كثيرا ما نفتخر بمزايا نقول إننا نتفرد بها عن سائر شعوب الأرض ، وبالطبع هذه المزايا التي تدعو للفخر مزايا حميدة – وهي في معظمها معنوية كالطيبة والأمانة والشهامة ألخ .. لكن هذا التفرد ليس قاصراً على المزايا الحميدة فقط ، فهناك أشياء غير حميدة أيضا نتفرد بها ، تتصل بالمشهد العام والهيئة التي تبدو بها الأشياء في بلدنا ، الي تتمثل في المظهر الكالح والبدائية التي تجعل كل النتائج لأي عمل في حدها الأدنى . ما هذه الكلاحة التي تغلف حياتنا ؟ بداية من مأكلنا وملبسنا مرورا بشوارعنا ، مستشفياتنا ، مدارسنا وجامعاتنا ، مطاراتنا ، صناعاتنا ، أماكن عملنا ، أسواقنا ،وسائل مواصلاتنا ، أماكن ترفيهنا ، مطاعمنا ، حوانيتنا كل شيء يبدو علية الكلفتة والعشوائية . لماذا كل هذه الأشياء يبدو منظرها كالح لا يشبه ما نراه في سائر بلاد الدنيا عاليها وواطيها ؟ نشاهد في شاشة التلفاز مدن في دول من كل بلاد الدنيا ، من أوربا وأمريكا وأفريقيا وآسيا ، دول نامية ودول من العالم الأول وأخرى من العالم الثالث وما بينهما ، فيتملكنا شعور هو خليط من الدهشة والإحباط ، شوارع واسعة نظيفة ، واجهات محلات تتلألأ فيها الأنوار ، مباني متناسقة الألوان ، مستشفيات ترى وجهك في أرضياتها أسّرتها مفروشة بملاءات بيضاء بياض غير مخلوط باللون الرمادي أو "الأغبش " مطاعم نظيفة راقية يقوم بالخدمة فيها طاقم يرتدي زياً موحداً نظيفا ، وسائل مواصلات محترمة ، أسواق شوارعها خالية من الأوساخ ، الناس أشكالها نايرة وملابسهم ناصعة حتى إشارات المرور زاهية ولامعة ، الإندهاش سببه أن هذه المناظر المبهرة لا تقتصر على البلاد الغنية ، بل هي موجودة في بلاد لها إمكانيات أقل من بلادنا ، أما الإحباط ، فسببه المقارنة بين حالنا البائس وما نشاهده من بهاء وجمال في مدن تلك الدول ، فما سبب الكلاحة و" الغبشة " والبدائية التي تغلف حياتنا وتنعكس على وجوهنا وفي كل شيء حتى شاشات قنواتنا التلفزيونية لم تسلم منها ؟ هل يعود الأمر لظروف طبيعية لا يد لنا فيها مثل طبيعة الأرض أو المناخ وغيرها من ظواهر طبيعية قد تؤثر وتضفي تلك الكلاحة على المشهد ؟ أم أن الأمر يعود لتدني مكونات لأشياء التي نستخدمها ، والطريقة التي نصنع بها هذه الأشياء والتعامل معها ؟ أم لأننا نفتقد الذوق السليم . فالمؤسسات التي تُقدم فيها الخدمات كالمستشفيات وغيرها من منافذ هذه الخدمات ، دعونا نتأمل في شكل هذه المنافذ ومستوى الخدمة المقدمة ، والمنافع الموجودة كدورات المياه ، وأسّرة المرضى والغرف المخصصة للمرضى ومكاتب الأطباء ونقالات المرضى ، طريقة النظافة وغيرها ، هل سبب ذلك هو الفقر ؟ أم هو عدم المعرفة ؟ أم ذلك يعود لقدراتنا كبشر ، كأن تكون ملكة الإجادة فينا ضعيفة ، وأننا لا نجيد عمل الأشياء بسبب نقص التدريب علي الأعمال التي نقوم بها ؟ أم هي الللامبالاة والإهمال الناتج من عدم الرضا ؟ أم أن الأمر يتعلق بقصور في الفهم لبعض القيم الحضارية ، مثل النظام ، النظافة ، التجويد ألخ . ويبدو أن الأمر يرتبط بغياب مفاهيم حضارية عن السلوك الفردي و الجمعي ، هذا أولا ، فكثير مما أشرنا إليه من جماليات ومستوى عالي في تقديم الخدمات والتعامل مع الأشياء هو مظهر للرقي والذوق الحضاري ، في مقابل البدائية ، التي هي عكس ذلك ، فمثلا المسئولون عن تخطيط المدن والبلديات وغيرها من الأجهزة ذات الصلة إذا لم يكن لهم الحس الجمالي والفهم الحضاري لن يلتفتوا لهذه الأمور بما فيها النظافة التي يعتبرونها كماليات لا مكان لها في أولوياتهم ، فقد ترسخ في فهمهم إن مثل تلك الأشياء كخدمات الصرف الصحي وتشييد الطرق بمواصفات عالمية والإرتقاء بالخدمات كنظافة الشوارع ، والخدمات الصحية وتطوير البنية التحتية للمناطق الحضرية وغيرها مما يسهم في تكوين صورة كلية للمكان تعكس المستوى الحضاري ،لا وقت لهم لها لأنها ليست من الأولويات فهم يدّعون بأنهم مشغولون بأشياء أهم من ذلك ، وهذا الفهم حتى وإن توفرت فيه حسن النية كان من أسباب هذا المنظر البائس لمدننا ومعالمها ولمؤسساتنا الخدمية وغيرها ، لأن فاقد الشيْ لا يعطيه . ومن عاشوا في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث في ستينيات القرن الماضي يقولون أن شوارعها كانت تُغسل ، هنا يظهر الفرق بين المفاهيم الحضارية عن النظافة مثلا : غسل الشوارع مقابل عدم الإهتمام بتكدس القمامة في الطرق العامة والأحياء السكنية . والحقيقة هذا الفهم المعوج للتنمية ، والعقلية العشوائية يعود إنتشارها إلي الحقبة المايوية حيث ساد هوس بأن أولويات التنمية لا تسمح بأن نهتم بالكماليات ! وهكذا وجدنا كثير من الأشياء التي ذُكرت صنّفت من الترف الذي لا يليق ببلد يصارع من أجل التنمية وهو زعم حتى لو كان صادقا ومصحوبا بحسن النية كما أشرنا فإنه أفرغ التنمية من محتواها ، فالتنمية المزعومة التي لم تتحقق للريف ، أجدبت المدن من مظاهر الجمال تحت هذا الزعم .... ولو كانت هناك تنمية حقيقية للريف لما إزدحمت المدن للدرجة التي أعجزت بلدياتها من إزالة هذه الكلاحة من وجهها ، حيث تخلوالأحياء من الشوارع المسفلتة أو حتى المرصوفة بالحجارة أو الطوب كما نرى في أحياء قديمة في بعض البلاد ، فالشوارع الترابية هي السمة الغالبة في مدننا ، وتخيل ماتثيره من غبار وأثر ذلك على البيئة من حولها كالمباني السكنية والمحلات والصحة العامة ، ويزداد الأمر سواءاً عندما تسقط الأمطار ، وحتى الشوارع المسفلتة في المدن نجد أن الأتربة تحتل الجزء الأكبر فيها ، معظم الشوارع لا تعرف الإنارة ، وإذا وجدت فهي باهتة . نحن نعيش في عشوائيات نسميها مدن ، منازلنا محاطة بالقمامة والشوارع نصفها تحتله أنقاض البناء وجداول تصريف مياه الأمطار ، مستشفياتنا مثل مخيمات اللاجئين الذين هجرتهم الحروب والكوارث ، وقس على ذلك بقية الأشياء . هذه الكلاحة والبدائية التي نرزح فيها لن نتخلص منها إلا بوجود عقول منفتحة على قيم الحضارة الحديثة في مقام المسئولية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة