|
لن أنسى تلك الدمعة.. ولا الإبتسامة! بقلم هاشم كرار
|
لا تزال دمعةُ الأستاذ عبدالله الفكي، تهزني.
كان تلك في العام الماضي، وهو يهديني سفرا، هو الأجمل والأخطر، في تاريخ السودان، عكف على كتابته متضمنا مئات الوثائق، عدة أعوام.. في نوع غريب من المثابرة، والحزن والفرح، معا.
كان همُ الأستاذ عبدالله الفكي، أن ينصف مفكرا سودانيا، لم ينصفه أدعياء الفكر والشهامة والمروءة، بل تمادوا في كيد فضّاح لتشويه أفكاره، وآرائه، ومواقفه.. وتمادوا في مخاصمته، والحشد ضده إلى أن أدين بتهمة الردة، ومن ثم ساقوه- وهو في السادسة والسبعين- إلى حبل المشنقة في 18 يناير من العام 1985 ، وهم يهللون!
إعتلي المشنقة. ( ملص) بهدوء غريب مركوبه الأبيض البسيط. مسح رجليه- أي منهما بالأخرى. لقد أراد أن ينفض عن جسده أي ذرة من ذرات الدنيا، وهو الذي مقبل على مقام عظيم. حين إلتف الحبلُ على عنقه، تبسّم في وجوه خصومه والهتيفة. كانت ابتسامته تلك، هى الوحيدة التي تضوأت في تلك الجمعة المشهودة. كان لسان حاله يقول: الهم أغفر لأعدائي، إنهم لا يعلمون ماكنت فيه، وما أنا عليه من يقين."
سالت دمعة، دمعات، والأستاذ عبدالله الفكي يهديني ذلك السفر.
اكثر مايسيّل دموع الرجال الظلمُ.. والرجالُ الأكابرُ تسيل دموعهم، وهم يشاهدون الظلم يطال الأبرياء، أو يقرأون. آآآه، ما أحر دمعات عبدالله، وهو الذي شاهد وقرأ وتبيّن فداحة الظلم الذي طال ذلك المفكر الإسلامي: الأستاذ محمود محمد طه.
كان أعداؤه- وهم يكيدون كيدا- يبترون عباراته، ويخرجونها- بالتالي- عن السياق المحكم.. وكانوا يتقولون على الرجل بما لم يقله، للعامة، وكانوا يحرضون عليه المؤسسات الدينية.. وحين استبد بالرئيس نميري هوسُ انه إمام المسلمين ومجدد دين الله لمئوية جديدة- وهو الهوس الذي زرعه فيه رجال يمتطون الدين للدنيا-أوعزوا له بوجوب قتله، فانضم هو بذلك إلى الكائدين، وإلى الذين يبترون عبارات الرجل، ويحرفون الكلم!
كانت المعجزة الحقيقية- كما يقول الأستاذ طه- هى في الفكر، الذي يستطيع أن يفلق الشعرة الواحدة فلقتين، ويستطيع أن يميّز بينهما" لكن حين أهلك شعب السودان نظام النميري في ثورة شعبية اندلعت بعد ستة وسبعين يوما، من يوم المشنقة التي طقطقت فقرات عنق الفكر، ربط الكثيرون بين هذه الستة وسبعين يوما تلك، وبين عمر الرجل، وهو يبتسم على الحبل المشدود!
هزتني دمعة الأستاذ عبدالله، غير اني لملمتُ أطراف تماسكي، ورحت أقول له: ابتسم يارجل.. انت كمثقف أنصفت مفكرا، ظلمه رجال دين ومثقفون في زمن خوؤن.. لقد أرحت ضميرك، ولئن كان الظلم ظلمات، فإنك بهذا السفر، لم تلعن الإثنين فقط، وإنما عدلت، وأوقدت شمعة.. شمعات.. والله متم نوره ولو كره الكافرون.
مسح الأستاذ عبدالله دمعته.. مسح عن عن ملامحه كل تعب السنين، ومضى.
ظللتُ أتابعه، إلى ان توارى وراء باب فيلته، وأنا أقول في سري: هذا هو الرجل الحر.. هذا هو المثقف.. هذا هو المثقف الحقيقي.
كلام الناس مكتبة بقلم نورالدين مدني
|
|
|
|
|
|