|
محمود عبد العزيز أسمٌ وضاء في سماء السودان/عمار عبد المنعم خليفة
|
محمود عبد العزيز أسمٌ وضاء في سماء السودان "عدَت سنه ومرَت سنه وأنا لسه يا قمر الزمان عايش على ذكراك أنا" بمناسبة مرور عام على الرحيل ولا أقول الذكرى.. فالذكرى قائمة في قلوبنا أبداً والذكرى بتصبح أبدية. إنها نقطة من بحر الحوت ودرب الحوت العميق اليم، الذي ما زلنا نكوس لجذور صدفو ، إنه صوت من ملايين الأصوات التي أحبت هذا الإنسان النبيل. ولو كان بالإمكان، لكم تمنيت أن يكتب عنه أولئك الذين لا يملكون أقلاماً أو كراسات، أو أولئك المهمشون في السودان؛ أو يكتب عنه الأخوة الجنوبيون ليصفوا لنا ماذا يمثل لهم محمود ؛ أو يكتب عنه ذلك الكفيف ليصف لنا كيف كان يرى محمود في خياله، أو ذلك المعاق الذي انتشى طرباً ومحمود يشاطره الجلوس أرضاً، ليصف لنا تلك السعادة التي لا تقدر بثمن التي وهبها إياه .. إنه محمود.. إنه هدية السماء لنا.. عاش فترة وجيزة ولكنه كفَى ووفَى... كم تمنيت أن يكتب عنه ذلك الذي لا يملك قوت يومه، ولكنه كان يعمل المستحيلات ليشتري تذكرة لحضور حفل لمحمود. إنه محمود.. إنه ذلك الحب الجارف الذي لا يفسر.. إنه تلك الحالة الإنسانية النادرة التي سدت ذلك الفراغ لأولئك البسطاء. وكما غنى "وراجع بعد يملى الحنان طال السفر والشوق فتر".. كم أشاع الحب والخير والجمال. عرفناه بالفطرة أو الصدفة التي جاءت من غير ميعاد أو أنها هدية القدر.. جذبنا صوته الذي أودع فيه روحه وشجنه.. ومنها ابتدأت رحلة هوانا فأصبح لنا حياةً وماءً وهواءً... تتضاءل الكلمات وتتبكم حروف القول، ولكنه اجتهاد ولن يكفينا البحر ولو كان مداداً لنكتب عنه. وإن نفدت الكلمات لن تنفد المشاعر التي لا نستطيع أن نعبر بها عنه "وأصلو الحصل ما بتوصف لا بي حرف ولا بي غنا". ******************* مضى عام على الرحيل والحزن لا يفارقنا على افتقاد ذلك الأسطورة، ريحانة الشباب المتقد، حكاية الجيل التي لم تكتمل سطورها، مآثر الوطن الذي لم تستظهر ملامحه ، أحلام المعذبين الذين لم تتحقق رؤاهم، أوار النار التي لم تنتفض جذوتها. مضى عام على رحيل ذلك المدهش الذي كان كثيراً ما يرى في خشبات المسارح صادحاً بألحانه الطروبة، متجسداً بطلته الآسرة.. دوزنةً من إرث الشارع المنسي. عذب الروح، صبوح الوجه، باسم الثغر، خفيف الظل.. شدا كما لم يشدو جانتيكوس. يا محمود زادت في أعماقنا الجراح وزاد في حشانا نزف النزيف .. من فرقتك دفق النزيف كدة برضو تفوتنا وتنسانا .. يا أحلى عبير كان بغشانا مع كلو صباح زى الأفراح يغسل أعماقنا الحزنانة
أقفرت الجفون من المدامع واعتصرتنا لوعة الفراق ..يعصف بنا الحزن يا محمود.. (اللقيا عاد ما أجملا والله من يوم الرحيل)..(تفوت ولا حتى تودع ساي) رحلت عنا وأغفلت الوداع.. وذهبت بباقي النشوة التي لم تلبث أن أسكنتها أرواحنا (نشوة الروح).. والوداع يا نشوة الروح الوداع. لا ندري إلى أين شددت رحالك، فهل سبحت بعيداً عن عالمنا كما غنيت: (وأسبح بعيد بعيد وأسبح بعيد) في بحار النور تتوه وتسيح بين الدروب، وفي فرح شموع تتوه وتكوس نجمك؟ ولكن علَك ترشدنا برحلة غيوم تحمل رسائلك. فأين أنت يا ملهم حظوظنا العاثرة؟ أين أنت يا حبيبنا الأولاني؟ فما زالت لجماهيرك (ذكرى عايزين تعيدا تاني). كم سنفتقد طلتك الآسرة وحضورك الطاغي في المسارح، تتسمر في خشباتها حكايةً من الأساطير الإغريقية. إنسان سابق لعصرك بكل ما تحمل الكلمة؛ فقد كنت غريباً عنا مدهشاً بعبقريتك: (ما لقينا في دنيا الناس ساكت شبه زيك.. لاقنك وين الزيك مين ما إنت أميرنا ودنيانا). وكنت نتاجاً تراكمياً لهذا الشعب المتفرد؛ فتمثلت فيه محاسنك من كرمٍ ونبلٍ وشهامة.. حيث ظللت تعطي مِن غير مَن، وترسل نفسك على سجيتها فتتعامل بالبساطة والوداعة واحترام الآخرين.. لا تفاضل بين الناس.. فوجدت قبولاً من جميع أطياف وطبقات المجتمع السوداني، وكنت لهم غيمة ظليلة في الزمن القاسي. (لقيتك إنت أجمل زول...لقيتك إنت أروع زول). محمود يا موقد مسارج الروح.. يا ذلك الصوت الذي ترعرع في حنايانا (صوتك نغمة في جواي يزيد إحساسي بالبهجة)؛ (وهو اللي ثابت فينا منك هو اللي ساكن في الحنايا).. ذلك الصوت الذي يرشف منه وجداننا ولا يرتوي.. (عطشانين ولسه ما روينا .. ما صوتك كان الهو البيسقينا) ذلك الصوت الذي أصبح كائنا نستشعر به ذواتنا، وبرهاناً نفند به وجودنا.. فمن بعدك لم يعد لنا وجود ولم تعد لنا هوية. (افتقدتك وكل لحظة كنت بفقد من كياني). ................................. فمحمود كان ملاذاً آمناً لهذا الجيل من الشباب الذي يعيش الفاقة من أمره، متضجراً على حاله، يشكو أرزاءها ولا يجد مواسيا أو معينا (مشيت خليتنا للأيام، منوا لغيرك بواسينا). (شذى الأيام لقيتك غنوة من وهج الكلام طاب القلب يحلم بالمنى رحل الغمام) (الريدو في قلوبنا اتكتب ذكراهو عنــــدي معززة). أحببناك يا محمود في كل لحظة.. أحببناك في بداياتك الأولى عندما سمعنا غناءك ونحن ما نزال أطفالاً لم نتشرب بغايات الفن وأذواقه، فكان صوتك الشجي أول صوت تتلقفه مسامعنا، ففطرنا على سماعه وأصبح شيئاً من ذواتنا.. وأحببناك وأنت تشق الطريق الذي ركبت له وحدك مراكب المستحيل، ولم يكن صنوك حينها غير موهبتك واقتناعك بذاتك (شجاع إخترتا فيها البين ولا غافل ولا مسكين) ؛ فلم تتهيب الولوج في فترة احتدمت فيها المنافسة وكنت صابر ومثابر بالصبر. أحببناك وأنت في ذروتك.. أحببناك بتقلباتك.. أحببناك سعيداً وحزيناً.. من الذي لا يعجب بك؟ فحتى المختلين عقلياً كان لهم من الإعجاب بك نصيب. وهنا أذكر أنه في الحفلات التي كنا نشهدها لمحمود كانت هناك فتاة مختلة العقل تحضر بانتظام، ولا تفوتها حفلة له.. (أنت البيك العشقوا جنوا) ... أحببناك في (أغاني وأغاني)، حيث كنت كالنسمة؛ وأعجبنا حضورك الذي لم يفهمه الذين لم يعرفوك وانت تحمل في حناياك حزن غامر لم يفهموه ويدركوه .. وكما غنيت (أسأالو العرفوني فيكم)، وبذلك كنت تثقل على نفسك لتغمرنا سعادة.. فأنت تغني وإن غنيت من أخمص قدميك.. لكنهم لم ينصفوك. وأجزم أن كم الإبداع الذي تبدَى في تلك الحلقات لم يضاهيه إبداع حينها. محمود فنان بحجم وطن. لم يكن محمود إنساناً مهدر الطاقات، أو خواء الروح؛ ولم يكن (الحواتة) كذلك. دعوا أيها المنظرون فلسفتكم لأنفسكم، ولا تربطوا محموداً بأفكار تعشعش فقط في مخيلاتكم المتقلبة، التي ضقتم بها ذرعاً وضاقت بكم. كلٌ ينظر على شاكلته، غير أن محموداً سيظل هو الصمود، وسيظل هو الإنسان النقي البعيد عن زيفكم وبعيد عن كل شوائب الحياة. برتاح ليك يا غيمة ظليلة...غيمة حب في الزمن القاسي زمن الضحكة بقت مفقودة....وكل الكون للفرحة ينادي تكاثرت على الناس المصائب، وضاقت بهم سبل العيش، ولم يستوعبوا ما حل ببلدهم، وانتشر النفاق في الساسة، عمت الحروب شتى بقاع الوطن، واستشرى الفساد، وجدبت الرؤى؛ فكان محمود هو المخلص والأب الروحي بالنسبة لهم، حيث أنه إنسان ذو نفس صافية كالبلور، يستطيع الجميع أن يلمس نقاء سريرته.. فهو كالزهرة التي نمت وسط الركام .. (لقيتك في زمن ضائع صرخة في الماضي الخرافة جيتني من عمق المواجع من شقى سنيني وجفافا) لم يأتنا من برج عاجي، بل جاء من رحم الشارع.. أنشأ مملكته بكده واجتهاده.. أسس قاعدته الجماهيرية الأولى عندما شق طريقه في عالم الغناء.. فلم يكترث للأضواء والإعلام .. وكان أكثر فنان تعرض لاغتيال الشخصية، فلم يلتفت للترهات، ولم يمكنها من أن تهدر طاقاته، بل ظلت القافلة تمضي في سيرها وصعودها.. فكان كالعود الذي زاده الإحراق طيباً.. كان إبداعه دافعاً يجابه به غدر الزمن.. وكان رمزاً للتسامح والمحبة.. فكأنما انطبقت عليه كلمات أغنية (ما بلومكم) التي قيلت بحال لسانه. وهو كسائر العظماء الذين يلهمون أجيالهم، ويقطرون على الرباب من عذاباتهم ليدفعوا من سنين عمرهم ديناً. ما بلومكم في ظنونكم فرحي مقبوض بين حصونكم مأسور جريح بين سجونكم أصلي زول من قمت طيب أسألو العرفوني فيكم ما جنيت على زول سليتو قدمت روحي وفني ليكم جنيت علي نفسي المسالمة ولي ما حنت يديكم أذكر أول مرة إلتقيته فيها بمنزله في (المزاد) ببحري، الذي استقبلنا فيه بحفاوة نادرة وتواضع مفرط، لاغيا كل الحواجز. كان يترك الانطباع في نفسك بأنه انسان مدهش وفريد ، يخلق الألفة بينك وبينه حتى يشعرك بأنه يعرفك من سنين ، يترك له فسحةً تنعتق فيها من هيبة لقاءه. وأذكر أن تلك كانت أول مرة أشخص فيه عن قرب.. بدا لي الجسد النحيل، والوجه الذي يغلب عليه الشحوب ؛ فأيقنت حينها أن النفوس ذات المسؤولية الكبيرة ترتقي بحجمها عن الأجسام التي تحتويها. وإذا كانت النفوس كباراً . . تعبت في مرادها الأجسام كما أيقنت أيضا أن ذلك الشحوب هو لون العظماء. رأيت فيه غوراً وغموضاً وسحراً.. وتملكني إحساس كالذي ينتابك عندما ترى شيئاً أثرياً ذا قيمة تاريخية كبيرة، أو تحفة نادرة.. بالفعل بدا لي كالأسطورة.. وبقدر ما حاولت أن أتفرس وجهه، كنت أزداد يقيناً بأن وجهه لا يفسره إلا تكرار النظر إليه.. وعندما ملأت عيني منه، كدت من فرط ما اعتراني من إحساس غريب- أن أنكر أنه إنسان! .. لمست بساطته المتجسدة في الهيبة.. (هيبة مع البساطة أصدق ما يكون). كان يحمل عمقاً وكاريزما لا تخفى على العين.. لأول مرة يصيبني فيها هذا الشعور الغريب والرهبة المتناهية لرؤية إنسان بدا لي كالأسطورة... أيقنت حينها أن هذا الإنسان القادم إلينا من وادي عبقر فريدٌ بكل السمات والقرائن والملامح التي سطرت لتعريف الشخصية الأسطورية .. وقد صدق الذين لقبوه بـ (الجان). (كانت قلوب تخشي وتهاب من روعتك). .............................................................. مهما يكون ذكراك باقية وما بتهون يا منبع الإخلاص ويا نور العيون ظهر محمود على المستوى الشعبي في مراحله الأولى، وصنع نفسه من قاع المجتمع الكادح، فنشأ نشأةً طبيعية؛ حيث لم يظهر على الإعلام إلا بعد أن أصبح ذلك الاسم الوضاء محمود عبد العزيز. فاستطاع في فترة وجيزة أن يحقق جماهيرية واسعة، وأن يؤسس وجداناً جماعياً يعشق الحوت. فوجود صوت محمود في الأسواق والدكاكين والكافتريات والحافلات والبيوت هو حالة حياتية عايشها السودانيون، واتخذوها نمطاً يسيرون به حياتهم. فمحمود كان هو (الدنيا الجميلة) و(المدينة الفاضلة) بالنسبة لهم.. كان مراح ذواتهم، ومترع آمالهم وأحلامهم.. يتجسد كل ذلك في هذا المبدع الذي تتوارى خلف جسده النحيل عبقرية تذوب بين أضلاعه ذوباً. غنى محمود لجميع بقاع الوطن.. غنى لجوبا، وجبال النوبة، والوسط.. ومدح الرسول (ص).. وغنى للوطن، والحبيبة، والمريخ، وغيرها.. كان يجول في مختلف المحافل، ويتواصل مع كل القطاعات..فكان ظاهرة اجتماعية وغنائية خلقت تواصلاً بين الأجيال، وتوازناً في فن الغناء.. مشكلاً بذلك ثقلا منقطع النظير في الساحة الفنية. فهو شخصية خصبة وعميقة تستوعب جميع أشجان وأحلام الوطن. استطاعت تلك الطاقة الضخمة أن ترسم بجميع الألوان، وأن تصبح مجمعاً للأذواق التي تشكل الفن الأصيل.. فهو نبض الشارع والمجتمع الذي يتغلغل في جميع تفاصيله. تشبع محمود بشتى ضروب الفن السوداني، فغنى الحقيبة، وغنى لعبد العزيز محمد داوود، ومحمد أحمد عوض، ووردي، وعثمان حسين، وزيدان، ومصطفى، وأبوعركي، والطيب عبد الله، ومحمد ميرغني، وسيد خليفة، والخالدي، وآخرين من فطاحله الفن.. فنهل من تلك الفنون، واستفاض من فيضها.. واستطاع أن ينشئ منها مشروعه الخاص الجامع بين الأصالة والحداثة؛ فشكل بها لوحة سريالية ذات وجدان مشترك.. فمحمود هو ظاهرة كونية ولوحة فنية متكاملة مليئة بكل ألوان العطاء والاستمرارية؛ بل والأجدر بنا أن نصفها بالعبقرية،التي تجلت فيها الإرادة القوية والإنجاز والإنتاج الثر، الذي يحمل أبعاداً إنسانية ايجابية، تجاوزت التبعية والتقليد، وأتت بفن ومدرسة ولونية جديدة في فن الغناء، نسجها من ألوان روحه ليخلقها خلقاً حياً . وبالصدق والإخلاص الجم نجح في أن يضع الأساس لرسالة فنية حقيقية؛ حيث أضفى عليه الصدق حالة من العرفان والبصيرة تكشفت له في موسيقاه، فانبعث السحر الكامن في محاجره؛ وكان أن دوزنه ، مما أتاح لنا أن نرى جمال آثاره، وروعة حسنه، ورنة الطرب فيه. وتتجلى عبقريته أيضاً في أنه يعطي النص قدسية ورمزية وخلوداً، مما يجعله صالحاً لأن يكون مرجعية أو دستوراً للحياة. فالفن الذي قدمه لنا محمود هو فن سامي، يحتوى على مقومات وظواهر كتبت له التفرد في خارطة الغناء السوداني، مما يندر أن نجد له مثيلاً باستثناء الفن الذي قدمه لنا الأسطورة الأخرى مصطفى سيد أحمد رحمه الله، الذي كان موازياً له من حيث العبقرية والابتداع. فتلكم التجارب الناضجة كانت تخاطب النفس والروح، وتكشف الذات وتوقظها من سكينتها لتغرس فيها الانفعال والحيوية. ظلت تلك المبادرات الإبداعية تسامر كل ما هو نفيس في مكنوناتنا، وتنقلنا إلى مواقف نرى فيها أنفسنا. فأرهفوا الإحساس، وهندسوا الأذواق، وأيقظوا الشعور من سباته، والوعي من ظلماته. سخروا المشاعر التي تمور في النفس، وفجروا الطاقات. لقد تخطت تلك الفنون مرحلة الإحساس السمعي، فأصبحت تخاطب الروح، وتنتقل من الحساسية المفرطة إلى الروحية المجردة، متجاوزة نطاق الدوائر الحسية، باثة في الروح الوعي والإدراك والتصور، بكل ما في ذلك من شمولية كونية. واستطاعت أن ترتقي بالإنسان وأحاسيسه ومفاهيمه، وتغرس فيه قدراً من السمو الإنساني، وتمنحه الهوية التي افتقر إليها، والمرجعية التي طالما رنا إلى الاهتداء بها. فهذه الموهبة، وهذه الكاريزما، وهذه العبقرية لم تكن نتيجة ظروف أو حقبة معينة أرادت لها أن تكون. وهنا أختلف مع الكثير من النقاد الذين حاولوا تفسير العوامل التي قادت لظهور محمود مقرنينها بالفترة التي جاءت فيها الحكومة الحالية.. فحتى لو كان الحال غير الحال، لومض بريق محمود، إذ أن موهبته الأصيلة كانت ستفرض نفسها في جميع الحقب والظروف. ولولا قيود الكجر، لكتب لهذه الموهبة البزوغ العالمي.. فنبوغه يبصره الأعمى وغناؤه يطرب من به صمم.. شيدت في جواي صوامع للفرح وفتحت في دنياي مسارح للمرح فإبداع محمود ليس مجرد إمكانيات صوتية؛ ولكن ما يكمن خلف ذلك الصوت من إحساس عميق ودراما تزلزل الوجدان، فتشعرك كأنما يغني لك وليس لشخص سواك.. فتلك الخصوصية تتوطد عنها علاقة أثيرة لتصبح أداة تكميلية لكونشرتو إبداعه. فغناء محمود يكلم الإحساس، ويستنطق الصخر العصي. ولكي تدرك ذروة إيقاعه لا بد لك من أن تسمعه بكل جوارحك. فغناء محمود هو عبارة عن أداء تصويري فيه تصوير للمشاعر؛ تتخذ فيه الأحاسيس شخوصاً يؤدي كل منها دوره على أكمل وجه. فبعض الأحاسيس تشحذ النفس والهمة، وبعضها يثير في النفس الحنين إلى البكاء، وبعضها يدخل الفرح فتجعل ذهنك يمور في هذا المسرح الافتراضي.. فمحمود يعطي أية كلمة في القصيدة حقها بأن تتحرر من قيودها، وأن تبوح بامتداداتها وتهويماتها ومآلاتها، فيهب للكلمة بعداً ثالثاً، ويؤسس منها ديناميكية تفاعلية بين ذهن المتلقي والعمل الإبداعي (زاد الشعور أبعاد).. هكذا تتجلى قدرته في تقمص روح القصيدة من خلال الأداء الصوتي المسرحي حيث يمتلك خامة من الصوت تعرف (بالتينور الدرامي). فحتى لو استمعت إلى أغانيه بصورة غير مرئية، فإنها تتمثل لك كما لو كانت صورة حية؛ فتستطيع أن تتلمس انفعالاته وحركاته. وهذه إحدى التفسيرات لتمكن محمود من النجاح في أداء أغاني الفنانين الآخرين بصورة أفضل، وبوقع أعمق للمستمعين. فهو بعبقريته يدخلها في قوالب جديدة ويمحو عنها بصمتها الأولى، وينفخ فيها سحره الخاص ليكتب لها ميلاداً جديداً.
بسأل عليك في زحمة التيه المحاصر بالفراغ في صحية الوعي المخدر في جبين الكون ضياع في غربة الشجن المعذب ورهبة الخوف المشاع أجد صوته يتسلل بين الأزقة والحواري والبيوت.. يستوطن الذات ويترسب في الإحساس كجدارية، صوته الذي أراه ( في فرحة النيل.. في التعابة.. في طفلة تلعب كايسة لي حرف الكتابة).. أجد صوته في ملامح الشماسة الذين أرهقتهم الشموس التي تحط بمقادير حظوظهم.. أجد صوته في عبق البن الذي ينبعث من ست الشاي.. أجد صوته في محطة باصات السوق العربي.. أجد صوته في محطة الشهداء بأمدرمان.. في رائحة الدعاش كانساً الحيشان بطراوته.. أجد صوته في بائع الترمس..أجد صوته في القماري.. أجد صوته في القرى.. في المدن.. في المهمشين. كنت أسمع صوت محمود وراء كل هذه التفاصيل فكأنما أراد بصوته أن ينطق كل تلك الظواهر، وأن يفصح عن جميع تلك الإبعاد. كنت معاي...كل ما أتوه بلاقيك في العمر سلوى بعدتني عنك غربتي وفي خيالي ديمة اشوف عينيك
وحتى بعد أن سمعته في الغربة، كان لي كالخبز الذي أسد به رمقي، وكالحلم الذي أقتات منه فرحي. فأستطاع ذلك الصوت الآتي من قرار بعيد، كما يصفونه، أن يقرب إليَ الوطن ليخلق لي وطناً في نسيج خيالي، أحسه بكل معاني الكلمة (شاقي البلود كايس الديار كان ألقى في عينيك وطن).. أوليس الوطن فكرة في الذهن وابتداع في العقل؟ وما هو الوطن بعد أن تشتت؟ أليس محمود هو الذي استطاع بفنه أن يرأب صدعه، وأن يرسخ في أذهاننا قيمة الوطن الحقيقية، متجاوزاً الحواجز والموانع والخطوط الجغرافية الوهمية؟ فهو وإن لم يجبل على السياسة، إلا أنه كان سودانياً نقياً يؤمن بقيمة الوطن أكثر من أي سياسي مدعي.. لم تكن له أيديولوجية غير حب السودان.. ولم يكن مثقفاً الثقافة المعهودة.. ولكنه كان مشبعاً بالثقافة الروحية والإلهام والوعي الصادق؛ فكان يتلبس بأحاسيس الناس وانفعالاتهم.. وكينونته جزء لا يتجزأ من بني جلدته. كان متصالحاً مع نفسه وضميره.. ويا سلام عندما خاطب جماهيره رداً على من أطلقوا إشاعة وفاته: (الأعمار بيد الله.. أنا بحيا بيكم وعايش ليكم).. لله درك يا محمود .. فلقد تذكرت أيضاً مقولة بوب مارلي عندما قال (حياتي هي الناس). وأنا أجد تشابهاً كبيراً بين هذين العملاقين اللذين لم يكونا ينظران إلى زخرف الدنيا.. وكثيرا ما استغل الساسة شعبيتهم لتحقيق مآرب وأجندة مجهولة.. وكلاهما كان واقفاً في حياد المنطق، مكرساً نفسه لإيصال رسالته الإنسانية والفنية والاجتماعية. فالغناء كان هدفهما الأسمى.. وكأن بوب ومحمود كانا يتسامران من خلال أبيات هذه الأغنية: إنت وأنا من فوق على قمماً سعيدة نخلي صوتنا دوام يغني يا صوتنا غني باللهفة والحب والتمني لا سهاد في ليل بعاند لا الوجع تاني بعاود بس تغني نهدم الخسران ونبني بالوهج عالم مغني
استطاع محمود بنكران ذاته أن يرسخ الحب في الناس، فامتلك شريحة كبيرة من الجماهير الذين وثقوا به ثقة عمياء فكانو عينه التي يسمع بها وصوته الذي - وكما قال لجمهوره: “اليفيكم روح فني” ؛ فكان كالوعاء الجامع وكالبوتقة التي تنصهر فيها أحلام الوطن... وهنا تكمن عظمة محمود.. فالعظمة تقاس بمردود التأثير الإيجابي على الناس.. فمحمود هو وقود الإلهام والتحرر والتمرد.. هو فجرنا الآتي.. هو أكثر فكرة نتمسك بها .. محمود هو الوطن.. ولكن غايتو نتصبر....وكل ما نحن نذكر وكل ما ليك نذكر....تنزل دمعة تتحدر فراقك يوم بعذبنا....بعادك آه بيتعبنا وكيفن مدة ما نشوفك....كيفن مدة ما نشوفك....كيفن يعني ما نلاقيك عندما نبكيك يا محمود، إنما نبكي على وطن.. نبكي على آمال.. على أحلام. لم نحببك جزافاً، ولكن أحببناك بقدر صدقك، وبقدر ما قدَمت لنا من جمال أخاذ؛ فلم تبتغى مراداً غير أن ترسم فرح ومحبة الناس، ولم تكن بعيداً عن أشجانهم. فكيف بك وقد نشأت بين الغلابة والبسطاء تغني للقابضين على الجمرة والنايمين بدون تمرة فكنت منسجماً مع البيئة المعاشة بكافة عواملها.. وكيف بك وقد أدركت أغوارها وبلغت نجودها، وعرفت النفوس وطبائعها، والعقول ومذاهبها، والمدارك ومقاصدها، فتغلغلت في العقلية المزاجية للشارع، منسجماً مع بيئتك، ومتفقاً مع روح عصرك، حتى ابتكرت من ذلك نوستالجيا تعزف على وتر نغيمات الغلابة وكأنما ولدت لتفرحنا ، فمحبتنا لك كانت غير مشروطة، وكانت أغانيك ترياقاً يمسح أحزاننا، وبلسماً يطفئ جراحنا.. فانتشينا بلحنك، وأبت آذاننا أن تسمع لغيرك.. وكأن في آذاننا وقراً يمنعها من الاستماع إلى ألحان غير ألحانك، وصوت غير صوتك.. (وما بنطيق لغيرو نسمع).. فقد تحدثنا عن حياة سلفت، وعن حياة ستأتي.. فمحمود ضرب لنا مثلاً عظيماً وصنع مقياساً جديداً للحب (ريدك أصبح رقم قياسي)؛ فرسالة المحبة والإنسانية لا تقررها ثوابت وقوانين جامدة أو تعصب أو جهوية، ولكن تكون لأشياء أسمى. ضرب لنا الحوت درساً ورحل قبل أن يعي وقعه، وقد رسم أيضاً خلوده في ذاكرة الناس ووجدانهم.. وسوف تذكر الأجيال القادمة بفخر أن كان لنا (محمودنا)، كما للألمان بيتهوفن، وللنمساويين موزارت، وللروس تشايكوفسكي. ستظل روحك رابضةً في كل تفاصيل الحياة، وسوف يتاح لطموحاتك الانطلاق، وتبقى روحك حائمةً في جميع بقاع الوطن حتى يتوحد ويتحرر، ونغني لجوباً مجدداً، ونراها تنتهي فيما بينهم، وينكسر قلم الظلم.. ويصحوا الناس على حلم راجع يكتبوا في الفضاء الشاسع يحلموا بوطن واسع لا محزون ولا مهموم ولا مسجون ولا محموم ومهما ضاقت الأحوال أكيد قلم الظلم مكسور. ................................................................. فقدت ليالي الشوق نجيما زين صفاها وآنسا في غيابك أضناني الألم فقدت للأيام مذاق أرجع بالزمن مرة وأتذكر حكايتي معاك كان عمر قصتنا ساعة يا محمود .. ما أقصرها من قصة لكن سنينا مشت سريع زي الزمن كان بنحرف عشرة سنين ممزوجة بي أحرف وفاء ما أجملا.. نعمل شنو إلا الحصل بيناتنا ما نفذ القدر ما قلت في ساعة الوداع إنت النجوم وايدينا ما بتحصلك نحنا ما درنا الفراق والله ما درنا الفراق البيهو جيت فاجأتنا ومهما يكون ذكراكا باقية وما بتهون والذكرى بتصبح أبدية لم تغب عنا أيها الحوت النبيل عنا بل ولدت فينا من جديد.. والعزاء لجميع (الحواتة) والشعب السوداني.. وندعو الله أن يتغمدك بواسع رحمته (ومحمود ينجو في الدارين). فبحق من جعل القلوب شوقاً وتحناناً تذوب ستظل في قلوبناً أبدا ما ترددت في صدرنا الأنفاس.. ولك منا حباً وفياً منبعثا من سويداء أفئدتنا، بقدر ما كنت لنا إلهاماً وقوة.. وستظل ذكراك وسيرتك العطرة تلهمنا وتلهم الأجيال القادمة.. ويبقى اسمك هو الغنا وتبقى سيرتك هي الكلام. عمار عبد المنعم خليفة and#1633;and#1639;/and#1633;/and#1634;and#1632;and#1633;and#1636; الخرطوم
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: محمود عبد العزيز أسمٌ وضاء في سماء السودان/عمار عبد المنعم خليفة (Re: صلاح جادات)
|
لا نقول إلا (( إنا لله وإنا إليه راجعون)) إنه احد عباقرة وادي عبقر ويكفي ما كتبه عنه الناس وما بكته به الناس من دموع فهو اسطورة من اساطير هذا العصر ولكن لا نزكيه على الله إذ نسال الله ان يتقبله قبولا حسنا وان يلهمنا ويلهم كل معجبيه ومعارفه واصدقاءه ومحبيه وعشاقه الصبر الجميل ،،، إنه فقد جلل لا يوصف ولكن هي حال الدنيا وكلنا سايرين في هذا الطريق ,, اللهم ارحمه واغفر له وتوفه مع الابرار ,, اللهم ارحمه بقدر ما اسعد وامتع وادخل الفرحة والنشوة في قلوبنا وقلوب كل من سمعه يا رب العالمين ... لك الشكر الجزيل اخي الباش مهندس بكري ابو بكر ونسال الله ان يتقبله بالاحسان ... فهو جرح لا يندمل ابدا مهما طالت الازمان ..
تحياتي : ياسر العيلفون
| |
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|