|
ما اشبه الليلة بالبارحة: قصة قصيرة (دائرة الضَّوء البيضاء) ..ديسمبر 1965م بقلم عمر الحويج
|
ما اشبه الليلة بالبارحة: قصة قصيرة (دائرة الضَّوء البيضاء) ..ديسمبر 1965م بقلم: عمر الحويج
مهداة: إلى البطل ! ! ... الدون كيشـــوت ، ماسح ( الوجوه الثلاثة ) ، و.. القادمين، بطريقة جحافل فرسان.. الماضي رغم أنف عصر (لونا تسعة)، و.. الآخرين .. الكومبارس، مجهولي الاسم والهوية و .. كل شيء آخر.
***
ها.. يلا.. الديوم.. الديوم الشرقية.. الماشي، يا جماعة، يركب بسرعة. نداءات الكمساري.. والبص يتحرك، و...إبراهيم، يجري.. يقفز.. مقعد، ما زال شاغراً، يجلس عليه.. أنفاسه تعلو وتهبط.. في جنبه الأيسر، جرح ينزف.. النظارة الطبية، تكسرت.. بقاياها في جيب القميص.. هو الآخر تمزق بعضه.. و.. داخله هو، تمزق كله.. في يده اليمنى، بعض أعداد من صحف الصباح.. يلمح إحداها.. هناك أيضاً، يحصدون الناس في الشوارع.. والبص، يهتز، يتحرك.. إبراهيم، عيناه وارمتان، يبحث بهما في وجوه الركاب.. الركاب، كلهم واجمون.. لا أحد يتكلم.. في جانبه، فتاة تمزق ثوبها.. و.. ربما تمزق داخلها مثله، قطعاً، كانت هناك.. منظرها يقول ذلك...نظر إليها بإعزاز.. أو خيل إليه.. مد بصره، إلى المقعد المجاور.. عجوز تحتضن قفة.. تبرز من أعلاها، أوراق الملوخية الخضراء.. ربما تحملها، لأحفادها الصغار.. لتخضر بها قلوبهم.. خلف مقعد العجوز.. طفلان، لاهيان، يضحكان في مرح.. الرؤوس، متلاصقة في نشوة، والعيون التي تشع منها السعادة، مثبتة على شيء في حجر أحدهما.. يرفع عنقه ليرى.. إنه كتاب.. يتأكد أكثر.. إنه كتاب "المعرفة".. في المقعد البعيد، فتاة تضم إلى صدرها، لفة كبيرة من الورق.. في البداية، أحس أن محاولاته، تخمين ما بداخلها، قد تبوء بالفشل، لذلك ترك المحاولة.. كل هذا، وتلك الصور، لا تريد مبارحة مخيلته.. تناوشه، لتقفز، وتسيطر عليه.. وهو يهز رأسه بشده.. ربما لطردها.. ولكن، لا سبيل إلى ذلك.. السكين، التي تلمع مع أشعة الشمس، تملأ عليه خياله.. لا سبيل، الصور تتلاحق في ذهنه.. هو يجري، والسكين تجري تلاحقه.. صرخات الحرب تطارده.. هو كان أسرع.. طرف العصا، من ضربة الآخر، وسط ظهره، لا تهم كثيراً.. ولكن أحمد كانت السكين قريبة منه.. وصرخات الحرب تحاصره، من جميع الجهات.. هو لم ير أحمد، ولكنه سمعها... إنها الآن تملأ رأسه.. تشل عقله يا.. للرعب، يضغط على أذنيه، بكل قوته.. أحمد، يصرخ.. أحمد، يئن.. ولكن.. أحمد يصمت.. حتى صمته، إنه الآن يسمعه.. و.. ينطلق صوت، يهز أعماقه.. إنها صفارة، صفارة الكمساري.. ولكن، كلا.. إنها ليست كذلك.. إنها صرخات الحرب.. عيناه تبحلقان في ذلك الجسد، الذي سد بضخامته، باب البص. ما هذا؟؟، يغمض عينيه، يفتحهما.. الرجل الضخم، ذو اللحية الشعثاء.. والنظارات الصمغية، اللزجة، السيف والسكين والعصا، و...الشيء الذي يتدلى من خلف العنق.. النظرات الصمغية، اللزجة، تغير اتجاهها.. السيف يرتفع.. يتابع هو، خط سيره.. طرف السيف يلامسها: ثم بعدها، كل شيء يتحول.. إنه قرأها آلاف المرات.. في غدوِّه، وفي رواحه.. ولم تكن، غير ما كانت عليه.. ولكنها الآن.. الكلمة: التي تحكم كل شيء.. تتحول، السيف حولها: البصق.. محادثة السواق.. عدم النظافة!!.. و.. لماذا جاءت الآن.. تلك الذكرى.. هو لا يدري.. قفزت إلى ذهنه، بلا مقدمات.. الرجل ذو اللحية الشعثاء.. والنظرات الصمغية اللزجة.. وكومر البوليس.. و.. صبي العاشرة، منكسر النظرات.. ونساء الحي، ينظرن من خلف الأبواب.. بعضهن يبكينه، فقد كان واسطتهن في استجابة الدعوات.. هم عرفوا.. ولكن بعض نساء الحي يبكينه.. و.. شيء لزج.. ينتزعه من ذاته.. يحس به، يداعب أصابع قدمه.. ذلك الشيء اللزج، يعلو.. يصل منتصف القدم.. ينظر.. إنه.. إنه، البصاق.. يرفع بصره.. يقرأ: البصق.. السيف، يحول كل شيء، و.. الناس، تبصق.. تبصق، و.. قبل أن يفيق تماماً.. قشعريرة تسري في كامل جسده.. قدمه تتصلب.. شيء كالثعبان، يلتف حولها.. يده تنزل قليلاً.. قليلاً، يتحسس في بطء وفي خوف، ذلك الشيء.. إنه.. إنه، ويلتفت حيث العجوز.. والقفة الفارغة.. و.. لا شيء تخضر به، قلوب أحفادها.. ثم، ما هذا.. فزع، السطح كان أبيض.. البصاق كان أبيض.. الآن، اللون أخضر.. شيء أخضر، يغطي السطح.. يدقق النظر.. إنه، إنها حناء.. ولا وجود لِلَفّة الورق، التي كانت تضمها إلى صدرها.. تلك الفتاة، وإنما حلَّت محلها نظرات الحزن والأسى.. ربما للعرس، الذي ضاع.. و.. النظرات الصمغية اللزجة، تبحلق في الركاب:السيف والسكين والعصا و.. الشيء الذي يتدلى من خلف العنق.. النظرات الصمغية اللزجة، تتوقف بقسوة عند الطفلين.. آه.. إنها تتحول، بسرعة، فها هو كتاب "المعرفة " يتمزق.. يتمزق، وأوراقه تتناثر، تختلط مع البصاق.. البصاق.. الـ.. والناس تحادث السواق.. والسواق يلتفت حيث الناس، ويراه.. إنه هو.. الرجل ذو اللحية الشعثاء.. والبص يهتز، وعجلة القيادة تدور وتدور.. و.. الرجل ذو النظرات الصمغية اللزجة.. تركها تدور وحدها.. فهو يتحدث، ولكن ليس كالآخرين.. والعجلة تدور وتدور.. والبصاق يزداد ويزداد.. وحديث الناس يعلو ويعلو.. و.. "المعرفة".. والتي تخضر بها قلوب الأحفاد.. وحناء العرس، الذي ضاع، كلها تعوم.. تغرق.. تغرق.. وعجلة القيادة لا زالت تدور وتدور.. والبص يهتز، يترنح.. والسواق لا يلتفت إليه.. فهو، ما زال يتحدث.. ويتحدث، ولكن ليس كالآخرين.. وإنما للآخرين.. إبراهيم ينتفض.. يهز رأسه بشدة.. والصمت ما زال يعم الركاب.. لا أحد يشير إلى ما حدث.. وما زالت في يده اليمنى، بعض صحف الصباح.. هناك أيضاً يحصدون الناس في الشوارع.. يذكر أن أحمد قال له: إنه احتفظ بالأخيرة في المرة السابقة.. هو الآن سيحتفظ بهذه، إنها لن تكون الأخيرة، لمدة طويلة، هذه المرة.. أحس ببعض الراحة.. أغمض عينيه.. في بحر السواد الذي تمطى أمامه.. رأى، دائرة ضوء بيضاء.. ولكنه في الظلام، الدائرة تقترب.. وهو لا يزال في الظلام.. تقترب أكثر.. وهو يجاهد في الوصول إليها.. تقترب أكثر و.. حين، يجد نفسه، قد توسطها.. دائرة الضوء البيضاء.. يرى أحمد والآخرين، يلوحون له. ـ ها.. يلا.. النازل المحطة الجاية. يحسّ بنشوة الوصول.. ولكن ليس إلى المحطة.. وإنما إلى دائرة الضوء البيضاء.
|
|
|
|
|
|