|
لُعبة الكُرات الزُجاجية (2) /محمد يوسف
|
يقول هيرمان هيسى1: ما اردنا قوله عن شخصية نكهت وحياته بالتأكيد مألوفة كلياً أو جزئيا للعديد من أعضاء النظام، ولا سيما لاعبي " لعبة الكرات الزجاجية "، ولهذا السبب كتابنا ليس موجها إلى هذه الدائرة وحدها، لكن المقصود منه إستمالة القراء على نطاق أوسع. كتابنا لا يحتاج لمقدمة أو تعليق لاولئك داخل النظام. ولكن نود أيضا لحياة بطلنا وكتاباته أن تدرس خارج النظام، ونحن نواجه بالمهمة الصعبة إلى حد ما لتصديرالكتاب مع مقدمة موجزة ، للقارئ الغير معد، لمعنى وتاريخ " لعبة الكرات الزجاجية ". و نؤكد أن هذه المقدمة مخصصة فقط للاستهلاك العام ولا تدعى على الإطلاق توضيح الأسئلة التي يجري مناقشتها داخل النظام نفسه على المشاكل وتاريخ اللعبة. لم يحن الوقت لتقرير موضوعي حول هذا الموضوع اذ ما يزال في المستقبل البعيد. لا يجب أن يتوقع أحداً ، ان نسرد التاريخ الكامل ونظرية لعبة الكرات الزجاجية. المؤلفون ذو الرتب العالية والكفاءة اكثر مننا لن يكونوا قادرون على ذلك في الوقت الحاضر و هذا العمل، سيبقى حصرا للعصور القادمة، إذا كانت المصادر والمتطلبات الفكرية للمهمة لم تكن سابقا قد فقدت. السبيل الوحيد للتعرف على قواعد هذه اللعبة هو اتباع المنهج المحدد و الذي يتطلب سنوات عديدة وهذه القواعد، ولغة الإشارة والتدقيق النحوي للعبة، تشكل نوعا من لغة سرية بالغة التطور بالاعتماد على عدة علوم وفنون، وخصوصا الرياضيات والموسيقى وقادرة على التعبير عن إنشاء العلاقات المتبادلة بين مضمون ونتائج جميع التخصصات العلمية. لعبة الكرات الزجاجية، هي نسق للعب مع مجموع محتويات والقيم من ثقافتنا؛ وهي تلعب معهم، مثلا في العصور العظيمة للفنون كما يلعب رسام بالألوان على لوحة. كل الفَطَانَة والأفكار النبيلة والأعمال الفنية التي أنتجها الجنس البشري خلال فترات الإبداع و كل تلك الفترات اللاحقة للدراسة العلمية قد خفضت إلى مفاهيم وحولت إلى الملكية الفكرية – على جميع هذه القيم الفكرية الهائلة يلعب لاعب " لعبة الكرات الزجاجية " مثل عازف الأرغن على آلته. وهذه الآلة الموسيقية قد وصلت الى حد الكمال لا يمكن تصوره. نظريا هذه الآلة الموسيقية يمكنها استنساخ فى اللعبة كل الفكر في الكون. إغناء أو تَدْعِيم لغة اللعبة بإضافات لمحتويات جديدة تخضع الى ظبط دقيق من إدارة اللعبة. في المقابل، داخل هذه البنية الثابتة، أو أن تتقيد بفكرنا ومفهومنا داخل هذا الجهاز العملاق المعقد، هناك عالم من الإحتمالات والتوليفات متوفر للافراد الذين يشاركون في اللعبة. و من الصعب وجود اثنين من أصل آلاف لعبة تشبه بعضها البعض. ولو حدث أن اثنين من اللاعبين اختارا بدقة نفس التشكيلة من المواضيع، هذه الألعاب الإثنتان ربما تقدما شكلا مختلف تماما وتشغيل دورة مختلفة، اعتماداً على صفات العقل والمزاج وبراعة اللاعبين. كيف يرغب المؤرخ وضع اصول " لعبة الكرات الزجاجية "، هي مسألة اختيار شخصي. ككل فكرة عظيمة، لا توجد لها بداية بدلاً من ذلك، كانت دائماً موجودة، على الأقل فكرتها.. وهناك تلميحات لها في فيثاغورس (Pythagoras) ، على سبيل المثال، ومن ثم بين الدوائر "الغنوسية الهليني" (Hellenistic Gnostic circles) في فترة الحضارة الكلاسيكية. أننا نجدها بين الصينية القديمة، ثم مرة أخرى في ذروة فترات عدة للثقافة العربية- بربري-مغربي (Arabic-Moorish culture) ؛ ويؤدي المسار الى ما قبل التاريخ عن طريق المدرسية – فلسفة المدرسة - والنزعة الإنسانية الى الأكاديميات لعلماء الرياضيات في القرنين السابع عشر والثامن عشر و إلى فلسفات الرومانسية والرونية الهذياني. قد تجسدت في "لعبة الكرات الزجاجية"، كل حركة العقل نحو الهدف المثالي الى التقارب بين التخصصات أكثر تحرراً، كل جهد نحو المصالحة بين العلم والفن أو العلم والدين. ولا شك أن الرجال مثل أبيلارد وليبنيز وهيغل كانوا ملمين بحلم التقاط عالم الذكاء في نظم متحدة المركز، وإقران الجمال الحي للفكر والفن بتعبير سحري للعلوم. في ذاك العصر الموسيقى والرياضيات في نفس الوقت تقريبا ارتقتا الى مرتفعات كلاسيكية، وفي هذا النهج وإِخْصابٌ مُتَصالِب بين التخصصات الإثنين حدث كثيرا. وقبل قرنين فإننا نجد في نيكولاس إشارة الى جمل في نفس المعنى مثل: "العقل يكيف نفسه لإمكانيات بغية قياس كل شيء في وضع إمكانات، وعلى الضرورة المطلقة لقياس كل شيء بطريقة الوحدة والبساطة كما يفعل الله، ولضرورة العلاقة بغية قياس كل شيء فيما يتعلق بطبيعته المميزة؛ وأخيراً، تكيف نفسها لإمكانات معينة بغية قياس كل شيء فيما يتعلق بوجودها. ضف إلى ذلك، العقل أيضا تدابير رمزية، وعلى سبيل المقارنة، عندما تستخدم الأرقام والأشكال الهندسية، وتساوي بين أمور أخرى معها." أفكار نيكولاس كادت توحي لنا " لعبة الكرات الزجاجية "، أو تقابلها وتنبع من فرع للخيال مماثل الذي يقوم به الفكر الذي يحدثه في لعبة الكرات الزجاجية. يمكن العثور على الكثير من أصداء مماثلة في كتاباته. متعته في الرياضيات أيضا، وفرحته ومهارته في استخدام التركيبات والبديهيات من هندسة إقليدية لتوضيح المفاهيم اللاهوتية والفلسفية، وبالمثل تبدو جداً قريبة لعقلية اللعبة. وإننا نشتبه، رغم أننا لا يمكن أن تثبت ذلك، أن فكرة اللعبة، شغلت عقول الموسيقيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والذين قامت مؤلفاتهم الموسيقية على تخمينات رياضية. وهناك في الأدبيات القديمة نصادف أساطير الألعاب الحكيمة والغامضة التي قام بها العلماء أو الرهبان وهذه قد تتخذ شكل الشطرنج حيث القطع والمربعات لها معاني سرية بالإضافة إلى وظائفها المعتادة. منذ العصور القديمة من الصين إلى أساطير الإغريق نجد مفهوم للحياة المثالية، السماوية، للبشر تحت هيمنة الموسيقى. لعبة الكرات الزجاجية مرتبطة بهذه الطائفة من الموسيقى. " يقدم كاتبنا، سرداً موجزاً للمراحل الأكثر أهميه لهذه الحقبه من التاريخ. ويقول: بدايات الحركة الفكرية والتي تمخضت، ضمن أشياء أخرى كثيرة، إنشاء النظام و " لعبة الكرات الزجاجية " نفسها، تعود إلى فترة والتي يسميها بلينيوس زيجينهالس (Plinius Ziegenhalss) ، المؤرخ للأدب، يشار اليها بعصر فيويليتون ) (Feuilleton . هذه العلامات جميلة، ولكن خطيرة؛ أنها تغرينا دائماً إلى طريقة عرض متحيزا للحقبة المذكورة. وحقيقة الأمر عصر فيويليتون بأي حال من الأحوال؛ لم يكن غير متحضر. ولكن إذا صدقنا زيجينهالس، ذلك العصر يبدو أنه كان له فقط فكرة ضبابية بماذا يفعل بالثقافة. أو بدلاً من ذلك، أنها لا تعرف كيفية تعيين الثقافة فى مكانها الصحيح داخل الحياة الاقتصاد والأمة. كي نكون صرحاء، نحن حقا لا نعلم الكثير عن تلك الحقبة، حتى ولو انها التربة التى نمت فيها كل ما يميز حياتنا الثقافية اليوم. وفقا لما ذكره زيجينهالس، كانت حقبة "البرجوازية" و نزعة غير مكبلة بالفردية. ويبدو أن الحياة الفكرية في أوروبا منذ نهاية العصور الوسطى، تطورت على طول خطين رئيسيين، الأول هو تحرير الفكر والمعتقد من سطوة السلطات وعمليا هذا يعني النضال العقلي، الذي انتصر ونال استقلاله، ضد هيمنة الكنيسة الرومانيةو من ناحية أخرى، كان الاتجاه الثاني، بحثاً عن وسيلة لإضفاء الشرعية على هذه الحرية، لسلطة جديدة وكافية وناشئة من العقل. ربما نعمم ونقول أن العقل قد فاز بصفة عامة في هذه المعركة الغريبة فى كثير من الأحيان متناقضة لهدفين أساسا على خلاف مع بعضها البعض. هل كان هذا الكسب يستحق كل الضحايا والتى لا حصر لها؟ هل الأساس الحالي لحياة العقل، تطور بشكل كاف ويرجح أن يدوم طويلاً، لتبرير التضحيات وكل المعاناة والتشنجات ومحاكمات تكفيرهم، والحرق على الأوتاد، والعديد من "العباقرة" مصيرهم كان الجنون أو الانتحار؟ التاريخ كما حدث. اذا كان جيدا أو إذا كان من الأفضل عدم حدوثه، أو إذا كان ينبغي أننا سوف أو سوف لا نعرف أن كان له "معنى" – كل هذا لا يهم. ذلك النضال من أجل "حرية" الذكاء البشري قد "حدث"، و خلال حقبة فيويليتون، البشر جاءو لكي يتمتعو بدرجة عالية من الحرية الفكرية، أكثر من مما يتحملون و حينما أطاحوا بوصاية الكنيسة تماما، والدولة جزئيا، لم ينجحوا في صياغة قانون يمكن أن يحترم و سلطة جديدة شرعية. زيجينهالس سرد بعض ) الأمثلة المدهشة من الانحطاط في الفكر خلال تلك الفترة. ) يجب أن نعترف بأن لا نستطيع تقديم تعريف لا لبس فيه لتلك المنتجات التي تاخذ الحقبة اسمها، فيويليتونس و يبدو أنها قد شكلت قسما مشهورا من الصحف اليومية، وأنتجت بالملايين، وكانت مصدرا رئيسيا لغذاء عقلية القارئ وحاجته للثقافة. زيجينهالس، إدعي أن العديد من هذه القطع غير مفهومة حتى أنه يمكن عرضها فقط كسخرية من جانب كاتبيها. أن هذه المواد المصنعة في الواقع تحتوي على كمية من المفارقة والسخرية الذاتية التي لا يمكن أن تفهم. منتجو هذه التوافه كانت في بعض الحالات مرطبتون بموظفي الصحف؛ وفي حالات أخرى كانوا نساخ. وكثيراً ما يتمتعون به، عنوان عالى الصدى مثل "الكاتب"، ولكن الكثير منهم يبدو ينتمي إلى فئة الباحث و عدد غير قليل من أساتذة الجامعات الشهيرة. وكانت من بين المواضيع المفضلة لمثل هذه المقالات، الحكايات المأخوذة من حياة أو المراسلات الشهيرة للرجال والنساء. كانت تحمل عناوين مثل "فريدريش نيتشه وأزياء للمرأة لعام 1871 ،" أو "الأطباق المفضلة لروسيني الملحن"، أو "دور ###### صغير فى حياة المومس"، وهكذا. نوع مادة مشهورة أخرى كان قطع خلفية تاريخية عن ' الحديث يجري عن بين الميسورين، مثل "الحلم حول صناعة الذهب عبر القرون،") ( أو "التجارب الفيزيائية-الكيميائية في التأثير على الطقس، ومئات من مواضيع مماثلة. عندما ننظر الى العناوين التى يستشهد بها زيجينهالس، فإننا نشعر بمفاجأة أن هناك قَوْم يهضمون هكذا ما قيل وقال لِلقراءة اليومية ؛ ولكن ما يُدْهِشنا أكثر هو أن المؤلفين ذو التعليم اللائق أن يساعدوا على الإستهلاك العملاق للسخرية الغريبة الفارغة.
انظر سيرته الذاتية في كتابنا " قراءة في كتابات هيرمان هيسى الجزء الأول" ISBN:978-1-4685-8339-7(sc), ISBN:978-1-4685-8340-3(e) يتبع محمد يوسف mailto:[email protected]@yahoo.com
|
|
|
|
|
|