|
مدرس سفري
|
هلال زاهر الساداتى _ القاهرة
قال محدثي المعلم القديم والذي تقلب في عقودا في مهنة التعليم مدرسا و إداريا إن من أعجب ما لاقاه في حياته المهنية الطويلة من بين ما خبره فيها من مسرات و مقلقات و نوادر و منغصات كان ذلك المدرس غريب الأطوار متقلب المزاج متغير الهيئة و الذي كان لا يقر له قرار في مدرسة واحدة أو مدرستين في سنة واحدة , وأضاف محدثي قائلا : لا تسألني عن كيف وجد طريقه إلى هذه المهنة الشريفة , و هل كانت هناك لجنة معاينة مثل أمامها أم لعبت الوساطة دورها فنفذ ذلك المدرس إلى المهنة كما يتسرب الماء من بين أصابع اليد ! و قال لي أن بداية معرفة خبره كانت عندما أتى إليه ابن أخيه و الذي كان تلميذا بالمدرسة الوسطي التي كان يدرس فيها ذلك المدرس , و أخبره انه قد دخل علينا اليوم مدرس جديد, و أسرعنا واقفين اثر صياح (ألفة) الفصل (قيام) , وكان كلا منا متشوقا لاكتشاف المدرس الجديد من الوهلة الأولي .... كان مربوع القامة عريض الكتفين لا تستقر عيناه الحمراوان في محجريهما فهما تتحركان في كل اتجاه كبندول ساعة الحائط القديمة حاملة تعبيرات عدائية , و كانت ملابسه المكونة من بنطلون كاكي و قميص أخضر فاقع اللون لم تمسها مكواة و كأنه كان نائما بها , و تركنا واقفين طويلا و هو ينقل بصره بيننا , ثم قال بصوت خشن : أتعلمون من أنا ؟ ولم ينتظر إجابة من أحد لكن أردف قائلا : أنا من بني مالك من قريش و أنا الآن جزائري ولكني سوداني المولد , سأرويكم و أطعمكم علما و من لا يريد سأقصف رقبته .. مفهوم يا بهائم ؟ و صاح يسأل عشوائيا (انت ألفي الزاوية, مفهوم ؟ و أنت يا أبو راس كبير.. مفهوم؟ و أنت يا ألفي النص.. مفهوم ؟ ) و هكذا دواليك و كل واحد يجيب بصوت مغلف بالخوف (مفهوم يا أستاذ) , و أخيرا نطق بكلمة الخلاص (جلوس) .. و جلسنا و نحن نحس بما يشبه القهر و التعجب مجتمعين , و أخرج الأستاذ طباشيره من جيبه و كتب علي السبورة بحروف كبيرة احتلت ربع مساحتها كلمة (تاريخ) وفي تلك الهنيهة التي أعطانا فيها ظهره أخذنا نبتسم و نضحك ضحكات مكتومة ونبدي التعليقات بصوت خفيض , و ألتفت فجأة إلينا و أمرنا بالوقوف و أن نرفع أيادينا عاليا , و أخذ يصب علينا شتائمه انصبابا ووصفنا بأسماء حيوانات كالحمير و الكلاب و الخنازير , وكان وجهه يبدو كلوحة سريالية , فعروق عنقه بارزة و عيناه جاحظتان و شدقاه مزبدتان و شفتاه ترتجفان ... و فجأة هدأ و أمرنا بالصمت المطبق و قال أنه سيبدأ بتدريسنا التاريخ منذ العصر الجاهلي للعرب و حتى تاريخنا المعاصر, و أخذ يتكلم بكلام مختلط غير مفهوم عن بني حمير و القحطانيين و الساميين و الحاميين , و سمعنا الجرس إيذانا بانتهاء الحصة و التي ضاع معظمها في وقوفنا احتراما للمعلم , ووقوفا عقابا و شتما .. و قال لي ابن أخي أن المدرس نقل إلى مدرسة أخري بعد أن عمت الشكوى منه من التلاميذ ومن زملائه المدرسين و الذين كان يعاملهم بجلافة و غلظة , وذهب صاحبنا إلى المدرسة الأخرى و قد سبقته إليها سمعته ... و في هذه المدرسة صفع تلميذا و كاد أن تصاب أذنه بالصمم , و تشاجر مع مدرس زميل له و ضربه علي عينه و كادت أن ينطفئ نورها و تصاب بالعمي ... و نقل إلى مدرسة ثالثة بعد أن أصلح المدير و الزملاء بينهما , و في هذه المدرسة أطلق لحيته و حمل مسبحة لا تفارق يده , و في أول حصة يدخلها و بعد وقوف التلاميذ قال لهم أنه لن يقول لهم صباح الخير و لكن يحييهم بتحية الإسلام (السلام عليكم) و قال لهم أنه ولي من أولياء الله و أن النبي زاره في المنام و أوصاه بتدريس تاريخ الإسلام و العرب و سيمس المنهج المدرسي مسا خفيفا و هذا أفضل لهم لدنياهم و أخرتهم , وفعل مثل قوله هذا في بقية الفصول التي يدرس لها .. و استدعاه مدير المدرسة و حدثه في الأمر و طلب منه إن يلتزم في تدريسه بالمنهج الذي وضعته وزارة التربية و التعليم , و لكن صاحبنا هاج و قال أنه سيلتزم بوصية رسول الله وعلي المدير أن يفعل ما بدا له , و كان أن رفع المدير الأمر إلى المسؤولين و بعد مجازاته أبي المدير أن يكون المدرس في هيئة التدريس بمدرسته , و نقل الرجل إلى مدرسة أخري , و صارت جملة تنقلاته أربع تنقلات في ثلاثة أشهر , و لكن هذه المرة رفض صاحبنا النقل و ذهب غاضبا ثائرا إلى المسؤول في الوزارة و اقتحم عليه المكتب و خاطبه : (انت قالوا ليك أنا مدرس سفري ؟!) فقد كان في ذلك الحين توجد عربة بريد ملحقة بقطار السكة الحديد والمشرف عليها يدعي وكيل بريد سفري .....
هلال زاهر الساداتى_ القاهرة [email protected]
|
|
|
|
|
|