1 بدأنا في هذه السلسلة من المقالات في الردِّ على مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم الذي نشره على عددٍ من المواقع الالكترونية في 11 يوليو 2018 بعنوان "تقرير المصير للجنوب وانفصاله: ولا جميلتنا" يعقّب فيه على مقالاتنا الخمسة بعنوان "مَاذا حَدَثَ لِكِتابِ الإسلاميين عن اتفاقيةِ نيفاشا؟" وقد كانت مقالاتنا الخمسة رداً على مقال الأستاذ خالد موسى دفع الله الذي نشره في 16 مايو عام 2017 (أي قبل أكثر من عام) على عددٍ من الصحف الالكترونية والورقيّة بعنوان "الإسلاميون وانفصال جنوب السودان." وقد بدأنا في ردّنا على د. عبد الله علي إبراهيم في المقال السابق بتوضيح ما شمل وارتكز عليه كتابنا "انفصال جنوب السودان – دور ومسئولية القوى السياسية الشمالية" (صدر عام 2015 من مركز أبحاث السودان بفيرفاكس بولاية غيرجينيا ويشمل على 908 صفحة) من أن الحركة الشعبية نجحت في انتزاع حق تقرير المصير من حكومة الإنقاذ والمعارضة في ذكاءٍ وحنكةٍ كبيرين، وأن ذلك لم يكن تنازلاً أو جميلاً من الأحزاب الشمالية. كما أوضحنا أن اللجوء إلى حق تقرير المصير كان نتيجة حتمية لغطرسة وفشل الأحزاب الشمالية في التعامل بجدّية مع قضية الجنوب، ورفضها بعنادٍ ولامسئولية لمطلب النظام الفيدرالي الذي كان غاية ما يتطلّع إليه الجنوبيون. 2 وقد شرحنا في المقال الأول هذا الفشل في التعامل بجدية مع مطلب الفيدرالية خلال فترة الحكم المدني الأولى (1954 – 1958) والتي تولى رئاسة الوزارة فيها مناصفةً السيدان إسماعيل الأزهري وعبد الله خليل. ثم شرحنا في المقال الثاني سياسة حكومة الفريق عبود والتي انبنت على الحل العسكري لفرض الاندماج الثقافي والديني واللغوي بين الشمال والجنوب، ومحاكمة كل من يطالب بنظام الفيدرالي لجنوب السودان. وقمنا في المقال الثالث بشرح ونقد سياسة حكومات الحكم المدني الثاني تجاه الجنوب ورفضها بشدةٍ وعنادٍ وغطرسةٍ لمطلب الفيدرالية خلال مؤتمر المائدة المستديرة الذي شاركت فيه، واتخذت ذلك القرار، كل الأحزاب الشمالية. سوف نقوم في هذا المقال بمناقشة اتفاقية أديس أبابا ومضمونها وأسباب فشلها، ونخلص إلى أن فشلها أصبح سلاحاً آخر للحركة الشعبية لتطالب وتنتزع حق تقرير المصير من الساسة الشماليين رغم أنفهم وعنفهم. 3 استولى العسكر بقيادة العقيد جعفر نميري على السلطة في 25 مايو عام 1969. كان واضحاً أن مشكلة الجنوب قد احتلت قائمة اهتمامات الحكومة الجديدة. فقد أشار العقيد جعفر نميري في بيانه الأول إلى هذه المشكلة، وإلى الحرب المتواصلة والمتصاعدة في الجنوب وضرورة إيقافها وإحلال السلام من خلال التفاوض. وفي يوم 9 يونيو عام 1969، أي بعد أسبوعين من الانقلاب، أصدرتْ الحكومة بياناً عن سياستها في الجنوب أطلقتْ عليه "بيان 9 يونيو." أوضح البيان عزم الحكومة على حلِّ مشكلة الجنوب سلمياً. وضع البيان مسئولية مشكلة الجنوب على الاستعمار البريطاني، وعلى الأحزاب السياسية الشمالية التي لم تتعامل مع المشكلة بجدّية، وعلى السياسيين الجنوبيين الذين تحالفوا معها. 4 اعترف البيان بالخلافات التاريخية والثقافية بين طرفي البلاد، وبحقِّ الجنوبيين في تنمية عاداتهم وتقاليدهم داخل إطار السودان الموحّد. وتضمّن البيان برنامج عملٍ لتطبيق الحكم الذاتي اشتمل على عفوٍ كاملٍ عن كل المشتركين في النزاع منذ عام 1955، ووضعِ خطةِ تنميةٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية للجنوب، وتعيين وزير لشئون الجنوب، ومجلس تخطيط لتنمية الجنوب، وتحديد ميزانية خاصة لهذا الغرض، وتدريب أبناء الجنوب للمشاركة في الحكم الذاتي. نادى البيان في ختامه الجنوبيين بإلقاء السلاح والعودة إلى السودان للانضمام إلى عملية السلام. 5 كان البيان مليئاً بالشعارات اليسارية الثورية من تحميل الامبريالية العالمية والاستعمار الحديث مسئولية الحرب، ولكنه كان شجاعاً في الاعتراف بالتباينات الثقافية والعرقية والدينية والتاريخية والاقتصادية بين الشمال والجنوب، وضرورة حلِّ المشكلة بالحوار. لم يشتمل البيان على عبارات متمردين أو إرهابيين أو خوارج أو خونة، وهي الصفات التي أطلقتها الحكومات السابقة على المحاربين الجنوبيين. وكان مثار الدهشة أن تتحدّث حكومة عسكرية عن حلٍّ سلمي لمشكلة الجنوب، مقارنةً بحكومات العهد المدني الثاني التي قادها السيد محمد أحمد محجوب والسيد الصادق المهدي، والتي اعتمدت الحل العسكري لمشكلة الجنوب. تمّ اتباع البيان بخطواتٍ عمليّة تضمّنت إنشاء وزارة لشئون الجنوب، وتعيين السيد جوزيف قرنق وزيراً لها. ولا بُدّ من التذكير أن الحزب الليبرالي كان قد طالب عام 1954 بإنشاء هذه الوزارة ولكنّ حكومات العهد المدني الأول رفضت هذا الطلب. 6 بدأت بعد ذلك اتصالاتٌ سرية بين الحكومة والقيادات السياسية للجنوبيين المرتبطة بالأنيانيا والتي أعادت تنظيم نفسها في "حركة تحرير جنوب السودان." أدّت تلك الاتصالات إلى لقاءاتٍ سرية بين الحكومة الجديدة وحركة تحرير جنوب السودان في لندن، ثم في أديس أبابا، وتحوّلت تلك الاجتماعات إلى مفاوضات بين الاثنين في بداية شهر فبراير عام 1972. وقد تمّ اختيار أديس أبابا مقرّاً للمفاوضات بمبادرة من الحكومة السودانية، قبلتها حركة تحرير جنوب السودان. قاد وفدَ السودان لهذه المفاوضات السيد أبيل ألير، وشمل الوفدُ الدكتور منصور خالد وزير الخارجية، الدكتور جعفر محمد علي بخيت وزير الحكم المحلي، الفريق الباقر أحمد وزير الداخلية، والسادة عبد الرحمن عبد الله وزير الخدمة العامة والإصلاح الإداري، وكمال أبشر، وميرغني سليمان. وقاد وفد حركة تحرير جنوب السودان السيد ازبوني منديري، وشمل السادة الدكتور لورنس وول، مادينق دي قرنق، فريدريك بريان مابوت، أوليفر البينو، انجيلو فوقا مورغان، الأب بول بوت، وجوب أدير دي جوك. وقد قامت الحكومة الإثيوبية ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي بدور الوسيط في هذه المفاوضات، ولعبوا دوراً إيجابياً أدّى إلى توقيع اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير عام 1972. وقد تمّت إجازة قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي (المُكوّن الأساسي للاتفاقية) في 3 مارس عام 1972، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في ذلك اليوم بعد التصديق عليها بواسطة العقيد جعفر نميري رئيس الجمهورية، والسيد جوزيف لاقو رئيس حركة تحرير جنوب السودان. وهكذا بعد قرابة ثلاثة أعوام من صدور بيان 9 يونيو عام 1969 تمّ التوصل لاتفاقٍ بين شمال السودان وجنوبه، وعاد السلام إلى جنوب السودان بعد 17 عامٍ من الحرب والموت والدمار. 7 تكوّنت اتفاقية أديس أبابا من ثلاثة أجزاء. كان الجزء الأول هو قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي الذي تمّت إجازته بواسطة الحكومة السودانية في 3 مارس عام 1972 بعد أن تمّ الاتفاق على مضمونه خلال المفاوضات التي انتهت في 27 فبراير. بالإضافة إلى مواده الأربعة وثلاثين، فقد اشتمل القانون أيضاً على ملحقين، اختصّ الأول بالحقوق الأساسية والحريات، والثاني على بنود الإيرادات. أما الجزء الثاني من الاتفاقية فقد اشتمل على اتفاقٍ بشأن وقف إطلاق النار، بينما تكوّن الجزء الثالث من أربع بروتوكولات (أو فصول) خاصة بالتنظيمات المؤقّتة، الأول بشأن التدابير الإدارية المؤقتة، والثاني خاص بقوات الشعب المسلحة في الإقليم الجنوبي، والثالث عن العفو العام والترتيبات القضائية، والرابع والأخير عن إعادة التوطين. 8 عرّف قانون الحكم الذاتي "الإقليم الجنوبي" بأنه يتكوّن من مديريات جنوب السودان الثلاثة، أعالي النيل وبحر الغزال والإستوائية، بحدودها القائمة في اليوم الأول من يناير عام 1956، وأيّة مناطق أخرى كانت جغرافياً وثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي على نحو ما قد يتقرّر عن طريق الاستفتاء. ورغم عدم ذكر منطقة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب بالاسم في الاتفاقية، إلا أنه كان مفهوماً للأطراف أن الإشارة في ذلك النص هي لمنطقة أبيي. وقد أكّدت ذلك الفهم بعض القرارات التي تمّ اتخاذها لاحقاً. أشار القانون إلى أن الإقليم الجنوبي يتمتّع بحقِّ الحكم الذاتي داخل نطاق السودان الموحّد، وتكون له أجهزة تشريعية وتنفيذية تمارس الاختصاصات والسلطات المضمّنة في القانون. أعلن القانونُ اللغةَ العربية اللغةَ الرسمية للسودان، واللغة الإنجليزية لغة رئيسية لإقليم جنوب السودان وذلك مع عدم المساس باستعمال أيّة لغة أو لغاتٍ أخرى قد تخدم ضرورة عملية في الإقليم، وأكّد على حقِّ الأقليات في استعمال لغاتها وتطوير ثقافاتها وعاداتها. 9 أنشأ القانون مجلس الشعب الإقليمي والذي يتمُّ انتخابه عن طريق الاقتراع السِرّي المباشر، ومنَحَه السلطات الكاملة للتشريع في المسائل المحلية لحفظ النظام العام والأمن الداخلي في الإقليم الجنوبي، وكذلك في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وعدّد القانون هذه المسائل بصورة تفصيلية. أنشأ القانون أيضاً المجلس التنفيذي العالي وأسند إليه السلطات التنفيذية التي يباشرها نيابةً عن رئيس الجمهورية. أوضح القانون أن اختيار رئيس المجلس التنفيذي العالي وعزله يتمُّ بواسطة رئيس الجمهورية بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي. أشار القانون كذلك إلى حق مجلس الشعب الإقليمي أن يطلب بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه، ولأسباب محدّدة تتعلّق بالمصلحة العامة، من رئيس الجمهورية إعفاء رئيس المجلس التنفيذي العالي، ويتعيّن على الرئيس الموافقة على مثل هذا الطلب. أوضحت المادة الأخيرة من القانون أنه لا يجوز تعديل الاتفاقية إلّا بأغلبية ثلاثة أرباع مجلس الشعب القومي، وموافقة ثلثي مواطني إقليم جنوب السودان في استفتاءٍ عام يُجرى في المديريات الجنوبية الثلاثة. 10 تضمّن القانون ملحقاً عن الحقوق والحريات الأساسية أوضح فيه أن السودانيين يتمتّعون بنفس الحقوق والواجبات والمساواة أمام القانون بغض النظر عن العرق أو الموطن أو اللغة أو الدين، وأن لكل المواطنين الحقّ في حرية الدين والفكر، ولهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية في العلن، وإنشاء المؤسسات الدينية وفقاً للقانون. اشتمل الجزء الثاني من اتفاقية أديس أبابا على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في الإقليم الجنوبي، وعلى تكوين لجنة مشتركة يؤول إليها تنفيذ كافة الموضوعات المتعلّقة بوقف إطلاق النار بما في ذلك تعويض اللاجئين. 11 واشتمل الجزء الثالث من اتفاقية أديس أبابا على مجموعة بروتوكولات (أو فصول) اختصّت بالتنظيمات الانتقالية المؤقّتة. تناول هذا الجزء تكوين القوات المسلحة في الإقليم الجنوبي (القيادة الجنوبية) من 12,000 ضابط وجندي يكون نصفهم من أبناء الإقليم، وأنشأ اللجنة العسكرية المشتركة من ضباطٍ شماليين وجنوبيين لاختيار الضباط والجنود الجنوبيين الذين سيتم استيعابهم في القوات المسلحة. وكان واضحاً أن الإشارة هنا إلى ضباط وجنود حركة تحرير جنوب السودان الذين سوف يتمُّ دمجهم في القوات المسلحة. 12 كانت اتفاقية أديس أبابا متوازنةً لحدٍ كبير. فقد حافظت على وحدة السودان، وأعطت أبناء الجنوب حقَّ حكمِ أنفسهم وتطوير لغاتهم وثقافتهم وعاداتهم واعترفت بدياناتهم. وكانت الاتفاقية شجاعةً فقد اعترفت لأول مرّة بالتباينات العرقية والدينية واللغوية والثقافية بين شعبي السودان، بدلاً من التصريحات والخطب الاستعلائية والاستخفافية التي وصفت إحداها الجنوب بأنه يعاني من فراغٍ ثقافي سيملؤه الإسلام والعروبة. 13 جعلت الاتفاقية الجنوب إقليماً واحداً كما طالب الجنوبيون، ولم يتم الإصرار على ثلاثة أقاليم كما فعل الشماليون في لجنة الاثني عشر بلا أسباب منطقية، وبعنادٍ وإصرارٍ غريبين. وحلّت الاتفاقية مسألة طريقة اختيار رئيس المجلس التنفيذي حلّاً وسطاً أعطى سلطة التعيين إلى رئيس الجمهورية بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي، بدلاً من تعيينه بواسطة الحكومة المركزية كما أصرّ الشماليون في لجنة الاثني عشر. واتّبعت الاتفاقية نفس الحل الوسط في مسألة حفظ الأمن في الجنوب بتكوين وحدة عسكرية مشتركة يتساوى في عددها الشماليون والجنوبيون، وتستوعب العناصر المسلّحة من حركة تحرير جنوب السودان، وتُسمّى القيادة الجنوبية. 14 غير أنه بعد أشهر قليلة من المصالحة الوطنية بين العقيد جعفر نميري وأحزاب الجبهة الوطنية المعارضة (الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي) عام 1977 قرّر العقيد نميري ألّا يكون استثناءً لمن سبقه من السياسيين الشماليين – مدنيين كانوا أم عسكريين – فيما يختصُّ بقضية جنوب السودان. قام العقيد نميري بنقض اتفاقه مع الجنوب، وأهدر في غطرسةٍ واستعلاء إنجازه الذي كان سيميّزه إلى الأبد عن بقية السياسيين الشماليين. 15 بدأ العقيد نميري نقض اتفاقية أديس أبابا بالتدخّل بصورةٍ سافرة في أعمال مجلس الشعب الإقليمي والمجلس التنفيذي العالي في الإقليم الجنوبي. أمر العقيد نميري السيد أبيل ألير عام 1978 بسحب ترشيحه لرئاسة المجلس التنفيذي ليحل محله السيد جوزيف لاقو، وتمّ له ذلك على مضضٍ من السيد أبيل ألير وأنصاره. واصل العقيد نميري تدخله وأبعد السيد كلمنت أمبورو من رئاسة مجلس الشعب الإقليمي، ثم قام فجأةً في أكتوبر عام 1980 بحلّ مجلس الشعب الإقليمي والمجلس التنفيذي واستبدل السيد جوزيف لاقو بالسيد قسم الله رصاص. كما قام العقيد نميري أيضاً بتعيين أعضاء المجلس التنفيذي وحكام المديريات الثلاثة بالإقليم الجنوبي. كان هذا خرقاً واضحاً لاتفاقية أديس أبابا التي قضت بأن يكون تعيين رئيس المجلس التنفيذي وعزله من اختصاصات رئيس الجمهورية، ولكن بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي. أوضح العقيد نميري أن تعيينه بنفسه أعضاء المجلس التنفيذي وحكام المديريات كان الغرض منه تهيئة المناخ السياسي لتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم. وهكذا دوت قنبلةٌ هائلة في ساحة اتفاقية أديس أبابا، وفي مجمل العلاقات بين الشمال والجنوب. 16 بدأت فكرة إعادة تقسيم الإقليم الجنوبي إلى أقاليم ثلاثة متطابقة جغرافياً مع مديريات أعالي النيل وبحر الغزال والإستوائية بعد أعوام قلائل من اتفاقية أديس أبابا. كان رأي بعض الساسة الجنوبيين من غير أبناء الدينكا أن هذا التقسيم سيقلّل من نفوذ أبناء الدينكا ويفتح الباب لأبناء القبائل الأخرى، خاصةً الصغيرة منها، للمشاركة في إدارة كلٍ من هذه الأقاليم الثلاث. فقبيلة الدينكا هي أكبر القبائل عدداً، وأكثرها ثراءً ونفوذاً في جنوب السودان. وقد أعطاها كبر حجمها العددي والمادي نفوذاً كبيرا في معظم أنحاء الجنوب، وهذا ما أدّى إلى الكثير من الاستياء والاحتجاجات من أبناء القبائل الأخرى خاصةً قبيلتي النوير والشلك. قاد فكرة تقسيم الإقليم الجنوبي في البداية السيد جوزيف لاقو بنفسه، فهو ينتمي إلى قبيلة المادي الصغيرة العدد. من الناحية الأخرى رأى العقيد نميري أن تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم سيعطيه فرصةً أكبر للسيطرة على الجنوب، وهو رأيٌ شاركه فيه حلفاؤه الجُدد في الجبهة الوطنية بأحزابها الثلاثة. 17 ورغم أن القيادات السياسية الجنوبية التي رفضت تقسيم الجنوب فازت في الانتخابات التي تمّت في بداية عام 1982، فقد تجاهل العقيد نميري نتيجة الانتخابات تلك، وواصل مخططه، وكبت صوت تلك القوى. تمّت اعتقالات لمعارضي التقسيم شملت رئيس مجلس الشعب الإقليمي السيد ماثيو أبور، ونائب رئيس المجلس التنفيذي السيد دول أشويل. أرسلت تلك التطورات، خصوصاً الاعتقالات، رسالةً واضحة إلى القادة السياسيين والشعب في جنوب السودان أن رئيس الجمهورية مصمّمٌ على التدخل في اختصاصات المؤسسات الدستورية الجنوبية، وعلى تقسيم الجنوب، ولا تهمه اتفاقية أديس أبابا ونصوصها وضوابطها. فقد نصّت الاتفاقية على أن مديريات بحر الغزال وأعالي النيل والإستوائية منطقة حكم ذاتي تعرف بالإقليم الجنوبي، ونصّت أيضاً، كما ذكرنا من قبل، أنه لا يجوز تعديل الاتفاقية إلّا بأغلبية ثلاثة أرباع مجلس الشعب وموافقة ثلثي مواطني إقليم جنوب السودان في استفتاء عام يجرى في المديريات الجنوبية الثلاثة. 18 رغم وضوح هذا النص فقد قام رئيس الجمهورية المشير جعفر نميري في 5 يونيو عام 1983 بإصدار الأمر الجمهوري رقم 1 لعام 1983 بإنشاء ثلاثة أقاليم في جنوب السودان تتطابق مع مديرياته الثلاثة، بدلاً عن الإقليم الواحد المُنشأ بموجب اتفاقية أديس أبابا لعام 1972. 19 كانت هناك تطوراتٌ أخرى ساهمت في تعقيد العلاقات بين الشمال والحنوب. فقد اعلنت شركة شيفرون الأمريكية عن اكتشاف كميات كبيرة من النفط عام 1978 في جنوب السودان. قرّرت الحكومة المركزية في البدء بناء مصفاة في مدينة بانتيو في الجنوب، ثم عدّلت الموقع إلى مدينة كوستي في الشمال، وأعلنت عن التخطيط لبناء خط أنابيب لنقل النفط إلى ميناء بورتسودان. إضافةً إلى هذا فإن الحكومة لم تتحدّث عن أيّة نسبةٍ من عائد النفط يتمُّ تخصيصها لجنوب السودان. أغضبت هذه القرارات السياسيين وشعب جنوب السودان الذين رأوا أن نفطهم أصبح بالكامل في قبضة الشمال. وقد ساهم النفط كثيراً في الحرب، ثم السلام، ثم الانفصال. ثم قررت حكومة نميري البدء في حفر قناة جونقلي رغم الرفض الواسع لذلك القرار في الجنوب. وقد خرجت عدة مظاهرات تصدّت لها الشرطة بالقوة وقتلت عدداً من المتظاهرين. نتج عن هذه القرارات ميلاد الحركة الشعبية واندلاع الحرب الأهلية الثانية. 20 وهكذا دخل العقيد نميري التاريخ من أوسعِ أبوابه بأن أصبح السياسي السوداني الذي أنهى الحرب الأهلية الأولى، ولكن بعد عشرة أعوامٍ أشعل الحرب الأهلية الثانية في السودان. غير أن سياسة العقيد نميري كانت امتداداً لسياسات الأحزاب الشمالية غير المسئولة تجاه قضية الجنوب. وكان تمزيق اتفاقية أديس أبابا هو تعبيرٌ آخر في غاية الوضوح لرفض الشمال لمطلب الجنوبيين إدارة شئونهم بأنفسهم من خلال النظام الفيدرالي أو حتى الحكم الذاتي الأقليمي. 21 وقد تواصلت تلك السياسات غير المسئولة إبان فترة الحكم المدني الثالثة التي ترأس حكوماتها الدكتور الجزولي دفع الله، ثم السيد الصادق المهدي. فقد رفض الحزب الاتحادي الديمقراطي (بسبب ابتزاز الحركة الإسلامية) المشاركة في لقاء كوكا دام بين الأحزاب الشمالية والحركة الشعبية في عام 1986. ورغم أن حزب الأمة قد شارك في ذلك اللقاء، إلا أنه عاد وتنصّل من إعلان كوكا دام. ثم قام السيد محمد عثمان الميرغني (رغم رفضه إعلان كوكا دام) بالتوقيع على اتفاقية الميرغني قرنق لعام 1988، والتي رفضها وقاومها حزب الأمة والحركة الإسلامية. وانتهت هاتان المحاولتان الأخيرتان لإبقاء السودان موحداً بانقلاب الحركة الإسلامية في يونيو عام 1989، وتحويل الحرب في الجنوب إلى "جهاد." 22 تجمّعت تلك الإخفاقات الكبيرة والكثيرة من الشمال وأدّت إلى رفع سقف مطالب الجنوبيين والمطالبة بحق تقرير المصير، وانتزاعه في حنكةٍ وذكاء، وفي عددٍ كبيرٍ من الاتفاقيات مع حكومة الإنقاذ والأحزاب المعارضة، كما سنوضّح في المقال القادم والأخير في هذه السلسلة من المقالات.
دكتور سلمان، شكراً لك على هذا العطاء الوطني الثّر، بحوث علمية موضوعية، تنير عقل كل وطني ومواطن ، وتفتح الطريق لقيام حركة وطنية مستقلة، مسلحة بالعلم والوعي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة