معلوم إن الدكتور الترابي قد مثل رقما صعبا في المعادلات السياسية في السودان، منذ صعوده في أوائل الستينات في القرن الماضي لقيادة الحركة الإسلامية السياسية، حتى رحيله عام 2016م، حيث كان زعيما سياسيا قاد الحركة الإسلامية عبر مسارات متعرجة تخللتها حالات من الصعود و الهبوط، و عبر مسيرته التاريخية أقام تحالفات سياسية مع قوي متعددة خلال فترات مختلفة، بدأ بتحالف مع القوي التقليدية لضرب الحزب الشيوعي السوداني أواخر الستينات، ثم تحالفه مع الجبهة الوطنية عقب انقلاب مايو 1969م، ثم المصالحة الوطنية عام 1977م مع الرئيس نميري، و دخول الحركة الإسلامية في عباءة الاتحاد الاشتراكي، ثم جاء الديمقراطية الثالثة و جدد التحالف مع حزب الأمة القومي، و أخيرا صناعة انقلاب 30 يونيو 1989م، حيث أطاح بالنظام الديمقراطي، كما للرجل اجتهادات فكرية، و مخرجات فقهية أثارت العديد من غبار الاختلاف وسط المجموعات الإسلامية، فالرجل لديه أثر باقي و مستمر، في المجتمع السوداني و الساحة السياسية، و سيظل مجال شد و جذب حتى بعد رحيله. و لكن يظل أثر إنقلاب الإنقاذ، هو الوشم الذي لا يمكن إزالته عن جسد الشعب السوداني، و هو الأثر الذي سوف يغطي الكثير من الأثار الأخرى، إن كانت أثارا إيجابية أو سلبية، خاصة إن النظام ما يزال باق في السلطة، و الحكم علي النظام لا يمكن ستبعاد عرابه عنه، فالخلاف الذي نشب في الإنقاذ بين قيادات الحركة الإسلامية، ليس خلافا جوهريا، باعد بين تيرين مختلفين في المرجعية الفكرية، إنما كان صراعا حول السلطة مع فئتين تلتقيان في مرجعيتيهما الفكرية، و أيضا تلتقيان في قناعتيهما في استمرارية دولة الحزب الواحد، و لكنهما تبعدان عن تقدير المصالح، إلي جانب إن التجربة نفسها كشفت ضعف التنظيم من الناحيتين الفكرية و التنظيمية، فالدكتور الترابي حتى رحيله لم يتحدث بصورة واضحة عن الدولة الديمقراطية، إنما كان يسوق مصطلحات سياسية جديدة علي الساحة السياسية، تحتاج إلي تعريفات علمية مفصلة، أخرها" النظام الخالف" الذي يجتهد تلاميذه في تعريف المصطلح، و كل يحاول أن يعرف حسب رؤيته الخاصة، مما يدل علي أن المصطلح لم يتبلور بصورة معرفية تم الاتفاق عليها من قبل تلاميذه، و لكي يمثل رؤية متكاملة للحزب، هذا التغبيش في المعرفة تحاول فئة أن توظفها لمصلحتها الذاتية، في ظل الخلاف الناشب عن الحوار الوطني و أفرازاته، و إن كانت مخرجات الدكتور، و خاصة التي تشير للنظام السياسي " التوالي و الخالف" تمثل حالة من حالات الهروب من قضية الحريات و الديمقراطية، ففكرة الحوار الوطني التي هي من بنات أفكار الديكتور الترابي لم تكن رؤية فكرية لخلق واقع جديد في المجتمع، يؤدي إلي توافق وطني، و تحول ديمقراطي يؤدي إلي تفكيك دولة الحزب إلي دولة التعددية السياسية، أنما الفكرة تولدت من المعضلة التي تعيشها الحركات السياسية الإسلامية في المنطقة، بعد ثورات الربيع العربي، حيث أصبحت مجال رفض في عدد من الدول، و أخرى جعلتها قوي متطرفة يجب استئصالها، هذا الصراع العنيف في المنطقة لا تبتعد عنه ظلال التجربة السودانية. فكانت التجربة السودانية حاضرة في كل الحوارات في البلدان التي تمت فيها الثورات، و التي كانت تنتظر، باعتبارها تمثل الرؤية المستقبلية لحكم الإسلام السياسي في المنطقة، فإذا كان هناك أثرا إيجابي للدكتور يحسب له، يبقي هو تطور الحركة الإسلامية السودانية و اتساعها، حتى وصولها إلي الحكم، و قد اسهم الترابي في تحويلها من حركة نخب، إلي حركة جماهيرية، تتمدد وسط الأحياء و المعاهد العاليا و الجامعات، و رغم هذا التطور في مسار الحركة الإسلامية، لا يمكن تجريد التجربة من ممارساتها غير الديمقراطية، و موقفها المناهض لقضية الحريات، و حالات القمع و انتهاك حقوق الإنسان التي مارستها و ما تزال تمارسها ضد مخالفي الرأي و قيادات و كوادر القوي السياسية الأخرى، و هي أيضا تظل أثرا باقيا كالوشم علي جسد الأمة، و لا يمكن أن تكون بمعزل عن تاريخ الدكتور الترابي السياسي. فالصراع الدائر داخل أروقة المؤتمر الشعبي بين قدامة المحاربين، المتطلعين للسلطة و المشاركة باعتبارها تمثل في اعتقادهم نواة لوحدة المؤتمرين، و عودة لحقوق مغتصبة، و تيار أخر متمسك بورقة الحريات باعتبارها أخر مخلفات الدكتور الترابي، و التي قال عنها إبراهيم محمود أن دستور 2005 الانتقالي يتضمن وثيقة للحقوق و الحريات أفضل من هذه الورقة، و لكن تظل أثرا باقيا تريد فئة أن توظفه في صراعها مع القيادات التاريخية. هذه المناوشات بين الجانبين لن يوقف التيار الراغب في المشاركة في السلطة من تحقيق أحلامه، هذا التيار الذي تغير خطابه السياسي من مسارات النقد للمؤتمر الوطني، إلي لوحات من الغزل الفاضح، كان يمهد منذ خطاب الوثبة للمشاركة في السلطة، لذلك لا يجادل كثيرا في قضايا الحريات، التي كانت بمثابة تكتيك و مناورة تمهيدا للمشاركة، أما التيار الأخر بعد ما كان مصرا علي أن يوضع ميثاق الحقوق والحريات منضدة البرلمان قبل تشكيل حكومة الوفاق الوطني، بدأ يبحث عن مبررات تجعله يسقط شرطه في إجازة الحريات قبل تشكيل الحكومة، مما يؤكد إن التيارات الإسلامية ليست مبدئية في قضايا الحقوق و الحريات. و إذا كانت تمثل لها مبدأ كانت اجتهدت فكريا في تمكينه في الواقع الاجتماعي، و لكن الظاهر إن التمكين يعني شيئا واحدا في مخيلة الإسلاميين. فالديمقراطية و نظام التعددية السياسي، لم يكن لها أثرا واضحا في فكر الدكتور الترابي، و الرجل لم يقدم أجتهادا فقهيا و فكريا في قضية الديمقراطية التعددية، إنما تحدث عن الحقوق و الحريات في نظام الحزب القائد، و مجموعة من الأحزاب المصنوعة التي يمكن تبديلها و تغييرها حسب الحاجة " التوالي و الخالف" فالدكتور الترابي حتى في رحلته أوائل التسعينات إلي الولايات المتحدة، حيث قدم محاضرة في الكونجرس، و عددا من المقابلات الصحفية، كان ناقدا لديمقراطية " ويست منيستر" و ديمقراطية الغرب، و رغم نقده للنظام الديمقراطي التعددي، لكنه لم يقدم بديلا مقنعا إنما جاء "بنظام التوالي" الذي كان عبارة عن حزب تماهي في الدولة، و أحزاب أخرى مصنوعة صناعة لكي تكمل الديكور السياسي، أي تدور في فلك هذا الحزب، ثم أنتهي نظام التوالي و صرف النظر عنه، بل وجه إليه نقدا في عدد من محاضراته، و بعد اقناع الرئيس بقضية الحوار الوطني، بدأ التفكير في إخراج مصطلح جديد يشغل به الساحة السياسية، فجاء " النظام الخالف" ليكون في مواجهة دعاة الديمقراطية التعددية، و لكن الدكتور رحل قبل أن يقدم اجتهادات فكرية تدعم المصطلح، فتحول إلي أداة صراع داخل أسوار المؤتمر الشعبي، لذلك لا يستطيع التيار المناهض للقيادات التاريخية أن يبحر كثيرا عكس التيار، يفرض شروطا لعملية المشاركة، هذه تذكرني بالتصريحات التي كان يطلقها أخوان مصر عقب الثورة التي اطاحت بنظام الرئيس حسني مبارك، حيث أكدوا إنهم لن ينافسوا في انتخابات رئاسة الجمهورية، و سوف يكرسوا وجودهم في البرلمان، و بعد ما فازوا في الانتخابات البرلمانية، نكصوا عن وعودهم، و خاضوا انتخابات الرئاسة، فالأخوان ضعاف أمام السلطة، فالتصريحات التي تطلقها قيادات المؤتمر الشعبي، و التي تسبق التشكيل الوزاري لا تعبر عن رؤيتهم الإستراتيجية، و صراعهم مع المؤتمر الوطني لم يكن صراع أفكار، أو صراع داخل مؤسسات البحث العلمي، إنما كان صراع سياسي، ميدانه السلطة، و سيظل الصراع حول السلطة، لا تتحكم فيه المبادئ و الاجتهادات الفقهية، أنما الرغبات و المصالح، فالقيادات التاريخية للحركة الإسلامية متمترسة في البرجماتية، فالأثر الذي تريد أن تغتفيه هو أثر السلطة، الأثر الذي يمحو كل الأثار الأخرى، لآن تأثيره مباشر علي الناس في حياتهم و مكابدتهم في معاشهم، و سوء الخدمات و معاناتهم اليومية. فالدكتور الترابي قدم ما مكنته معارفه أن يقدم من أفكار و مواقف سياسية، و رحل، و أصبحت التجربة أمام الناس، كل يقيمها حسب رؤيته، و مرجعيته الفكرية. و لكن السؤال هل تلاميذه يريدوا أن يسيروا علي ذات الطريق، بوقع الحافر علي الحافر، أم لديهم رؤى تجديدية تتجاوز المرحلة التاريخية، و لكن بعد الدراسة النقدية، أم إن أهواء السلطة سوف تكون أكثر جاذبة لهم، من القضايا الأخرى؟ و إن معركة الحريات تكشف ذلك. و نسأل الله حسن البصيرة. نشر في جريدة إيلاف الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة