المبالغة والشطط والتطرف والغلو كلها مصطلحات دالة على حالة خروج الشيء أوالموضوع عن حالة التوازن والوسطية ، والتوازن بشكل مُطلق هو دلالة على العدل ، فطرفي الميزان حينما يتوسطا فهما يحققان حالة (التساوي) والعدالة في توزيع الثقل ، فلا تطغى بذلك كفةٌ على الكفةِ الأخرى ، والوسطية هي من شمائل وروح الإسلام والأدلة في ذلك كثيرة ولا تحتاج إلى كثير مجهود لإبانتها ، وما شاب التطرف والغُلو شئ إلى شانهُ وأزهق شكلهُ ومضمونه ثم أضاع أهدافه ، أقول هذا وأنا أتأمل في كثيرٍ من المسارات الثقافية التي تبدو في بلادنا تتخبط دون دليل ولا كابح ، وذلك إما لإنشغال الرواد في كافة أشكال الفنون الإبداعية عن رفد ساحاتها بخبراتهم وإهتمامهم بسبب مشغوليات الحياة وعدم إعتداد الدولة وأحياناً المجتمع بصورة نسبية بأهمية الفن والثقافة في بناء الدول والأمم ، وإما بسبب غياب الخطط الواضحة والمُسبقة التي تقود وتوِّجه الإنتاج الإبداعي والفني في شتى المجالات تجاه أهداف بعينها أهمها إعلاء فضيلة التجريب والتعلم والتجديد ، وطبعاً المسئولية على مستواها التخصصي في هذا المجال تمثلها وزارة الثقافة في المقام الأول ، هذه الوزارة التي طالما عانت من كونها وزارة (هامشية) في أنظار قياداتنا السياسية ، وكأنهم يؤيدون ما هو عكس المثل القائل (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) ، وبما أن الثقافة والفنون والإبداع لا تؤكل ولا تُستهلك إستهلاكاً محسوساً ومحسوب الثمن بالنسبة للدولة فإن وزارة الثقافة على ما يبدو ستظل وزارة يتقلدها المسئولين من باب (الترضيات والتسويات) السياسية ، وستظل الميزانية العامة للدولة في موقفها تجاه ضآلة ما يُخصص لوزارة الثقافة من إمكانيات مادية ولوجستية من شأنها أن تضع مخططاتها (التوجيهية) لقضايا الفن والإبداع والثقافة عموماً موضع التنفيذ الفعلي في واقعنا المُعاش ، فعلى سبيل المثال قد مثَّل فقدان مسيرة الاغنية السودانية والإنتاج الموسيقي عموماً في السودان خصوصاً في سنواته الأخيرة للدور التوجيهي والتفعيلي والتخطيطي الذي كان يُفترض أن تقوم به الوزارة لو توفرت لها الإمكانيات ، في معضلة دوران عجلة الغناء والموسيقى حالياً في (إجترار) ما تم إنجازه سابقاً من إبداعٍ وإنتاج ، كما تسبَّب ذلك أيضاً في إنتشار حالة التطرُف والغلو في إستحواز ما سُمي (بالمعالجات) التحديثية للمنتج التراثي والفلكلوري ، بالقدر الذي أقعد بحركة التجريب والتجديد التي كان مُقدراً لها أن تزدهر في غضون عصرٍ أصبح فيه أمر التلاقح والتأثير والتأثُّر متاحاً ويسيراً عبر ما طرأ على عالم الإتصالات والإعلام الإلكتروني من طفرة كبرى ، وما سبق ذكره عن الموسيقى يشمل أيضاً مشكلات الدراما بكل أنواعها في بلادنا ، فضلاً عن فنون إبداعية أخرى أهمها الفن التشكيلي والإستعراضي ، هل من مُتسائل في وزارة الثقافة عن تداعيات إنهيار فنون إبداعية كثيرة كانت مزدهرة في عصر سابق في بلادنا وكانت أيضاً محط أنظار المجتمع الأقليمي والدولي ؟ أين فرقة الإكروبات السودانية التي كانت الأولى على مستوى العالم العربي والقارة الإفريقية ؟ وأين الجديد في ما يتم إنتاجه من غناء وموسيقى ودراما ، ثم أين المواعين المُشجعة لإنتاج وتقديم وتطوير هذه الفنون (إن وُجدت) مثل المهرجانات الرسمية والرحلات الدبلوماسية الفنية والمسابقات النزيهة الخالية من شوائب المجاملة والتركيز على فئات وأشخاص مُعيَّنين دون غيرهم ؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة