|
لدارفور علينا حق
|
يضغط عليّ بعض الأصدقاء وتضغط عليّ الأحداث ، حتى أكتب شيئا عن المدينة التي “خلقت” فيها علي رأي أخواتنا اللبنانيين. نحن نستغرب في السودان استخدام كلمة “خلق” في هذا الموضع ، لا أعرف لماذا؟ . . ولكن حقا ما الفرق بين الولادة والخلق؟ . . ولدت أو “خلقت” في مدينة الفاشر .. وقتها كانت هي عاصمة ما عرف بمديرية دارفور : الأرض التي قامت عليها سلطنة الفور وحاضرة أو “فاشر” آخر السلاطين علي دينار. والفور ليسوا اكبر قبائل الغرب ولكنهم بلا أدنى شك من أقدرها على ممارسة فن الحكم ، ولا أريد بذلك أن اغضب آخرين فكل أهل الغرب يتميزون بقدر عال من النخوة وعزة النفس والانضباط ، الذي أتاح لهم شكلا إداريا اتخذ أسماء كبرى القبائل لكنه احتوى قبائل أخرى صغيرة وهو نفس الشكل الإداري الذي بنى عليه الإنجليز نظامهم منذ إسقاط آخر حصن مستقل ، وضمه إلى السودان الذي عرفناه بحدوده التي رفع الراحلان الكبيران إسماعيل الأزهري ومحمد أحمد محجوب علم استقلاله عام 1956 ، ذلك الشكل الإداري الذي استند على زعماء كان همهم، خلق أجواء التعايش والتمازج والانصهار بين القبائل ، فأوجدوا صيغة رائعة لحل الخلافات والاحتكا! كات، والقضاء على بؤر الفتنة قبل أن تستفحل.أقول ذلك وأنا أقف مشدوها أمام هول ما يحدث في تلك الأرض الطيبة الحاضنة ، وأنا لا ألقي القول على عواهنه خاصة وأنا - وأحسب أن هناك الكثيرين - أمثل حالة، إن لم أقل شهادة ، بأن ما يحدث الآن ليس من طبع هذا المكان ولا أهله. .أخوالي ، كما سمعت من حكايات أمي - رحمها الله - وأهلها ، وجدوا في تلك الأرض الطيبة ملاذا ، بعد سقوط سلطنة وداي ، (سياد الراي) كما كانت تصر على نعتهم وهي تفاخر بالانتماء إليهم ، وأعمامي كما حكى لي والدي - رحمه الله - جاءوا إليها تجارا من الشام ، سلكوا درب الأربعين وغير درب الأربعين اليها، فاغتنوا من خيرها، ونعموا بكرم نظارها وشيوخها وناسها الخيرين . . أعادني إلى كل ذلك وذكّرني بما مضى حديث هاتفي قصير مع د. احمد إبراهيم دريج . . كم هائل من الصور داهمني ذاك المساء . من بينها بيان تناقله البعض بمدرسة الفاشر الثانوية، التي درست فيها ، في منتصف الستينيات عن منظمة أسمت نفسها (سوني) ، ومطالب أزعجت السلطة المركزية في الخرطوم .. وتردد اسم دريج على اعتبار انه هو الذي يقف وراءها. .مطالب أهل دارفور كانت ولم تزل ،عادلة، وكل من عاش تلك الف! ترة في مدينة الفاشر ،حاضرة المديرية، كان يدرك ذلك . . فمنذ أن نال السودان استقلاله ظلت المدينة وبقية المديرية على حالها وكما تركها الإنجليز . أكملنا الثانوية عام 1968 ونحن نقرأ بالفانوس ، والماء نجلبه بالخرج من “الدونكي” أو الآبار ومن “الفولة” لسقي الزرع وشرب الحيوان ، هذه كانت الحال في وقت كانت الخرطوم فيه غير الخرطوم الآن : النوافير والحدائق والمعامل والمصانع والجامعات والنوادي . . كانت باختصار مدينة لا تشبه الفاشر . . وللحقيقة أقول أنني أصبت بالصدمة الحضارية وأنا أنتقل اليها ، وعلى عكس ذلك لم اشعر بأن هناك اختلافا كبيرا بينها وبين أثينا، التي جئتها عام 1969 . . لكني صعقت عندما عدت إليها بعد 17 سنة قضيتها في اليونان، طيلة حكم جعفر النميري، لأني رأيت مدينة مشوهة قذرة، ناسها غير ناسها، فلعنت العسكر وحكمهم لمرة أخرى ، مع انهم قالوا لي : “احمد ربك انك جئت الآن ولم تأت قبل سقوط النميري ، فحالنا كانت أسوأ بكثير. .”وأعود إلى إخواننا اللبنانيين ، واقص عليكم ما حكيته لأستاذنا الكبير انطوان معوّض . . أثناء دراستي الوسطي بمدرسة الفاشر الأهلية ، اعتدنا كل يوم خميس على عقد أمسية أدبية بإشراف! إدارة المدرسة ، وأذكر أنى شاركت مع زميلي وقتها والشاعر والباحث المعروف الآن عالم عباس محمد نور . . هو اختار قصيدة شاعر المهجر ايليا أبو ماضي :وطن النجوم أنا هنا حدق ّ أتذكر من أنا أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا وأنا اخترت قصيدة لشاعر سوداني من مدينة الفاشر ، لبناني الأصل، هو اميل فواز ، وكانت عن الثورة الجزائرية، نشرت وقتها في صحيفة كردفان .فاز عالم باليا أبو ماضي، وجئت أنا بعده باميل فواز . . لبنان أيضا كانت هناك ، ولمن لا يذكر ، وللتاريخ أقول، أن المظاهرة الوحيدة التي تمكن المشاركون فيها من الوصول إلى علم المستعمر الإنجليزي وحرقه، شهدتها مدينة الفاشر، وكان اميل فواز - رحمه الله - مشاركا فيها بل وفي طليعتها.لدارفور وأهلها حق علينا إذن وواجب فلا تسكتوا على الظلم الذي حاق بها .
منصور شاشاتي
(الضفتان)
|
|
|
|
|
|