|
ماذا تبقى من (المشروع الحضاري) سوى (دّيوث) ؟! عبد المنعم سليمان
|
عُشاق الأفلام الأمريكية يعرفون جيداً من هو المُخرج "ديفيد غريفيث" صاحب المدرسة السينمائية التي تقوم على مبدأ (الإنقاذ في اللحظة الأخيرة) ، حيث يجعل أبطالة ينجحون دائماً في إنقاذ العالم في الثانية الأخيرة من إنفجار (قنبلة مدمرة) مثلاً ، فعندما تكون الكاميرا مُثبتة على عداد القنبلة التي يتوقع انفجارها بعد ثوانٍ معدودة ، وفي لحظة تختلط فيها دقات قلب المشاهد بدقات ساعة القنبلة فيتصبب عرقه كما يتصبب عرق البطل الذي يحاول جاهداً نزع فتيل القنبلة. و بينما العداد المثبت بعناية على الشاشة ، يُشير إلى ثلاث ثوانٍ تفصل بين الحياة والموت ينجح بطل الفيلم في ابطال الفتيل وسط همهمات وزفير وشهيق وتهليل المشاهدين .
الغريب في الأمر إن أمثالي من عُشاق هذا النوع من الأفلام ، وحتى بعد أن أصبحت هذه الطريقة السينمائية مكرورة ومعتادة ، يظلون دائماً ، برغم صدمة اللقطة وعصبية اللحظة ، في انتظار الفيلم القادم لـ"غريفيث"، غير مهتمين بانحباس أنفاسهم كل مرة ، ولم لا ؟ فدائماً هنالك ثمة بطل مُنقذ يظهر في الثانية الأخيرة كي يفصل (السلك الأحمر) فيتوقف العداد وننجو من الانفجار الذي كان سيقضي علينا ، بحمد الله وبراعة المخرج .
شعرت بأنفاسي تنحبس وشممت رائحة الأدرينالين يخرج من بين مساماتي ، وانا أطالع ما أعلنته أمس منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) بوجود (ثلاثة ملايين) طفل سوداني خارج الدراسة ، إذ كشف ممثل المنظمة بالسودان عن أن أكثر من 50% من الأطفال بولايات درافور الخمس لا يذهبون إلى المدارس ، وان الحرب والنزاعات في مناطق مختلفة بالبلاد حرمت غالبية الأطفال من متابعة تحصيلهم الدراسي !
يا للحسرة ، ليست لعظم هذه المأساة وحسب ، بل لأن بلادنا تفتقد أي حل يلوح في الأفق لمثل هذه (القنابل المدمرة) التي لو قيست بمقياس (ريختر) لتواضعت أمامها أقصى قوة زلزالية تدميرية مسجلة ، إنها لمأساة لا حل لها ، مأساة تحتاج لعصا موسى ولبطل يأتي في الثواني الأخيرة حاملاً مقصه كي يقص (السلك الأحمر) من الأزرق ، وينقذنا بطريقة (غريفيث) السينمائية!
وتكتمل فصول الفيلم التراجيدي الذي تشهده بلادنا يومياً ، بالحالة التي تقبل بها السودانيون الخبر ! أكثر من نصف أطفال البلاد لا يتلقون تعليماً ، ولا تعليق ! ولا شيئ يحركنا ، وكأننا انتقلنا من الجمعة إلى السبت أو من الخريف إلى الشتاء ، مع ان أي حساب بسيط سيفضي بنا إلى أن (3) مليون طفل أمي الآن ، سيبلغ عددهم حوالي (9) ملايين على أقل تقدير بعد عشر سنوات ، أي أن حوالي ربع شباب البلاد سيكونون من الأميين وقتها . ولكم أن تتخيلوا إلى أي كارثة نحن مساقون؟
حقيقة لا أجد تفسيراً لهذا الصمت المريب فهل ماتت ضمائرنا الوطنية ؟ أم أن قلوبنا تعفنت وذواتنا خربت ، ونحن قعود ننتظر التغيير؟! ورحم الله سيد العارفين الصوفي "البسطامي" الذي حذرنا من عاقبة إنتظار الأمل المجاني الطويل ، قائلاً : (إياكم وطول الأمل ).
لست رومانسياً و لا إدعي وطنية أكثر من غيري ، أو شجاعة تفوق الآخرين، بل أنني غادرت البلاد وهربت منها خوفاً لا رغبة أو إغتراباً ، وأجد نفسي الآن في غاية الألم للحال الذي وصلت إليه وللمآل الذي ينتظرها ، فلم أتخيل يوماً ابني إلاّ وهو يمشي بحقيبته المدرسية وسط أقرانه ! ولا أرى أمراً يستحق أن نموت من أجله أكثر من توفير حياة كريمة لأبنائنا ، ولا توجد حياة كريمة في وطن يرمي بنصف أطفاله في ظلمات الجهل والتخلف والتشرد .. وطناً كهذا حري بنا أن نقرأ عليه ما تيسر لنا من آيات بينات .
وأكثر ما يحيرني وسط هذا الكم الهائل من الإحباط هو تمسك "عمر البشير" بالسلطة وتشبثه بها ، رغم أنه لم يستطع توفير أبسط مقومات الحياة لشعبه ! ولا أعرف أين النجاح والفلاح في حُكم فقراء وجهلة وأميين ، وكيف يباهي شخص بحكم وطن لم يستطع توفير التعليم والأمن لأكثر من نصف أطفاله؟
فهل يسوء هذا الرجل أنه تحول إلى ( دّيوث) لا ينافسه من عليٍّة القوم في كل التاريخ سوى "عبد الله بن جُدعان " أشهر ديوثي مكة في عهد الرسول الأعظم ، وحسب وصف "إبن كثير" له بانه كان يفتقد للمروءة والشرف ، لا يتردد في إغواء أهله وشعبه للعمل بهذه المهنة كي يعيشوا ، ومع ذلك كان منافقاً يدعي التديّن ، وكان يتاجر في البشر ويعتقهم أحياناً ليلحقهم بقبيلته وبذلك كان يوفر الإمتيازات والوظائف لأبناء قبيلته من جهة ، ومن جهة أخرى يحقق لنفسه ثراءا سريعاً من عائد تجارته وسمسرته في أهله ! فماذا تبقى بالله عليكم من (المشروع الحضاري) سوى (دّيوث) ؟!
mailto:[email protected]@gmail.com
|
|
|
|
|
|