كانت الحياة رغيدة وسهلة، والبنات بهيجات يتغنين للكومر ولهيئة التدريس، وللدبلوماسي الطلبو قاسي..كانت النساء يغنين للنظام السياسي، لأنه كان يوفر الكراسات والكتب والأقلام والأحبار وصُباعات التلوين. كانت هناك حصص للرسم وللأعمال، لم تزل عالقة في الذهن. كان بالمدارس نشاط لجمعيات أدبية، ورحلات و ابتكارات خيال. ذات صباح ونحن في الصف الثالث إبتدائي، أوقفنا مُعلِّم التاريخ في صف طويل وقال إن (آفة الأخبار رُواتها).. لم يقلها بهذا التقييد اللفظي، فقد كان بارِعاً في توصيل مقصده بعبارات بسيطة. أبلغَ الأُستاذ عقولنا، أن الناس تسمع الكلام، وتزيد عليهو وتنقِّص منّو . ولتبيان ذلك عملياً، وسوس الأُستاذ في أُذُن الواقف في أول الصف بكلام مقتضب، طلب منه أن ينقل ما سمع، إلى أُذُن جاره، ليقوله الآخر، حتى تصل (الوسوسة) الى آخر واحِد في الصف.عندما انتهت الوسوسة المُتناقَلة، عقد الأُستاذ مقارنة بين ما قال به للأول، وبين ما أفضى به الناقل الأخير. عقدت الدهشة عقولنا، إذ لا علاقة بين ما قاله في البداية، وما حذفت وأضافت الألسُن التي الكلام!كل كلام غير مدون لا يخلو من الحذف والإضافة.. وحتى الكلام المدوَّن لا يسلم من التأويل.ترى، هل هناك حصة من حصص هذا الزمان، تعلق في أذهان أولاد المدارس؟كانت لَمبة (النّقتود) هي معلمتنا الجليلة، التي نذاكر بها الدروس. وشِن طعم الدروس إذا كان جاز اللّمبة، هو الجازولين ذو الدّخاخين؟ قال شاعر تلك الأيام:( أكان اللّمبَة قالتْ بقْ، تبقى اللّمبة دايرة الدّقْ).. بهذه الكلمات ذاع صيت الفنان صديق أحمد التاجر في سبعينيات القرن الماضي..لا أظن أن الفنان صديق، أو أي فنان آخر، يمكن أن يتغنى الآن بمثل هذه (البقبقة) بعد الذي جرى من تطورات هائلة في حياتنا.. أذكر تلك الحكاية، كأنّها حدثت بالأمس، وأذكر اللّمبة التي كانت شعار العشاق المُدنفين: (ديك اللّمبة، كل ما تبِق هاكِي غيرا، وبلداً فيها إنتي، إن شاء الله بي خيرا.. أكان تاجوج بِقت بالرتبة مشهورة، إنت فوق تاجوج يمين زادوكي دبّورة .. وعشان كِدا، كم قلوب تابعاكي مجبورة ، يا نورا)!تذكرت تلك البقبقة بحنين دافق الى أيام الصِّبا، وقارنت بين سذاجتنا تلك، وحالنا الراهن مع انقطاع التيار الكهربائي. قارنت بين النّقتود والإنترنت، بين حصّة الرَّسم وشحن الرصيد! تذكرت صديق أحمد صاحب الصوت الكورالي، وتذكرت باقة الفنانين الرائعين، الذين كانوا يملأون الساحة بالجمال.. أسماء لا حصر لها، وردي ، عثمان حسين ، مصطفى سيد أحمد ، كان لكل واحد منهم إنتاجه ولونيته الخاصة. قارنت بين أولئك العمالقة، وبين خيارات رجل مُعتّق مثل السر أحمد قدور الذي شاء أن يكون مشرفاً على كورجة من المقلدين.. تأملت تحديداً في الفنان صاحِب الصنائع السبع.. تذكرت هذا وتتبّعت مسيرتنا الفنية والرياضية والسياسية، وتذكرت عطالة الخريجين... تذكرت كل هذا وتساءلت، كيف أننا أدمّنا التقليد، ولم نأت – كأجيال وأجيال - لم نأت بجديد!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة