتحقّقوا فى الحين، مما يورده لهم العارفون. وحتّى وقت قريب، حين جاء د.مصطفى محمود إلى السودان كان يتصوّرُ أنّ الأفيال تتجوّل فى شوارع الخرطوم. مع إنّ ما ذكره يمكن أنْ يصنّف ضمن الإحتقار المصرىّ السرمدىّ للسودان والسودانيين، أكثر منه تصنيفاً بسبب الجهل الكبير الذى يصدرُ عنه إبن الفقيه. فى مدينة رمبيك، التى كانت عاصمة للحركة الشعبية حتّى لحظة توقيع إتفاق السلام الشامل، كنتُ أحادث شابّاً من جنود الحركة الشعبية عام 2005م، قبل أنْ يأتى د.جون قرنق إلى الخرطوم ليؤدىَ القسمَ نائباً أولَ للرئيس. كان الشاب – مثل الكثيرين من شباب رمبيك – يتحدّثُ لأوّل مرة إلى أشخاص من شمال السودان. فى تحريّاتٍ دقيقة كشف لى أنّه لم يرَ بلدةً شمالية قطّ. ولم يتحدّث إلى شماليين. لكنّه يعرف شيئاً أكيداً: هو أنّ الشماليين ظلّوا "يأكلون حقّنا منذ أمدٍ بعيد". لم تكن أهداف المحادثة أنْ أحمله على عدم تصديق ما تنقله الدعاية الموجّهة. فقد ظلّ الشمال ذاته – بمختلف أعراقه وجغرافيته – يسوّق صوراً زائفةً عن الجنوب والجنوبيين، وهى ليست بالضرورة جزءً من الدعاية السياسيّة أو العسكريّة – وإنْ كان بعضها تمّتْ صياغته ليكون كذلك – ولكنّها بشكلٍ أعَمّ جزءٌ من تعويض الجهل بتصوّرات خيالية مغرقة فى الكوميديا. ذلك فى تمهيد السؤال : لماذا لم يتمرّدِ الشماليون؟ والشمال هنا محصور فى ولايتى نهر النيل والشمالية. فى إطار تقديم جملةٍ نقديّة عن طروحات التنمية وجدل المركز والهامش ورشح الأدب الثورىّ المتمدد يوماً عن يوم فى خطابنا السياسىّ السودانى. والسؤال فى عمقه المكين يقرُبُ من سؤال ليفى شتراوس : كيف يمكن أنْ تكون فارسيّاً؟ ذلك أنّ الإجابة البدهيّة هى سؤال إرتدادىّ متعارض، وليس معترضاً: "ولماذا تريد من الشمال أنْ يتمرّد وهو يملكُ كلّ شيئ؟ أو لماذا يتمرّد الشمال وهو الحاكم أصلاً؟؟". ستظلّ تهدرُ وقتاً وجهداً خاسراً حين تأمُلُ فى إقناع أعرابىّ فى مكة أو فى البصرة ، وقد قرأ كتاب إبن الفقيه فقط بأنّ الزرافة ليست بنتاً للنّمر والناقة. وأنّها لا تأكل ما تصيده من الماء. فى السياق التأريخى لتركّز الحكم فى الشمال، ذاك الذى أسماه د.شريف حرير "إحتكار النخبة النهرية للسلطة"، لابدّ من موضوعية باردةٍ حتّى يتمّ الدخول فى مستوى من الإشتراك المفهومى. لم يكن خطأ الشمال أنّه وقع فى مدخل السودان للغزاة الذين غالباً ما يأتون من مصر. وتشيرُ الوثائق إلى أنّ كتشنر كان قد استخدم ألفىْ 2000 عاملاً من مناطق النوبيين لمدّ خطّ السكة الحديد. لا شكّ أنّ السكة الحديد هى أولى خطوات الإنتقال من فترة التعايشىّ القروسطية الى عصر الحداثة. وحين رسختْ ضرورة السكة حديد عقب تمام الإحتلال للسودان فى 1900م كانت قد بدأتْ تُخرجُ الشماليين إلى علاقات إقتصادية جديدة ووعىّ مغاير. فتمّ متزامناً معها البدء فى إنشاء المدارس على النظام الحديث، ما عُرِفَ بالتعليم الأوربى. بالنسبة للغرب (كردفان ودارفور) لم تأخذِ السكة حديد وضعيتها كنظام جديد إلاّ على عهد الفريق إبراهيم عبّود، 1959م فصاعداً ، أىْ بعد ما يقارب الستين عاماً، وهو ذات الشيئ الذى حدث فى النيل الأزرق، وجنوب السودان. ذلك يعنى ببساطة أنّ الحداثة والوعى المختلف عن البنية التعايشية سبق إلى الشمال وتغلغل لأكثر من ستين عاماً. ربّما اختلف التعليم قليلاً، غير أنّه سلك طريقاً شبيهاً بالسكة الحديد فجعل هناك فارقاً ملحوظاً، وبالتالى فإنّ المؤهلين لمعاونة الإنجليز فى الحكم وإلتقاط تدابيره، وتعلّم نظمه هم الشماليون لأسباب ليس لهم يدٌ ظاهرة فيها، ولا مكيدةٌ مؤكّدة. وإذا أضيف إلى ذلك أنّ دارفور كانت خارج سلطة الإنجليز ل 16 عاماً، إضافة إلى قانون المناطق المقفولة فى جبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب السودان، سيكون من غير الأخلاقىّ أنْ يتنكّب قادةُ المناطق هذه صراط الحقيقة فيصفون لنا الزرافة على طريقة إبن الفقيه، أملاً فى أنْ يتمّ إقتسام الحظوة التأريخية للشمال. لكنّ إبن الفقيه السودانىّ يتعمّد وصف الزرافة على تلك الشاكلة. لم يتقدّم وصف إبن الفقيه السودانىّ ليبرّر حنقه على الشمال والشماليين موضوعيّاً. بل لم يتسنّ له أنْ يهضم الصورة الكليّة لينفذ من خلال التحليل العميق إلى أنّ "إحتكار النخبة النيلية" للسلطة خلق علاقات وتحالفات جديدة ليست عرقية ولا جهوية. ذلك أنّ أىّ مركز يتأسّس على تحالفات تستوعب قوى مختلفة ترفد وتقوّى من سلطته. وفى سبيل تعزيز تلك السلطة التى غالباً ستتخذ دعائم أيديولجية او طائفية أو دينية، سيتمّ تجاهل الأساس الجهوى والعرقىّ أغلب الأحيان، لأنّه لا يعود آمناً فى ظلّ تنامى الوعى. حتى ليمكن الزعم أنّ أغلب قرى ومدن الشمال ظلّت غارقة فى بؤسها وفقرها، على الرّغم من أنّ "النخبة النهرية" هى التى تسيطر. وليس أدلّ على ذلك من أنّ الدامر عاصمة نهر النيل اليوم تأتى فى ذيل عواصم الولايات من حيث العمران والتنمية والحركة. فما تزال تحتفظ بسمت وعلاقات و عمران القرى. فى أقصى شمال السودان، هُجرتْ قرى ومدن كثيرة فى الحلفاويين والسّكّوت والمحس، بل حتّى قرى الدناقلة وبلدانهم أصبحت شبه خالية. فى حمّى التسابق والتدافع لتحجز موقعك فى المركز العاصمىّ لم يبقَ إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان. وهى هجرةٌ يستوى فيها جميع أطراف السودان، بل بعض الأطراف أفضل حالاً من الشمال، دارفوراً مثلاً، على الرغم من الحرب والنزوح واللجوء وما إليه مما هو معروف للقاصى والدانى. تعدّ الشمالية ونهر النيل الأقلّ تعداداً سكّانياً. ليس لأنّ أهلها سكنوا الرياض والعمارات والطائف (وهو صحيحٌ بقدرٍ)، ولكن لأنّ الهجرات المتتالية هرباً من اللاشيئ الذى يخيّم على شريط النيل المحاصر بالرمال والجبال هجّرتِ الكثيرين إلى مدنٍ أقدر على استيعاب وافدين وخلق أوضاع إقتصادية أفضل. سواء أكانت الهجرات الداخلية إلى كسلا، الجزيرة عموماً، بورتسودان، بعض مدن الغرب والنيل الأبيض، أو كانت هجرات النوبيين الكثيفة إلى خارج السودان لسنوات متطاولة. لم تعد الخريطة الراهنة للسودانيين هى زرافة إبن الفقيه. لقد حدثتْ تحوّلات بسبب النمط الحديث، القوى الحديثة والأفكار والأيديولوجيات، بحيث لم يعد العامل الحاسم فى الصراع على السلطة هو الإنتماء العرقىّ والجهوى. توسّعت المواعين وبدا كما لو أنّنا نحتاج إلى وصفٍ جديد للزرافة، أكثر دقة وأكثر علميّة. ذلك هو بالضبط الذى سيجعل المتتبّع يعيد النظر فى الخريطة السياسية نفسها وليست الإجتماعية والثقافية. لقد حدثت تحوّلات عميقة فى السودان على مدى ربع قرن من الزمان هى عمر الإنقاذ. لن يعود فيها السودان إلى سابق خريطته إلاّ أنْ يكون الدارس واقعاً فى سابقيات أو إرتكازات عفّى عليها الزمن. لقد قال عبد الله على مسار للسيّد مبارك الفاضل " ليس هناك من سببٍ يدعونا لنكون لكم تبعاً، بعد اليوم. لقد تعلّمنا مثلما فعلتم، وصنعنا لنا أموالاً مثلكم" ، العبارةُ أُعيدَ تحريرُها من صيغتها البقارية الرزيقية التى قِيلتْ بها. وهى مقولةٌ مفتاحية فى إعادة وصف الزرافة الخيالية تلك، إذْ يبدو أنّه ليس فى مقدور النمر أنْ ينزو على الناقة فتلد مسخاً مشوّهاً. هذه دعوة لإعادة رسم الخريطة السياسية الإجتماعية السودانية.
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- مطالبات جنوبيّة بالعودة إلى وحدة السودان: إذا فسدَ الملح...فبماذا يملّح؟؟ بقلم عبد الحفيظ مريود 19-01-15, 01:41 AM, عبد الحفيظ مريود
- فى محاولات أنْ تكون كما تشتهى:عودة مؤقتة إلى حقنة كمال عبيد وشفقة حسين خوجلى بقلم عبد الحفيظ مريود 15-01-15, 03:52 PM, عبد الحفيظ مريود
- الفكر السياسى الإسلامىّ وانسدادُ الأفق : ملاحظات عابرةٌ على موضوع السلطة بقلم عبد الحفيظ مريود 28-12-14, 04:05 PM, عبد الحفيظ مريود
- الأسئلة الخاطئة فى مسألة الشعوب السودانية:- باتجاه أفق مغاير لإدارة الإختلاف بقلم عبد الحفيظ مريود 14-12-14, 06:13 PM, عبد الحفيظ مريود
- هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود 12-12-14, 04:24 PM, عبد الحفيظ مريود
- على خلفيّة قرار على كرتى وبيان مجمع الفقه : لَهجاءُ بشّار أهونُ علينا مِنْ فقهِ بُرْد 12-09-14, 04:57 PM, عبد الحفيظ مريود
|
|
|
|
|
|