|
لماذا يتطرف أبناؤنا؟
|
05:37 AM Jul, 20 2015 سودانيز اون لاين أحمد عثمان عمر- مكتبتى فى سودانيزاونلاين
السؤال مؤرق و الإجابة معقدة ، ومحاولة تبسيطها و نسبتها إلى عامل واحد غير مجدية بل ضارة وذات عواقب وخيمة. فبدون إلقاء نظرة شاملة على الواقع الإجتماعي و الإقتصادي و الثقافي و النفس إجتماعي، لا يمكن الوصول لإجابة مبدئية حول الأسباب التي تقود لنجاح التطرف في تجنيد أبنائنا. إذ أن القول بأن الفقر هو سبب التطرف مثلاً لا يشرح حالة إنضمام أبناء الأسر الموسرة لتنظيم كداعش ، كما أن القول بأن ظروف المجتمعات العربية و الإسلامية الإقتصادية و حدها تدفع الشباب للتطرف، لا يفسر إنضمام أبناء النخبة من المغتربين في أوروبا لنفس التنظيم. و الحديث التطهري الذي يعفي المجتمع من وزر هذه المسألة ويرميها برمتها على كاهل الأسر التي فشلت في تربية أبنائها، يوغل في الهروب من مواجهة المشكلة و لا يقدم تفسيراً يصلح أساساً لتقديم معالجة لأنه ببساطة لا يشرح ماهية هذا الخلل في التربية و لا يقدم تصوراً للتربية السليمة. و نحن لا ندعي بأننا في هذه العجالة سوف نقدم تحليلاً شاملاً أو إجابة نهائية عن السؤال المطروح، و لكننا سوف نجتهد في تحريك ساكن الحوار و راكده حول هذه المسألة شديدة الأهمية. و في تقديرنا أن تجنيد الشباب من قبل التنظيمات المتطرفة ، سهله مؤخراً إنتشار الإسلام السياسي الذي عمق أزمة الأمن الفكري التي سمحت إبتداءاً بظهوره و إنتشاره. فأمن المجتمع الفكري يتعزز دائماً بالتعددية الفكرية و قبول الآخر و إتساع دائرة النقد التي تكرس العقلية النقدية، وتسمح ببناء و حدة فكر يبنى على القيم الإنسانية العامة و أهمها التسامح و قبول الآخر و إدارة الإختلاف الفكري بصورة سلمية. و هو لا يعني بأية حال أن ينتظم الناس جميعهم خلف فكرة واحدة أو أن تحملهم السلطة على قبول فكرها بالقوة. و بالنظر للمجتمعات العربية و الإسلامية، نجد أنها بصورة عامة، مجتمعات ضعيفة من حيث الأمن الفكري. فهي عاشت منذ زمن طويل و مازالت تعيش على الفكر الرسمي المفروض من قبل السلطة السياسية منذ بدايات العصور الإسلامية مروراً بفترة سيادة الفكر التقدمي بمدارسه المختلفة، و صولاً للإسلام السياسي و سيطرته الحالية و إنتشاره الذي تعرضنا لأسبابه في مقال سابق. و فكر الإسلام السياسي المفروض بقوة البندقية أو بقوة المال في زمان فقر و مسغبة، فشل في أن يلبي إحتياجات الواقع وفي أن يحل المشكلات العميقة التي تواجه المجتمعات العربية و الإسلامية، و لكنه نجح في تجريف الساحة الفكرية و السيطرة عليها ، فلم يعد هناك من سبيل للإحتجاج عليه إلا من داخله و العودة لتمثيل و اقع إنتاجه التاريخي ليصبح الفكر المسيطر و المسيطر عليه فكر ينتجه هذا الإسلام السياسي. ولأن الإسلام السياسي في السلطة منحاز لمحازبيه و زمرته بالضرورة لغياب المنهج العلمي في التعاطي مع الواقع من جهة و لأنه يمثل شرائح إجتماعية ليس لديها برنامج لمعالجة الأزمة من جهة ثانية، فإن ما ينتجه من فكر لا يتجاوز التعاطي الآيدلوجي مع المشاكل الواقعية التي تستدعي حلولاً لا تجدها عنده. فهو على المستوى السياسي مازال يطرح حاكمية الله و تطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً من سلطة الشعب و حقوق المواطنة أو يحاول التلفيق المستحيل بين الإثنين، و على مستوى الإقتصاد يراوح حول الإدعاء بأن المال مال الله و يكرس في الواقع ملكيته لعضويته و محازبيه ويكتفي بما يسمى الإقتصاد الإسلامي المكرس في البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامية التي تقوم بالنهب المشرعن. و لا طرح ثقافي له إذ أنه في الجوهر معاد للفنون و لمنتجات الفكر البشري الإنساني حتى و إن إدعى عكس ذلك. و بما أنه لا يسمح للرأي الآخر و الفكر الآخر بالوجود و االمثاقفة، ينتج من داخله فكر ناقد له محتج على تزييفه للفكرة المثالية التي طرحها على مستوى خطابه السياسي، ويخرجه من دائرة هذه الفكرة و يخرج من تبعه بالمشاركة و العون حتى و إن كان هذا العون سكوتاً. و إخراج الإسلام السياسي من دائرة الفكرة يعني بالحتم تكفيره و تكفير المجتمع الواقع تحت رحمته . فالحاصل هو أن الإسلام السياسي الذي يدعي التحديث، يقوم بإستدعاء الماضي لتبرير مصالحه الإجتماعية و الإقتصادية الآنية و الحاضرة بغطاء ديني فيعطي ممارساته أوصافاً مبررة بنصوص خارج سياقها التاريخي يطوعها لتناسب واقع الحال، و معارضته المتطرفة تسعى لإستدعاء التاريخ كما هو ليحكم بنصوصه الواقع الراهن المغاير و المختلف بحشره حشراً داخل تلك النصوص. و لذلك نجد الإسلام السياسي مدعي التحديث يسعى لخلق مؤسسات شبيهة بمؤسسات اليوم لتكون بديلة لها كالبنوك الإسلامية بإستخدام باب الحيل الشرعية، في حين أن الإسلام الإحتجاجي لا يقبل الإبتداع و ينغلق داخل النص حتى و إن كان مستحيل التطبيق. الأول يفتح مجالاً لنشاط المرأة في المجتمع و الثاني يعيد التاريخ لمرحلة السبي و بيع النساء كرقيق جنسي. كذلك يسمح الأول بإعمال العقل التبريري الذي يجتهد في إستدخال الحاضر في جلباب الماضي، و الثاني لا يجهد نفسه و لا يستخدم عقله بل يبحث عن نص أو فعل لتطبيقه كما حدث في القرون الماضية. و لهذا يظهر الثاني بصورة مبدئية و مصداقية أكبر من الأول، خصوصاً و أن مرجعية الطرفين واحدة و هدفهما واحد هو إقامة خلافة على هدي النبوة كما يزعمون. و لهذا يصبح التطرف الإحتجاجي أكثر جاذبية للشباب من التلفيق الذي يقدمه الإسلام السياسي مدعي التحديث. و المشكلة بالتالي تكمن في القناعة الموجودة لدى الشباب حول خلافة وهمية تنشر العدل و ترفع الظلم و تعيد الأمة الإسلامية لسابق أمجادها، وهذا هو الإساس الذي يبني عليه الإسلام السياسي دعواه الكاذبة و المضللة و المدمرة لمجتمعاته. فالشباب هش و ضعيف فكرياً لأن المجتمعات الإسلامية تحقنه و منذ قرون بصورة وهمية للخلافة الإسلامية، و تصورها له على أساس أنها دولة العدل المطلق و تخرجها من سياقها التاريخي بجعلها دولة صالحة لكل زمان و مكان. و هذا أمر تقوم عليه المدرسة و المسجد و الأجهزة الإعلامية و كل المؤسسات التي تعمل على إنتاج الوعي و تكرس الأمن الفكري. فهذه المؤسسات لا تذكر المشكلات العميقة التي إعترضت سبيل هذه الخلافة. فهي لا تذكر شيئاً عن خلاف سقيفة بني ساعدة، و لا تخبر المتلقي شيئاً عن الخلاف حول آية الصدقة و تأخذ بتفسير الخليفة الأول حيث بداية حلقة التكفير الجهنمية لأسباب سياسية إقتصادية، و لا تقول تحليلاً منطقياً عن الفتنة الكبرى، ولا عن موت عشرة آلاف مسلم في موقعة الجمل، و لا تحليلاً سياسياً لموقعة صفين، و لا تشرح كيف كانت خلافة يزيد بن معاوية جنة للمسلمين. كذلك لا توضح كيف تسنى لعمر بن سعد ابن وقاص قيادة الجيش الذي قتل الحسين، و لا تقول كلمة حول مقاتل الطالبيين منذ تسميم الحسن، و لا كيف تسنى لمحمد بن أبي بكر قيادة قتلة الخليفة الثالث. كما أنها ليس لديها ما تقوله حول إمبراطورية بني عثمان التركية الإستعمارية التي قهرت المسلمين و احتلت ديارهم و سامتهم سوء العذاب، و كيف تكون خلافة يريد حزب التحرير مثلاً إستعادتها، بل كيف تكون دولة للعدل بالأساس. هذه الخلافة على نهج النبوة المزعومة و التي ستنشر العدل، لا أحد في المؤسسات المذكورة أعلاه يشغل نفسه بتوضيح كيف نشرت العدل في الماضي. إذ لا أحد يشغل نفسه بتوضيح كيف كان عدلها حين نصبت زياد ابن أبيه ومن بعده الحجاج الثقفي ولاة على العراق. و كيف كان عدل بني أمية في الشام التي تم فتحها منذ عهد الخليفة الثاني، ولا عدل بني العباس في بغداد طوال هذه السنوات من حكم الفرد المستبد الذي يفعل ما يشاء بغير حساب. و بالطبع لا أحد يكلف نفسه بالحديث عن نسختها التركية الأخيرة التي علمت مجتمعاتنا الإعدام بالخاذوق، و أرهقت أهلنا بالضرائب الباهظة، وسلبت كل خيرات بلادنا و استعبدتنا لسنوات طويلة بالرغم من أننا مسلمون. و إذا قيل أن المقصود هو إعادة دولة المدينة أو دولة النبي الكريم كما تزعم بعض تنظيمات الإسلام السياسي، لماذا لم يستطع الجميع إقامة هذه الدولة أو إستعادتها طوال القرون الماضية؟ ماهي الأسباب التي منعت الأمويين و العباسيين و هم الأقرب إلى زمانها من بعثها و إعادتها؟ بل ماهي الأسباب التي دعت إلى تركها و التخلي عنها بالأساس؟ و هل زالت هذه الأسباب مجتمعة حتى تعود هذه الدولة الآن؟ و ماهي مقومات عودتها في غياب الظروف التاريخية التي نشأت فيها و في غياب النبي الكريم الذي كان يصل السماء بالأرض و غياب صحابته عليهم الرضوان؟. لا أحد يطرح مثل هذه الأسئلة المزعجة من المؤسسات السابق ذكرها و التي تتلاعب بعقول أبنائنا، و حين يطرحها غيرها لا تجد رداً عليها غير أن ترمي طارحها بالكفر و من ثم تنسل لتدمر بعقول أجيالنا. هذا المثال الوهمي غير الواقعي الذي يتم تسويقه للخلافة الإسلامية بتسويق إيجابياتها و السكوت عن سلبياتها، يعطي دافعاً كبيراً و حلماً مبهراً لشباب تمت مصادرة و اقعه و مستقبله و حقه في الحلم. إذ صادر الإستبداد السياسي حقوقه السياسية و دمر مرتكزات إقتصاده و أجهز على دولته الوطنية التي و لدت مأزومة حيث أفرغتها النخب من معناها بمصادرة حقوق المواطنة ، فأصبح السبيل الوحيد أمامه هو الهروب من هذه الدولة لمثال أكبر، يحقق أحلامه و يعيد له أمجاداً غابرة هي حتماً لن تعود. و لتحقيق هذا الحلم، لابد من البحث عن الوسيلة التي حققته تاريخياً و هي الجهاد. فالعقل المستلب غير القادر على إنتاج الفكر الإحتجاجي الجديد، ليس أمامه غير الإستلاف من الماضي و إعادة تمثيله بحذافيره لينتج مأسآته الخاصة في حاضر لا يحتمل مثل هذه الألاعيب. و مفهوم الجهاد الرسالي أو الرسولي، ملتبس تاريخياً بالفتوحات السياسية التي قام بها الخلفاء و أمراء المؤمنين. فالتاريخ الرسمي يعلم شبابنا أن فتح بلاد مابين النهرين و الشام كان جهاداً لنشر الإسلام، و هو نفس التاريخ الذي يقول أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، و لا يرى تناقضاً ألبتة في هذين الإدعاءين! و مالم يتم الإعتراف بأن هذه الحروب سياسية ذات أبعاد إقتصادية و أن جهاد الغزو هو جهاد لنشر الدعوة في جزيرة العرب و بناء دولة الرسول الكريم فقط، يصبح من الطبيعي أن يتبنى الشباب وسيلة الجهاد لبناء دولة الخلافة المثالية المتوهمة. فالجهاد لإخراج الناس من الظلمة إلى النور كما يدعى، أمر محفز لشباب غض لا فكر له، فهو يمنيه بإحدى الحسنيين الشهادة أو النصر و إقامة يوتبياه التي تحل جميع مشاكل العالم و تربط قيم السماء بالأرض كما يقول المخادعون و المتاجرون بالدين. بدون مواجهة الأوهام التي يتم تسويقها لأبنائنا و نقد ما يسمى بالخلافة و إيجاد مفهوم جديد دفاعي لا هجومي للجهاد و ربطه بسياقه التاريخي، وفي غياب المدارس العقلية و سيادة العقلية النقلية المتلقية لوعيها عن طريق التلقين، لا أمل في مواجهة حاسمة للتطرف، و لا إمكانية لهزيمة فكر التطرف في القريب العاجل. فغياب الأمن الفكري ، يدفع شبابنا لقبول هذه البضاعة الفاسدة، متوهماً أنها تشكل العلاج لمشاكل الفقر و الإفقار و الإستبداد السياسي و العطالة ، و أنها وسيلة لأن يسود العالم لا أن يعالج مشاكل مجتمعه فقط، فلماذا لا ينضم إليها؟ . المعركة بالأساس معركة أمن فكري ، مدخلها فضح أكذوبة و جود دولة مثالية بناها بشر (دولة الخلافة) و أنها صالحة لكل زمان مكان، و أنها تشكل حلاً سحرياً لكل المشكلات التي يواجهها المسلمون. إذ طالما طال السكوت على هذا الوهم و منعت مدارس التفكير العقلية الأخرى بإشهار سيف التكفير، سوف يستمر التطرف الفكر الوحيد القادر على الإحتجاج على فشل الإسلام السياسي، بإعتباره فكراً سهلاً و دائرياً يعفي من التفكير، يشكل زفرة للمخلوق المعذب، وفكراً لعالم بلا فكر. لسنا متفائلين و لا متشائمين، فالأمر ليس بسيطاً و لا سهلاً، و الصراع في الجبهة الفكرية و الآيدلوجية هو الأكثر مرارة و عنفاً ، و لا يمكن الإنتصار فيه دون إستصحاب العوامل الأخرى الإقتصادية و السياسية و السيكلوجيا الإجتماعية و ماتبقى من عناصر ثقافية. و لا شك أن أوان هذه المعركة قد آن، فهل نحن جاهزون؟.
|
|
|
|
|
|