|
كلام عابر) أفريكـــانر/عبدالله علقم
|
(كلام عابر) أفريكـــانر أنا من جيل وعي على كره المستوطنين الأوربيين في جنوب أفريقيا الذين كانوا ،ومازالوا، يتعالون على أهل الأرض منذ اليوم الذي أفرغت فيه أول سفينة تابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية حمولتها عام 1662م في شواطيء جنوب أفريقيا. كانت الحمولة التعيسة القادمة من قاع المجتمع والسجون مجموعة من المهاجرين الهولنديين المعروفين باسم البوير. في مطلع سنوات الستين من القرن الميلادي الماضي كان هناك عنبر في داخليتنا (عبدالله جماع) في مدرسة حنتوب الثانوية طيبة الذكر يحمل اسم البرت لوثيلي، وهو القس الأفريقي الذي ألف كتاب (دع قومي وشأنهم)، المناهض للتفرقة العنصرية، وحصد به جائزة نوبل. مستوطنو جنوب أفريقيا اليوم هم أبناء وأحفاد المهاجرين من هولندا بصفةرئيسة ومن بريطانيا وفرنسا وألمانيا واطلقوا على أنفسهم اسم الأفريكان واخترعوا لغة مشابهة للهولندية وممزوجة ببعض الكلمات الانجليزية والفرنسية والألمانية أسموها الأفريكانية، ومارسوا قمع واستغلال أهل الأرض وبلغ ذلك أقبح صوره في سياسة الفصل العنصري(الأبارثايد) التي استمرت من عام 1948 إلى 1990. أعتبرهم نموذجا قبيحا للإنسان.
وعلي كثرة تجولي في بلاد الله الواسعة، لم أشاهد بعيني رأسي واحدا من هؤلاء العنصريين في أي مكان زرته حتي ذلك اليوم الذي قدم إلى مجموعة الشركات التي أعمل فيها في مدينة الدمام واحد منهم. جاء ،مثلما يفعل كثيرون غيره من كل بقاع الدنيا، يعرض سلعته التي أسفرت عن قيام شركة جديدة بشراكة جنوب أفريقية يشارك هو في تأسيسها من مكتبه المجاور لمكتبي. أول مرة أشاهد شخصا من جنوب أفريقيا ذي أصل مختلف ولون بشرة مختلفة عن أكثر من اثنين وعشرين مليونا يشكلون أغلبية السكان واصحاب الأرض. لم استسغ الرجل(لله كدا)،رغم خطأ تكوين فكرة مسبقة عن الإنسان واتخاذ موقف مسبق منه، فشلت كل محاولاته للتقرب إليّ.لم تكن تلك المحاولات إعجابا بلون بشرتي بكل تأكيد، ولكن لأن جزءا كبير من عمله يتوقف على مساعدتي له أو مشاركتي فيه. لم تعجبني حكاياته عن جنوب أفريقيا،وتخوفه من المستقبل المجهول، وتكراره استخدام كلمة السود ليصف بها الأفارقة أحفاد الزولو والبانتو أهل الأرض. نبهته إلى أن كلمة "سود" وصف قبيح لاصحاب الديار. لما آنست فيه ذلك التعالي اللاإرادي الموروث في تخاطبه، قلت له ذات مرة لماذا لا تعودوا لبلدكم هولندا؟ فاكتفى بالصمت، ولم يرد على سؤالي الذي لم تخل لهجته من عدوانية.تملكتني رغبة ضاغطة في تصيد أي خطأ أو سوء تصرف منه.من السهل تصيد أخطاء البشر، فليس هناك إنسان لا يخطيء، وسرعان ما وجدت ضالتي، فجعلت من خطأ ارتكبه قضية كبيرة رغم أن الأمر بمجمله كان يمكن تجاوزه لو توفرت حسن النية، من جانبي. ابتسم رئيسنا في العمل الباكستاني الجنسية وأنا أشرح له وجهة نظري في الرجل وفي سلوكه،وقال إنه رغم قناعته بخطأ الرجل أو سوء تصرفه، فإنني أحاكم كل تاريخ البيض في جنوب أفريقيا في شخص ذلك الرجل، ثم أردف قائلا إن أصحاب الحق الأصلي، مانديلا ورفاقه قد تجاوزوا وعفوا وصفحوا، فلماذا أستدعي التاريخ في التعامل مع الحاضر؟ لم تكن كلماته تخلو من شيء من المعقولية، لكنها لم تفلح في إزالة الحاجز النفسي الكبير الذي يقف بيني وبين ذلك العنصري.
أكدت لي تلك التجربة القصيرة الخاطفة من التعامل مع رجل واحد منهم، أن مانديلا كان في قمة السمو البشري وهو يتعالى على الغضب والألم وأثقال التاريخ ويفتح صفحة جديدة للعيش في وطن واحد يتساوى فيه البشر. تجاوزوا تراكمات القرون وأنا لم أستطع أن أحتمل ذلك الافريكانر البغيض لأشهر قليلة.لا أعتقد أن الوضع سيبقى على مت هو عليه نفسه بعد أن رحل مانديلا،وسيعمد أهل الأرض لاسترداد كل حقوقهم التاريخية وعلى رأسها أرض الأجداد، بأي وسيلة، فتلك عدالة التاريخ. من جهة ثانية، كثير من الأفريكانرز على استعداد للرحيل أو أن بعضهم قد رحل بالفعل،لا يثقلهم ولا يشدهم ولاء لأرض لم تكن أرضا لأجدادهم في يوم من الأيام.نموذجهم يختلف عن العنصرية الإسرائيلية التي يجد دعاتها سندا تاريخيا ودينيا لها.
مستوطنو جنوب أفريقيا أتت بهم سفن مشرعة في سنوات مضت،وستقلع بهم،أو بمعظمهم، نفس السفن المشرعة أو السابحات في الهواء في أيام قادمة،حاملين معهم ما نهبوه وما نهبه أجدادهم من تلك الديار. بل ربما يندلع العنف الذي تخوف منه وتنبأ به قبل نصف قرن من الزمان الكاتب ألان باتون مؤلف كتاب "ابك يا بلدي الحبيب" وأحد شرفاء الأفريكانر القلائل، ربما يندلع العنف الذي قضي على مظاهر الرفاه والتقدم الكاذب في جنوب أفريقيا، إذا لم تتسارع خطوات القضاء على الفصل العنصري ممارسة وثقافة وإذا لم تسترد كل الأرض. بعض غلاة الأفريكانرز يقولون إنهم لم يستعمروا هذه الأرض ولكنهم بنوها. صحيح أنهم بنوها لتصبح من أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم وتتميز على كل أفريقيا، لكنهم بنوها بدماء أهلها الذين ما زال معظمهم يعيش على الهامش، ولا يعني لهم هذا التطور والبنايات الشاهقة الكثير. لخص مواطن جنوب أفريقي الحال بقوله " لا بد لنا أن نسترد كل أراضي أجدادنا، وبعد ذلك يمكنهم العيش معنا إن أرادوا، ولكن وفقا لقوانين هذا البلد". وهي كلمات قد تكون معبرة عن حال الأغلبية.
لا يمكن استنساخ مانديلا جديد، ويبدو أن جنوب أفريقيا على أعتاب دورة جديدة للتاريخ. (عبدالله علقم) [email protected]
|
|
|
|
|
|