قال الأستاذ المحبوب عبد السلام، في أحدي اللقاءات الصحفية التي كان قد أجريت معه، إن المثقف في دفاتر الثقافة السياسية السودانية، هو ذالك الشخص الذي يميل لعملية التنظير، التي لا يفضلها أغلبية السياسيين السودانيين، و يتهمونه أنه يقول أشياء غير مفهومة لديهم، لذلك فضل جميع الذين يشتغلون بالسياسة أن يجعلوه علي هامش العملية السياسية، هذا التهميش المقصود هو الذي جعل السياسة في السودان من الناحيتين النظرية و العملية تتراجع، و تسقط أمام التحديات التي تواجهها، و إن كان المحبوب يتحدث عن الحركة الإسلامية، و لكن ظل المفهوم سائدا في كل التنظيمات السياسية. رغم إن التاريخ يبين إن المثقف المنتج للمعرفة، قد لعب أدوارا كبيرة في الحضارة الإنسانية، خاصة في عصري الأنوار و النهضة في أوروبا، و ما يزال يلعب ذات الأدوار، رغم التصنيفات الكثيرة، إن كان مثقفا عضويا عند غرامشي، أو المثقف الملتزم عند جان بول سارتر، باعتباره مصدر إنتاج المعرفة، و أداة التغيير في المجتمعات. و في المجتمع السوداني لم يستطيع المثقف أن يلعب هذه الأدوار بالقوة المطلوبة، و إن كان في بعض الفترات حاول بعض المثقفين أن يجروا الجدل إلي البيئة الأدبية لمحاكمة أفعال سياسية، كما كان الحوار دائرا في قضية " الغابة و الصحراء" الذي اتخذ من الشعر منصة للانطلاق، أو في الثقافة كمحور للجدل حول قضية الهوية، الذي أنطلق من الفن التشكيلي " السودانوية" عند الدكتور أحمد الطيب زين العابدين و غيرها من الإسهامات لعبد الله بولا و حسن موسي و احمد عبد العال و غيرهم، و في المسرح مسرحيات هاشم صديق، و في الآنثربولوجيا و التاريخ عند عدد من المثقفين خاصة في دائرة معهد الدراسات الأفريقية و الأسيوية في جامعة الخرطوم. و المثقف المنتج للمعرفة، يلعب أدوارا مهمة في المجتمع الذي يعيش فيه، و المثقفون الذين لا ينتجون المعرفة، و لكنهم يهضمون إنتاج الغير، يلعبون دور الوسيط بين المفكرين و المجتمع، و يحاولون تطبيق الإنتاج المعرفي في الواقع الاجتماعي، و يلعب المثقف هذا الدور كفرد و أيضا من خلال المؤسسات التي ينتمي إليها، و المؤسسات تختلف من حيث أهدافها و أدوارها و انتماءاتها، و في هذه المقالة أحاول التركيز علي المراكز التي تأسست من قبل الدولة و تصرف عليها، مثل مركز الدراسات الإستراتيجية، و مركز دراسات المستقبل، و مركز دراسات الشرق الأوسط و أفريقيا و غيرها، و بحكم قرب هذه المراكز من الدولة و صناع القرار، كان من المفترض أن تلعب دورا مهما في العديد من القضايا السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، أن تدرس المشاكل و الأسباب التي تسبب في الأزمات و تقدم الحلول، و أيضا أن تشارك بفاعلية في صناعة القرار بما تقدمه من دراسات و بحوث و معلومات تعين صناع القرار. و حتى لا يكون الحديث عموميا، ناخذ من الحوار الوطني قاعدة أساسية للنظر في الأداء و الفعل لهذه المركز. و رغم قرب هذه المركز من الدولة، و المرجعيات الفكرية للقائمين عليها، لكنها كان ممكن أن تتخذ من المناهج الأكاديمية و العلمية طريقا لها في رسالتها، و في التعاطي مع القضايا المطروحة في الساحة السياسية، و أن تتعامل مع كل التيارات الفكرية دون استثناء، الأمر الذي يجعلها مقبولة عند الكل، كما أن هذا التعامل المنهجي سوف يجعلها تبتعد عن الأيديولوجية، و تؤسس نفسها علي المعرفة، و لكنها لم تستطيع أن تفرض هذه السياسة، بل ظلت تعمل بعيدا عن دائرة الصراع الفكري، و تنتقي من الشخصيات ما تريده، اعتمادا ليس لدورهم في عملية الإنتاج المعرفي، و لكن بحكم انتماءاتهم السابقة، و التي كانوا قد غادروا قاعاتها، و هؤلاء أصبحوا غير مؤثرين في قطاعاتهم السابقة، كل ذلك لكي يؤكدوا إنهم مفتوحين علي الآخرين، مظهرا و ليس فعلا. فهذه المراكز إذا قارنا تاريخ التأسيس مع الأدوار التي تقوم بها في المجتمع، تجد إن تأثيرها لا يتعدي حدود دائرتها المغلقة، بحكم السياسات التي تبنتها، فهل هذا يعود للثقافة التي كان قد تحدث عنها المحبوب عبد السلام، و ظل مثقفي الحركة الإسلامية منغلقين علي أنفسهم، و غير راغبين في الحوارات المفتوحة، أم إن شروط التكوين لهذه المؤسسات جعلت فعلهم محصور في دائرة ضيقة لا يتعدي حالات النجوى. القضية الملاحظة، إن عملية الاختيار لقيادة المؤسسة، يتم للولاء أولا ثم علي التكوين الثقافي للشخصية، و ليس علي قدرة الشخصية في عملية إدارة المؤسسة، و قدرتها علي الانفتاح علي الآخرين، و تصوراتها في أن تجعل المؤسسة فاعلة في تحقيق مقاصدها في الإنتاج، و تأثيرها في الوعي العام في المجتمع. كان من المفترض بعد خطاب الرئيس في يناير 2014 " خطاب الوثبة" أن تتولي هذه المراكز الدور الرئيسي في عملية تهيئة البيئة الحوارية، من خلال فتح حوارات و نقاشات عبر سلسة متواصلة في القضايا المطروحة، تدعو لها المثقفين السودانيين، المنتجين للمعرفة علي مختلف تياراتهم السياسية و مدارسهم الفكرية، و الهدف من هذه الحوارات، و التي كان يجب أن تسبق أطروحات السياسيين، أن تخلق رأيا عاما يضغط في اتجاه أن يصبح الحوار هو المخرج، و في ذات الوقت أن هؤلاء المثقفين سوف يضعوا الخطوط العريض لمسار الحوار الوطني من جهة، و من جهة أخرى يقاربوا بين الأطروحات المختلفة في العديد من القضايا، خاصة إن المثقفين الفاعلين و المنتجين للمعرفة غالبا يكونوا متجردين من المصالح الذاتية، و يهتمون بالعموم دون الخاص. لكن فضلت هذه المركز أن تكون بعيدا عن دائرة الضوء، و أيضا عزفت أن لا تشارك إلا من خلال بعض رموزها في عملية الحوار، ليس استنادا علي العلمية و الأكاديمية، و لكن من خلال مرجعياتهم الفكرية التي توقعهم في عملية التصنيف السياسي، الأمر الذي يجعل المؤسسة نفسها تحت دائرة الاتهام السياسي. دائما تحتاج الحوارات الوطنية بين الحكومة و المعارضة، لتهيئة البيئة المساعدة لإنجاح الحوار، خاصة إذا كان الصراع تحول من صراع سياسي إلي نزاعات و حروب داخلية، أصبح السلاح أهم أداة في الفعل السياسي، مما يولد البغضاء و الإحساس بالظلم والغبن، يؤدي إلي فقد الثقة بين المجموعات المتنازعة. لذلك يكون دور المراكز و المؤسسات البحثية دورا مهما، في عملية إعادة تأهيل البيئة المطلوبة، و هذه لا تتم من خلال المناشدات و البيانات، أو من خلال الكتابات فقط، بل أن يكون هناك فعلا قويا ينقل الناس من بيئة النزاع إلي بيئة العقل، و هي بيئة تعتمد علي الإنتاج المعرفي، و بالتالي لها عناصرها الخاصة، القادرة للتعامل مع هذه القضايا، و هؤلاء هم المثقفين، لكي يلعبوا دورا مهما في إصلاح البيئة، و إعادة الثقة، و إزالة الشكوك، بين المجموعات المختلفة، و هذه تتم من خلال الحوارات المفتوحة بين المنتمين و غير المنتمين، و هؤلاء قادرين أن يمهدوا طريقا معبدا للحوار و أيضا يحددوا مساراته، و يعملوا حتى علي تهذيب اللغة المستخدمة، حتى لا يعرج الناس للغة منفرة كما يحدث الآن، إلي جانب تحديد و تقويم المصطلحات، و لكن هذه المركز لم تفعل ذلك و لسان حالها يقول إن الأمر لا يعنيني في شيء. في أوائل عام 2015 التقيت بالأستاذ ربيع حسن أحمد مدير مركز دراسات المستقبل، في حوار تطرق لدور المراكز في عملية الحوار الوطني، و سألته لماذا لا تتدخل المركز بحكم تجربتها الحوارية أن تغيير معالم الطريق، و أن تضع الناس علي طريق جديد مقبولا، بدلا من سيادة الأيديولوجية علي الساحة السياسية؟ قال هذا هو المطلوب و لكن المركز غير مهيأة أن تلعب مثل هذا الدور. و إذا كانت المركز لا تستطيع أن تلعب أدوارا زمن التحديات متى يكون دورها؟ و حتى إنتاجها المعرفي غير متوفر، و أن يكون في متناول يد الراغبين في المعرفة. دائما تحاول المركز البحثية في دول العلم الثالث، التي ترغب في عملية التغيير من أجل خلق بيئة مساعدة للتنمية و التحديث، و خاصة إذا أراد المسؤولون فيها أن تلعب أدوارا وطنيا تؤثر في عملية التغيير، لكي تساعد علي بناء السلم و الاستقرار و النهضة، البحث عن إيرادات مالية تساعدهم علي الإنتاج المعرفي، و بيعه بأسعار مخفضة، تساعد علي نشره في المجتمع انتشارا واسعا، لكي يخلق الوعي الشعبي المطلوب، و المحرك لعملية التغيير، من أجواء النزاعات و الحروب، إلي صناعة ثقافة السلام، خاصة إن ثقافة السلام لا تقوم علي الوعظ و الإرشاد، كما يفه بعض السياسيين، إنما تقوم علي التفاعل بين مكونات المجتمع، خاصة أولئك الذين يشتغلون بالفنون و أدوات الإبداع. و هي بالفعل قضية تحتاج إلي تدارس بين النخب التي تهتم بعملية الحوار و صناعة السلام و النهضة، و دور المراكز و مؤسسات البحث فيها. و نسأل الله حسن البصيرة. نشر في جريدة الجريدة الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة