1 ناقشنا في المقالين السابقين من هذه السلسلةِ من المقالات دورَ النفط الذي تمّ اكتشافه عام 1978 في جنوب السودان في ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وبدء الحرب الأهلية الثانية عام 1983. كما ناقشنا دور النفط في زيادة ديون السودان الخارجية بصورةٍ كبيرة، بسبب استخدامه كضمانة لتلك القروض بواسطة حكومة جعفر نميري، ثم حكومة الإنقاذ. وأوضحنا أيضاً كيف أصبح النفط حافزاً للطرفين عام 2002 للعودة لطاولة التفاوض، وكيف ساهم في الوصول إلى بروتوكول مشاكوس في يوليو عام 2002، ثم بروتوكول اقتسام الثروة في يناير عام 2004، ومن بعدهما اتفاق السلام الشامل في يناير عام 2005. سوف نناقش في هذا المقال كيف تحوّل النفط إلى حافزٍ للانفصال لشعب جنوب السودان، وكيف قاد ضمن عوامل أخرى إلى التصويت بما يشبه الإجماع إلى الانفصال في استفتاء 9 يناير عام 2011. 2 اتفقت حكومةُ الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان على تنفيذ اتفاقية السلام الشامل طبقاً لتسلسلاتٍ زمنية محدّدة شملت ثلاث فترات: الفترة قبل الانتقالية، ثم الفترة الانتقالية، وفترة ثالثة تلي الاستفتاء. وقد نصّت اتفاقية السلام الشامل على أن تبدأ الفترة قبل الانتقالية عند توقيع الاتفاقية، أي في يوم 9 يناير عام 2005. وحدّد بروتوكول مشاكوس مدة هذه الفترة بستة أشهر، وعدّد المهام التي اتفق الطرفان على إتمامها خلال تلك الفترة. وشملت تلك المهام إنشاء المؤسسات والآليات المنصوص عليها في اتفاقية السلام الشامل، ووضع إطارٍ دستوريٍ لاتفاقية السلام الشامل. وتبدأ الفترة الانتقالية بعد ذلك مباشرةً، أي في 9 يوليو عام 2005، وتستمر لمدة ستِّ سنوات، أي حتى 9 يوليو عام 2011. كما اتفق الطرفان على عقد الاستفتاء في 9 يناير عام 2011، وأن تكون الستة أشهر الأخيرة من الفترة الانتقالية التي تلي الاستفتاء هي فترة انتقالية أخرى لتنفيذ نتائج الاستفتاء، وحسم المسائل العالقة إذا اختار الجنوبُ الانفصالَ. 3 كانت وفودُ المقدّمة للحركة الشعبية قد بدأتْ في الوصول إلى الخرطوم في نهاية يناير عام 2005، بعد أقل من شهر من توقيع اتفاقية السلام الشامل. وقد تمّ تشكيل فريق العمل الوطني الانتقالي المشترك من عددٍ من قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية للبدء في العمل معاً في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل. بعد أسابيع قلائل من إجازة الدستور في 9 يوليو عام 2005 تشكّل المجلس الوطني من 450 عضواً. نال حزب المؤتمر الوطني 234 مقعداً منها، وحصلت الحركة الشعبية على 126 مقعداً، وتمّ تخصيص 55 مقعداً للأحزاب الشمالية الأخرى (نال التجمّع الوطني الديمقراطي 16 مقعداً منها)، ونالت الأحزاب الجنوبية الأخرى 27 مقعداً، بينما ملأت المقاعدَ الثمانية الباقية ما تمّت تسميته "شخصيات وطنية." وقد مُلِئتْ كل المقاعد بالتعيين. ويُلاحظ أن عددَ أعضاء المجلس الوطني فاقَ عددَ أعضاء مجلس النواب الأمريكي المكوّن من 435 عضواً، عِلماً بأن سكان الولايات المتحدة الأمريكية كان يساوي حوالي ثمانية أضعاف سكان السودان عام 2005 (310 مليون في الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل 39 مليون في السودان). بالإضافة إلى المجلس الوطني، فقد أنشأ الدستور سلطةً تشريعيةً أخرى أسماها مجلس الولايات الذي يتكوّن من ممثلين اثنين لكلٍ من ولايات السودان البالغ عددها في ذلك الوقت 26 ولاية (16 في الشمال، و 10 في الجنوب)، بالإضافة إلى ممثلين اثنين لمنطقة أبيي. 4 لكن حتى قبل أن يبدأ شهر العسل في الخرطوم، بل حتى قبل أن يباشر دكتور قرنق مهامه كنائبٍ أول لرئيس الجمهورية، بدأت الخلافات بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية في البروز والازدياد. أوضح جانبُ الحركة الشعبية لقيادته أن هناك خلافاتٍ حادة في الوزارات التي ستؤول إلى الحركة الشعبية. كانت الحركة الشعبية ترى أنه يتوجّب أن تؤول إلى الحركة وزارة النفط، أو وزارة المالية، بسبب أن حوالي 75% من نفط السودان يأتي من الجنوب. ورغم معقولية هذا الطلب، فقد رفضه حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي أصرّ على أن تؤول إليه الوزارتين باعتبار أنه الشريك الأكبر في الحكم. كان ذلك الموقف يمثّل قصرَ نظرٍ كبيرٍ من الحزب الحاكم. فما هو الجاذب في الوحدة التي تأخذ نصف نفط الجنوب، ثم ترفض أن تعطي أيَّ دورٍ في إدارته وإدارة عائداته إلى ممثلي جنوب السودان؟ أجّل ذلك الخلاف تكوين الحكومة لبعض الوقت. وقد وافقتْ الحركة الشعبية في نهاية شهر سبتمبر على ترك الوزارتين للمؤتمر الوطني، ولكن تعليقات قيادة الحركة أشارت إلى أن هذا الوضع سينتهي بنهاية الفترة الانتقالية. وإذا كانت الحركة الشعبية تبحث عن مبرراتٍ للانفصال، فقد أعطاها هذا الإصرار والعناد من المؤتمر الوطني على أخذ الوزارتين اللتين تعتمدان على نفط الجنوب إحدى تلك المبررات القوية للانفصال. 5 وقد كان تصريح السيد سلفا كير، الذي خلف الدكتور قرنق في بداية أغسطس عام 2005، مؤشراً قوياً على ذلك. فقد صرّح السيد سلفا كير أن الحركة الشعبية لن تعود للحرب بغرض الحصول على واحدٍ من هذين المنصبين الوزاريين لأن الزمن في صالحها. كان ذلك التصريح دليلاً قوياً على أن الحركة ترى أن مسألة أيلولة نفط جنوب السودان، وأيلولة إدارة العائدات المالية من النفط للحركة، هما مسألتا زمنٍ فقط، لا أكثر ولا أقل. 6 في بداية نوفمبر عام 2005، أي بعد أقل من أربعة أشهر من بدء الفترة الانتقالية، وحوالي الثلاثة أشهر من خلافته الدكتور جون قرنق، زار السيد سلفا كير الولايات المتحدة الأمريكية. كانت تلك أولَ رحلةٍ له خارج السودان بعد أن تمّ اختياره لخلافة الدكتور جون قرنق إثر مقتل الأخير في حادث تحطّم الطائرة اليوغندية في 30 يوليو عام 2005. التقى السيد سلفا كير عصر يوم الأحد 6 نوفمبر عام 2005 بحشدٍ كبيرٍ من السودانيين الجنوبيين والشماليين في قاعة الاجتماعات الكبرى بالجامعة الأمريكية بواشنطن. كان ذلك أولَ لقاءٍ جماهيريٍ له منذ توليه السلطة قبل ثلاثة أشهر. ويبدو أن قيادة الحركة قد أعدّت عدّتها لهذا اللقاء لعلمها بأهميته. فهو الأول لرئيسها الجديد، ومن أهم المحطات في العالم للحركة ولحكومة الإنقاذ، وللسودانيين عامةً. قال النائب الأول في بداية اللقاء إنه التقى الرئيس الامريكي جورج بوش قبل يومين، وقد أهداه القبعة السوداء التي كان يرتديها، وإن الرئيس بوش قال له في بداية اللقاء إنه (أي سلفا كير) يحمل عدّة القاب، وسأله عن اللقب الذي يودّ أن يُخاطب به: "هل تريدني أن أشير اليك بلقب النائب الأول لرئيس جمهورية السودان، أم رئيس حكومة جنوب السودان، أم رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان؟" صمت السيد سلفا كير لعدّةِ ثواني (وكأنه أراد من الحضور التفكير في الإجابة)، ثم أردف قائلاً "لقد طلبتُ من الرئيس بوش أن يناديني بلقب رئيس حكومة جنوب السودان، فتلك هي الوظيفة، وذلك هو اللقب الذي أفضّله." لا بُدّ أن تلك الإجابة قد أسعدت عدداً كبيراً من الجنوبيين الذين قرّروا أن الانفصال سيكون خيارهم في نهاية الفترة الانتقالية. لكن الشماليين الذين أتوا ليسمعوا حديثاً عن السودان الجديد، والوحدة الجاذبة، أحسّوا بإحباطٍ شديد وهيأوا أنفسهم لمزيدٍ من مثل تلك الإفادات. 7 تحدّث السيد سلفا كير عن اتفاقية السلام الشامل والبروتوكولات التي تضمّنتها، وأمضى بعد ذلك جلَّ الوقت يعدّد الخلافات التي تفجّرت بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني منذ بداية الفترة الانتقالية في يوليو عام 2005. شدّد السيد سلفا كير على أن رفض المؤتمر الوطني لقرار خبراء مفوضيّة حدود أبيي، والذي تمّ تقديمه لمؤسسة رئاسة الجمهورية (رئيس الجمهورية ونائبيه) في 14 يوليو عام 2005، هو أول خرقٍ لاتفاقية السلام، وأكّد أن الحركة تعتبر ذلك بدايةً سيئة للفترة الانتقالية. تعرّض بالشرح لبروتوكول أبيي، وأوضح لماذا تصرُّ الحركةُ على ترسيم منطقة أبيي حسب قرار خبراء المفوضية. 8 تحدّث بعد ذلك عن الخلافات حول توزيع حقائب الوزارة بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وأوضح أن رفض حزب المؤتمر الوطني تخصيص وزارة المالية أو وزارة النفط للحركة يعني ببساطة أن المؤتمر الوطني يريد أن يُخفي الأرقام الحقيقية لعائدات النفط ويواصل سيطرته على بترول الجنوب، وخداعه للحركة الشعبية، ولمواطني جنوب السودان. وجّه السؤالَ الأولَ للسيد سلفا كير شابٌ جنوبيٌ كان الغضب بادياً من صوته وارتعاش يديه. سأل ذلك الشاب: لماذا قبلتْ الحركةُ الشعبية التنازلَ عن نصف عائد بترول الجنوب للشمال، في الوقت الذي يحتاج فيه الجنوب لكل دولارٍ لبناء مدارسه، ومستشفياته، وطرقه، وقراه التي دمّرها الشمال بلا رحمةٍ خلال الحرب؟ أجابه السيد سلفا كير بهدوء: "لقد أعطينا الشمال خمسين في المائة من نفطنا مقابل حق تقرير المصير. لقد كانت تلك صفقةً مع حزب المؤتمر الوطني. إنها صفقة النفط مقابل حق تقرير المصير. لقد اشترينا حق تقرير المصير بنصف نفطنا لمدة ستة أعوام. إذا كنتَ تريد أن يذهب كلُّ عائد نفط الجنوب للجنوب فعليك أن تعود إلى جوبا غداً وتبدأ العمل ليقود استفتاء تقرير المصير إلى الاستقلال. سيعطينا الاستقلالُ كلَّ نفطنا." 9 حبس الشماليون الذين بقوا في القاعة حتى تلك اللحظة (وكنتُ واحداً منهم) أنفاسَهم وابتدأوا في تهيئة أنفسهم لمزيدٍ من القنابل الحارقة. أتت الطعنة الثالثة من خلال سؤالٍ عن الحدود بين الشمال والجنوب، ومتى سوف يبدأ ترسيمها. أجاب السيد سلفا كير بأن الشمال ظلّ يزحف بحدوده جنوباً منذ عام 1955، وأنّه ضمّ، خلال الخمسين عاماً الماضية، عشرات الآلاف من الكيلومترات من أراضي الجنوب للشمال، بما في ذلك مناطق جنوبية غنيّة بالبترول والمعادن الأخرى. وأضاف السيد سلفا كير في سخريةٍ جارحة "إذا استمر هذا الوضع لعشر سنواتٍ أخرى فستكون الحدود بين الشمال والجنوب هي حدود السودان مع كينيا ويوغندا الآن." 10 بالنسبة لي، ولمجموعةٍ أخرى من الشماليين، فإن ذلك اللقاء قد بدّد أيَّ شكٍ في توجّه الحركة الشعبية نحو الانفصال. لم يكن السيد سلفا كير يحتاج أن يكون أكثر وضوحاً، أو أقلَّ دبلوماسيةً، ليكشف للحاضرين، شماليين وجنوبيين، عما يدور في ذهنه وذهن قادة الحركة الشعبية الآخرين. أصبح الحديث عن السودان الجديد والوحدة الجاذبة بعد إفادات واشنطن تلك نكراناً لا معنى له. بل لقد كانت تلك الإفادات في رأيي هي البرنامج العام للحركة الشعبية خلال الفترة الانتقالية. أصبحت مسألة اقتسام عائدات نفط الجنوب، والنزاع في المناطق الحدودية بين الجنوب والشمال، بما في ذلك نزاع أبيي، والخلافات الأخرى مع حزب المؤتمر الوطني، أسباباً قوية في نظر الحركة الشعبية للتخلّص من أيِّ التزامٍ قانونيٍ أو أخلاقيٍ أو سياسيٍ أو تاريخيٍ لما تبقّى من مسألة السودان الجديد والوحدة الجاذبة. 11 تواصل بروز الخلافات بين الطرفين حول النفط. ورغم أن مفوضية البترول كانت قد تشكّلت إلا أنها وُلِدت ميتةً ولم تضع لوائح لأداء مهامها، أو جدولاً زمنياً لاجتماعاتها. ونتيجةً لهذا الوضع بدأ كلٌ من طرفي اتفاقية نيفاشا في التعاقد مع شركات البترول العالمية بمفرده، ودون علم الآخر. وبدأ كلٌ من الطرفين في الشكوى أن الطرف الآخر قد نقض اتفاقية السلام الشامل بذلك التعاقد. ثم برزت خلافاتٌ جديدة تركّزت حول العائد الحقيقي لمبيعات نفط الجنوب. فقد أوردت تقارير دولية من منظمة الشاهد الدولي (غلوبال ويتنيس) عام 2009 أن الحكومة السودانية أعطت أرقاماً أقلّ بكثيرٍ من الأرقام الحقيقية لعائدات النفط. أغضبتْ تلك التقارير الحركة الشعبية التي طالبت بمراجعة مستقلّة لمبيعات وعائدات النفط منذ عام 2005، وبدفعِ فروقات مستحقاتها منذ ذلك التاريخ. وزاد ذلك الوضع من تعقيد وارتباك العلاقة بين الطرفين. كان غريباً أن يفشل قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم في إدراك أن مشاكل النفط المتزايدة ستكون حافزاً قوياً لأبناء الجنوب لكي يصوّتوا من أجل الانفصال، ليكون نفطُ الجنوبِ تحتَ كاملِ سيطرتهم، وتكون كلُ عائدات نفط جنوب حقّاً مطلقاً لهم. 12 في تلك الأثناء تصاعد الخلاف حول منطقة أبيي، وزاد الوضعُ المتأزّم في المنطقة من نيران الخلافات بين الطرفين. اندلع القتال في مدينة أبيي في مايو عام 2008 بين القوات الحكومية وقوات الجيش الشعبي إثر مشادةٍ بين مواطنين من قبيلة دينكا نقوك وبعض جنود الجيش السوداني. أوضحت الأمم المتحدة أنه بعد ثلاثة أيامٍ من القتال فَقَدَ أكثرُ من مائة شخصٍ أرواحَهم، وفرّ أكثر من ثلاثين ألف شخص من مدينة أبيي، وأكثر من عشرين ألف من القرى المجاورة، وتمّ تدمير المدينة تدميراً كاملاً. كانت تلك أولَّ مرّةٍ ينطلق فيها الرصاص بين الطرفين منذ التوقيع على اتفاقية السلام في 9 يناير عام 2005. أوضحت تلك المعارك هشاشةَ السلام وعمق الخلافات، وأيقظت الطرفين على خطورة الموقف. كما أن خطورة الوضع في السودان تأكّدت للدول والمنظمات التي وقّعت كشهودٍ على اتفاقية السلام. قرّرت هذه الدول الضغط على الطرفين للرجوع إلى طاولة المفاوضات في قضية أبيي، وتم الاتفاق على إحالة الخلاف إلى محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي. كان إحالة الخلاف حول أبيي إلى محكمة التحكيم الدائمة مؤشراً واضحاً لفشل الشراكة ونظرية الوحدة الجاذبة، ودليلاً قوياً على أن الحركة الشعبية وحكومتها في الجنوب قد أصبحت حكومةً كاملة، تقف في ندّيةٍ تامةٍ مع شريكها في الشمال أمام المحاكم الدولية. كما كان واضحاً أيضاً أن نفط أبيي هو أحد أسباب تعقيد القضية. 13 بعد أسابيع قليلة من صدور قرار محكمة التحكيم الدائمة حول أبيي، بدأ الطرفان النقاش حول قانون استفتاء جنوب السودان، وقانون استفتاء أبيي. وفي 31 ديسمبر من عام 2009، أي بعد خمسة أشهر من قرار محكمة التحكيم الدائمة، صدر القانونان. أتى إصدار قانون استفتاء جنوب السودان متأخراً عامين ونصف من التاريخ الذي حدّدته اتفاقية السلام، وتضمّنه الدستور. فقد ألزمتْ المادة 220 من الدستور الهيئة التشريعية القومية بإصدار قانون استفتاء جنوب السـودان في بداية السنة الثالثة للفترة الانتقالية (أي في يوليو عام 2007). كما ألزمت نفس المادة من الدستور رئاسة الجمهورية، عند إصدار قانون استفتاء جنوب السودان، بإنشاء مفوضية استفتاء جنوب السودان. كان واضحاً أن المشاكل والقضايا الكثيرة المعقّدة والمعلّقة والمتزايدة بين الطرفين قد ساهمت في هذا التأخير. 14 وقد ساهمت في التأخير أيضاً خلافاتٌ حول مضمون القانون نفسه. فقد اختلف الطرفان في نسب تصويت الناخبين المسجّلين التي تجعل الاستفتاء ونتائجه قانونيةً. أصرّ حزب المؤتمر الوطني على تصويت 75% من الناخبين المسجّلين في جنوب السودان ليكون الاستفتاء قانونياً، وعلى تصويت 60% من هذه النسبة للانفصال لتكون النتيجة مقبولةً قانونياً. من الجانب الآخر رأت الحركة الشعبية أن الأغلبية العادية (50% زائد واحد) هي المطلوبة في الحالتين. كان غريباً أن تكون اتفاقية السلام الشامل بكل ملاحقها وتفاصيلها الدقيقة، وصفحاتها التي زادتْ عن المائة والخمسين، صامتةً عن هاتين القضيتين الجوهريتين. بعد شدٍّ وجذب ونقاشٍ دام أكثر من شهر، اتفق الطرفان على مشاركة 60% من الناخبين المسجلين في التصويت ليكون الاستفتاء قانونياً، وعلى الأغلبية العادية (50% زائد واحد) لتكون نتائجه مقبولةً قانونياً. 15 عدّدت المادة 67 من قانون الاستفتاء عشر قضايا ليتمَّ حسمها بين الطرفين في فترة ما بعد الاستفتاء، في حالة صوّت شعب جنوب السودان للانفصال. وهذه القضايا هي: الجنسية، العملة، الخدمة المدنية، وضع الوحدات المشتركة المدمجة، الاتفاقيات الدولية، الديون والأصول، النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره، عقود النفط والمسائل البيئية، موارد المياه، والممتلكات. بالإضافة إلى هذه القضايا، فقد كانت هناك نزاعاتُ الحدود بين الشمال والجنوب، وكذلك بالطبع مشكلة أبيي. وهكذا وضح أن الخلافات المتعلّقة بمسائل النفط بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية قد تجاوزت وتعدّت الفترة الانتقالية. 16 وقد سافر السيد رئيس الجمهورية إلى جوبا في بداية ديسمبر عام 2010 وخاطب الجنوبيين عارضاً عليهم التصويت للوحدة مقابل أن يحصلوا على كاملِ نفطِ الجنوب. ويبدو أن قيادة المؤتمر الوطني كانت قد بدأتْ في تفهّم الدور الخطير للنفط في مستقبل السودان ووحدته. ولكن ذلك العرض كان متأخّراً وقليلاً، وقابله الجنوبيون بالكثير من البرود. فقد كان الجنوبيون يعرفون أنهم إذا صوّتوا للانفصال (كما هو مُتوقّع) فسوف يحصلون على كاملِ نفطِهم، فما هو إذاً الحافز الإضافي لهم في ذلك العرض في مسألة النفط ليجعلهم يصوتون للوحدة؟ على كلٍ فمن الواضح أن الجنوبيين سيفضّلون الحصول على كلِّ نفطهم من خلال الاستفتاء والانفصال كحقٍ، بدلاً من أن يحصلوا عليه كمنحةٍ وتفضّلٍ من الشمال في حالة تصويتهم للوحدة. 17 رغم تلك الخلافات الحادّة فقد جرى الاستفتاء في ميعاده في يوم الأحد 9 يناير 2011. بدأت آثار الصدمة تظهر في شمال السودان، خاصةً في أوساط حزب المؤتمر الوطني الحاكم، عندما بدأت النتائج الأوليّة في الظهور. لكنّ الصدمةَ كانت قاسيةً عندما تمّ إعلان نتيجة الاستفتاء الأولية الكاملة في 25 يناير، وعندما أكّدت مفوضية الاستفتاء النتائج رسمياً في 7 فبراير عام 2011. أظهرت تلك النتائج مشاركة 97% من الناخبين الذين سجّلوا أسماءهم في الاستفتاء. وحسمت هذه النسبة الجدل حول قانونية الاستفتاء نفسه، والتي كانت تحتاج إلى مشاركة 60% من الناخبين المسجلين حسب قانون الاستفتاء. وأوضحت النتائج أن 98.83% من الناخبين صوّتوا لصالح الانفصال. كانت لغةُ الأرقام أوضحَ، فقد أدلى 3,851,994 مواطناً جنوبياً بأصواتهم، وصوّت 3,792,518 منهم لصالح الانفصال، بينما صوّت 44,888 فقط لصالح الوحدة. كان التصويت لصالح الانفصال أشبه وأقرب إلى الإجماع. 18 وهكذا أصبح السودان في 9 يوليو عام 2011 (وما يزال) القطرَ الوحيدَ في العالم الذي انشطر إلى دولتين منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وفَقَدَ السودانُ بذلك صفةَ أنه أكبر دولةٍ في أفريقيا والعالم العربي، وفَقَدَ ربعَ أراضيه وخمسَ سكانه، و75% من نفطه، وقدراً كبيراً من مياهه. لعبتْ لعنةُ المواردِ دورَها كاملاً في تلك النتيجة، كما أوضحنا في هذه المقالات الثلاثة. وكان النفطُ هو الحافز الأكبر للجنوبيين للانفصال، لكي ينالوا موردَهم كاملاً، وكحقٍّ عبر الاستفتاء، وليس كمنحةٍ من حكومة الإنقاذ. وقد أصبح النفطُ بدورِه أحدَ الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية الدائرة الآن في جنوب السودان. إنها لعنةُ المواردِ في أبلغِ تعبيراتِها. 19 تُرى هل سيتمُّ استنساخُ لعنةِ الموارد في السودان من النفط إلى معدنِ الذهب في ولاية دارفور، والذي تسارعتْ الأحداثُ وبرزتُ الكثيرُ من المعلوماتِ حوله في الأسابيعِ الماضية، خصوصاً في منطقة جبل عامر في الولاية؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة